الاثنين ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم محمد نادر زعيتر

ســــل: ما لســلمى!

وقد أبعـدوني عن حـبيب أحـبه

فأصبحت في قفر عن الأنس نازحِ

"عنترة"

من هو أبو سلمى؟
في الخمسين من عمره تقريباً...رجل يعرّف نفسه باسم "أبو سلمى"، عاد إلى وطنه من بلد أجنبي ومعه زوجته وطفل.في شارع معين من المدينة اشترى بيتاً... وفي نفس الشارع اقتنى محلاً لبيع ألعاب الأطفال، وسمى المحل باسم "محل سلمى".
لا يعرف "أبو سلمى" سوى القلائل من أهل البلد...كان يردد اسم "سلمى" كثيراً، وكان في حقيبته الشخصية صورتان لطفلتين عمر كل منهما ثلاث سنوات كتب على ظهرها اسم "سلمى".

وعلى واجهة محله من الداخل وضع صورتي الطفلتين مجسّمتين، وكتب تحتها بيت الشعر:

سل ما لسلمى بنار البعد تكويني

وحبها في الحشا من قبل تكويني

كان ينظر إلى الصورتين في حقيبته فيقبلهما "حبيبتي سلمى"... "حبيبتي سلمى"...كان موضع استغراب أهل الحي:

من هذا ذو الخمسين عاماً، له لحية كالأجانب، يلبس الجينز، حاله ينبيء عن وفرة مادية لديه.

إنه غريب الزي، ولسانه ثقيل، ويدعى "أبو سلمى"...

ما هي التساؤلات؟

ما قصة الصورة؟ من هي سلمى؟

أين كان "أبو سلمى"؟

وأبو سلمى رجل محبوب، كريم، يحب الأطفال، وكان يعطي بعضهم ألعاباً مجاناً، وكان ينادي بعض الأولاد من أهل الحي ويعطيهم الألعاب وأحياناً بعض المال! لكن الأولاد هؤلاء كانوا مدللين جداً جداً...

ما هو أصل القصة؟ ما هي قصة "أبو سلمى" و "سلمى" والأولاد المدللين...؟

منذ خمسة وعشرين عاماً كان "أبو سلمى" اسمه "أبو أحمد" كون اسم والده أحمد، وذلك حسب العادات والتقاليد. تزوّج "صباح" بنت عمه، وأنجب منها بنتاً إذ كان عمره خمسة وعشرين عاماً...وحصلت مشاجرة في القرية بين عشيرته وعشيرة أخرى...وكان "أبو أحمد" من شباب العشيرة الأشداء...وقد اعتدى شاب من العشيرة الأخرى على والده بالضرب والإهانة ويقضي الواجب العشائري أن ينتقم لوالده، وإلا عاش ذليلاً مذموماً في القرية.
وفعلاً صمّم على قتل المعتدي على والده أخذاً بالثأر...وذات يوم تربص "أبو أحمد" بذلك الشاب في موضع من الطريق المؤدي للقرية، وكمن له... وتصيده ببارودة صيد فقتله...
كيف هرب وسافر؟

هرب "أبو أحمد" من القرية إلى لبنان عبر حدود التهريب... وفي لبنان حيث لا يعلم أحد عنه شيئاً أخفى مكان إقامته...حصل على هوية لبنانية، ثم جواز سفر، وذلك باسم مستعار...وكان قصده أن يخرج من لبنان إلى بلد بعيد... ذلك لأن أهل القتيل يبحثون عنه ليقتلوه مقابل الشاب الذي أرداه "أبو أحمد" قتيلاً من عشيرتهم، وعلم بأنهم يبحثون عنه في سورية ولبنان، ويجدّون في البحث عنه...وفي هذه الأثناء أقيمت بحقه دعوى أمام محكمة الجنايات بجرم القتل العمد، وعقوبة هذه الجريمة إذا ثبتت الإعدام...

تمكن "أبو أحمد" ذو الاسـم المستعار الجـديد من الحصـول على تأشيرة خروج إلى كندا حيث يستقبل هذا البلد المهاجرين إليها بسهولة من أجل العمل. وقد كان لديه بعض المال الذي أسعفه في الحصول على الهوية اللبنانية ثم جواز السفر ثم تأشيرة الخروج.

كيف أقام في كندا؟

وغادر "أبو أحمد" لبنان بالطائرة إلى كندا...وفي كندا عمل في المزارع كونه خبيراً في الزراعة وشؤون الريف، عمل بإخلاص واجتهاد، وكسب مالاً وافراً.

كان أبو أحمد دائم التفكير والهاجس:

حبه لأهله... ماذا حلّ بهم بعد حادث القتل وهروبه؟ هل بقوا في القرية؟ هل تعرّضوا للأذى؟

حبه لقريته مسقط رأسه، ومثوى أجداده، وحب الوطن قتّال... إن القرية بالنسبة له هي الوطن الحميم.

ما هو مصير الدعوى الجنائية بحقه؟ وماذا حكم عليه فيما إذا صدر الحكم؟...
من هي سلمى؟

لم يكـن لديه من ذكرى عن الوطن والأهل سـوى صورة طفلـة

صغيرة عمرها ثلاث سنوات، كتب على ظهرها "سلمى" وتاريخ هذه الصورة. طفلة شقراء من الريف، شعر كثيف، وجه مدوّر، عينان كأنهما نقطتان من السواد اللمّاع... وبسمة بريئة على محيا هذه الطفلة...كانت سلمى هذه هي سلوى هذا الرجل الذي حصل على بطاقة مهاجر...وكان اسمه الذي اختاره في لبنان... بدل اسمه السابق هو راجي أبو سلمى، وهكذا صار ينادى بكنيته "أبو سلمى".

من هي سلمى الثانية؟

وتمضي خمس سنوات، ويتزوج راجي أبو سلمى من سكان كندا بنت صاحب المزرعة التي يعمل فيها.وبعد سنتين تولد له بنت سماها "سلمى"، وهكذا انطبقت كنيته "أبو سلمى" على الواقع... أصبح اسم البنت: سلمى بنت "أبو سلمى".

لا يوجد اتصال هاتفي بين "أبو سلمى" وأهله... المراسلات صعبة، البلد بعيد جداً، إنها في أقصى الأرض...ثم إن "أبو سلمى" يخاف على نفسه من الثأر، لذا فضّل أن يبقى مجهول المصير...وتصاعد حنين "أبو سلمى" للوطن والأهل وأخبارهم... من مات؟ من تزوج؟.وأكثـر من ذلك كان يدور في فكـره هاجس أعظـم من الوطـن والأهل، هاجس مقلق مسيطر على تفكيره... وينغّص حياته.

كيف حنّ أبو سلمى للوطن؟

إنه بالمختصر موضوع سلمى السورية، هذه الطفلة الحريص على صورتها، يقبلها دوماً، ويذرف الدموع على فراقها... ولم يروِ لأحد ما هي قصتها؟ ومن هي؟... حتى ولا لزوجته الكندية.

وما أن بلغت طفلته "الكندية" سلمى من العمر ثلاث سنوات حتى صورها واحتفظ بصورة لها إلى جانب صورة سلمى السورية التي في حقيبته، أي صار له ابنتان اسم كل منهما "سلمى".
أمضى "أبو سلمى" خمسة وعشرين عاماً في كندا... وحنينه للوطن والأهل كالنار المتأججة تكاد تفقده كل صبر واحتمال. وذات يوم... رأى حلماً مزعجاً، فقد رأى أن والدته توفيت وأن أخاً له مريض بالمرض العضال المؤدي إلى الموت حتماً...

كيف ظهرت فكرة العودة؟

ورأى في حلمه أيضاً عيني طفلة ترمقان إليه عن كثب والدموع تجري على وجنتيها، وكأنها ضالة مشردة تبحث عن أب فلا تجده..فرغ كل الصبر... وتهالك أمام الحنين القتّال للوطن والأهل...وتساءل في نفسه: ما المانع أن أعود إلى بلدي مع زوجتي وابنتي ومعي من المال ما يلزمني للسفر والمعيشة في بلدي بشكل لائق.لقد مضت خمس وعشرون سنة...فكرة الثأر يجب أن تكون قد خمدت، والحكم الجنائي مهما كان قد انتهى قانوناً بالتقادم لمرور أكثر من خمسة عشر عاماً على صدوره دون تنفيذ...بإمكانه أن يعود، وأن يعيش في أي مكان في بلده وبأي مهنة أو عمل.

ما هي كندا؟

في كندا: الإنسان كائن حي عامل فقط.

في كندا: لا يعرف أبو سلمى قريباً ولا صديقاً، حتى زوجته فهي من معدن مختلف، والعلاقة بينهما مادية في الأصل... وابنته سلمى لا تعرف العربية مثل أمها.

في كندا: لا يوجد دين، ولا أعياد، ولا مودة بين الناس.

في كندا: تموت أعوام وتولد أعوام، والعمر يمضي مع التاريخ... فلا يبقى إلا مجرد ذكرى اسمية...

في كندا: الإنسان بلا جوهر، بلا روح، وبلا حياة حقيقية، بلا قيم أصيلة، و"حياة بلا قيم غير جديرة بأن تعاش".

في كندا: عرف أبو سلمى قيمة التراب الوطني... ولغة الوطن... ولكنه لم يعرف أهله... بل عرف شوقه اللاهب تجاههم صغارهم وكبارهم... والذكرى قتالة تتصاعد وتتزايد مع الأيام. ولكن زوجته الكندية ترفض الذهاب مع "أبو سلمى" إلى سورية. وزوجته هذه أيضاً تمانع في أن يصطحب معه ابنته سلمى التي صار عمرها عشرين عاماً... لأنها من جنسية كندية وأمها أولى بها... ولأن سن الرشد القانوني هناك هو السن الحادية والعشرون...
كيف حقّق حلم العودة؟

اختار... ولكن الجذب نحو وطنه وأهله كان الأقوى...وحزم أمتعته... وتزود بالمال الكثير الذي جناه في كندا، وعاد وحيداً إلى وطنه وأهله...وصل العاصمة... وقريته تبعد عنها أربعين كيلو متراً... تردد في التوجه إلى القرية مباشرة... مخافة أن يعود موضوع الثأر القديم، وفضل أن يتقصى أخبار القرية وأهله ومصيرهم...

علم من بعض المعارف القدامى، وقد أصبحوا قلائل، أن والدته التحقت بوالده... وأن أخاه توفي بعدها بستة أشـهر... وأن أخته تزوجت وهي في مكان ما من دمشق ولا يعلم عنها شيء...إذاً لم يعد له أقارب مباشرون في القرية...وأهل القتيل لا يزالون يذكرون الثأر، ولم ينسوه بعد...إذاً فليبق في دمشق...

في دمشق دبّ فيه الحنين إلى ابنته سلمى الكندية... ما أصعب الفراق إذا لم يسعفه اتصال... وليس من إسعاف سوى أن يتطلع إلى صورتها إلى جانب صورة أخرى ذات الثلاث سنوات... ويتذكرهما... ويحترق بالذكرى...

الأصل السوري للقصة؟

ما هي قصة سلمى الأولى؟

كان أبو أحمد الذي صار فيما بعد أبو سلمى قد تزوج وعمره خمسة وعشرون عاماً من صبية من قريته، وهي مثقفة تحمل الشهادة الثانوية وعلى جانب من الجمال وهي ابنة عمه..تزوج بعقد عرفي على أمل أن يقوم بتثبيته عن طريق المحكمة الشرعية أصولاً، وتماهل في ذلك إلى أن ولدت له ابنة سماها "سلمى". "سلمى" طفلة محبوبة مدللة جميلة، هي كل الأمل والسعادة إلى قلب أبيها. لقد قام بتصويرها وعمرها ثلاث سنوات ليحتفظ بصورتها لديه...وبينما كانت معاملة تثبيت الزواج تأخذ مجراها...حدثت حادثة القتل... وكان القاتل هو "أبو أحمد"، وغاب أبو أحمد (الذي صار اسـمه فيما بعد أبو سلمى) عن البلد، وانقطعت أخباره نهائياً، ولم يعد يعرف ما إذا كان هو حياً أم ميتاً؟ وأين هو؟ توقفت المعاملة لأن الزوج غير موجود...
ما هو مصير سلمى وأمها؟

انقضت خمس سنوات و"أم سلمى" تنتظر "أبو أحمد" المجهول المصير...وجاء من يخطب أم سلمى وهو يعرف وضعها تماماً...وعرض على أم سلمى أن يجري معاملة تثبيت زواج باسمه، ويسجل الطفلة سلمى على اسمه كابنته في القيد المدني، كونها غير مسجلة أصلاً، ولا يعقل أن تبقى البنت بدون قيد وبدون أب (أي مكتومة).

قبلت أم سلمى، وقبل الأهل لكون الزوج هو ابن العم الثاني في العائلة...وسجلت سلمى ابنة للزوج الجديد، وكبرت سلمى عبر خمس وعشرين سنة وهي لا تزال بعمرها الثلاث سنوات كما هي في الصورة التي في حوزة أبيها الحقيقي، ولم يخبرها أحد بحقيقة نسبها ولا موضوع أبيها الذي كان اسمه "أبو أحمد".

"أبو سلمى" الآن لا أب ولا أم ولا أخوة... فهل يرضى أن يكون بلا ابنته "سلمى"... هل يفقد أمله الأخير؟ ترى أين هي؟...هي في العاصمة... ولا يعرف أحد من القرية أين عنوانها... لأن زوجها الحالي لم ينشأ في القرية، ولا يزورها، ولا يعرفه أحد... وهو ضابط في الشرطة...

راجع أبو سلمى دائرة السجل المدني، وعرف منه مكان إقامة زوج أم سلمى... واستدل أخيراً على العنوان المختلف عن مكان الإقامة المسجل في الأحوال المدنية...ولكن كيف سيسأل عن سلمى... سلمى صبية، وإذا كانت لا تزال حية... هل هي متزوجة؟... وأين تقيم؟...
استطاع "أبو سلمى" أن يتوصل إلى معرفة أن ابنته سلمى المسجلة كابنة لزوج والدتها متزوجة ولها ثلاث أطفال، وهي تعمل معلمة، وزوجها معلم مدرسة أيضاً، ووضعها المادي دون الوسط.

كيف توصل إلى سلمى؟

من حسن الحظ أن سلمى معلمة في مدرسة قريبة، وأن زوجها معلم بنفس المدرسة، لكن دوامه مختلف عن دوام زوجته سلمى. ذهب أبو سلمى إلى المدرسة، ووقف بعيداً عن بابها وهو يرقب انصراف المعلمات، وينظر إلى وجوههن لعله يتعرف على الآنسة سلمى..وفي يده صورة لسلمى ذات السنوات الثلاث يقارن الوجوه مع هذه الصورة، ولكن هيهات...متى كان ابن الثالثة يشبه ابن الخامسة والعشرين؟...

وشك في إحدى المعلمات اللواتي يبدو عليهن التعب والعناء بعد يوم عمل، وهي تجر طفلاً عمره سبع سنوات.تبعها دون أن تدري... فإذا هي سلمى وقد دخلت الدار التي تسكنها والتي تعرف عليها أبو سلمى عن بعد من كثرة البحث عن عنوان سلمى...دمعت عينا "أبو سلمى" وتأثر حزناً، إن سلمى قريبة منه بعيدة عنه...هي في حقيبته، وهي في قلبه تشع له الأمل الوحيد في الحياة...ماذا يفعل؟... ودار حوار نفسي:

هل يتقدم منها ليخبرها أنه والدها؟

هل ستصدق؟...

إن لديه صورتها وهي صغيرة، هل تنفع كإثبات؟...

ثم هل يرضيها أم يزعجها هذا التعريف؟...

ماذا سيكون موقف أبيها غير الحقيقي المسجلة على اسمه في الأحوال المدنية؟

ماذا سيكون موقف أمها؟...

ولماذا يحرج الجميع بظهوره؟

أليس الأفضل أن تجري الأمور كما هي؟

الأفضل هو الانتظار والتريث والتصرف بحكمة...

لماذا أبو سلمى صاحب دكان الألعاب؟

اشترى أبو سلمى دكاناً كبيراً في نفس الشارع قريباً من بيت سلمى...وكتب اللوحة عليه باسم محل سلمى... وألعاب سلمى...ووضع على واجهته صورتين لطفلتين كل منهما بعمر ثلاث سنوات: سلمى السورية الأصلية بنته وهو ابن القرية المزارع، وبنته في كندا وهو المزارع هناك أيضاً.

سلمى هنا لا تعرفه...

سلمى هناك سوف لا تعرفه إذا ظلّ بعيداً عنها.

ذات يوم مرت سلمى وأولادها الثلاثة من أمام محل أبو سلمى... لفت نظرها اسم المحل باسمها... ولفت نظرها الصورتان الكبيرتان المعلقتان في صدر المحل... وبيت الشعر:
سل ما لسلمى بنار البعد تكويني وحبها في الحشا من قبل تكويني
كيف تم اللقاء العاطفي؟

استغربت... واستغربت أكثر عندما أغدق صاحب المحل على أولادها الألعاب مجاناً، واستغربت عندما رأته ينظر إليها ويتحسر ثم صار يبكي...ألحت في معرفة السبب...فكان أن باح أبو سلمى بقصته كاملة... وصدقته لأنها كانت قد سمعت بأجزاء من الموضوع... وعرفت من الصورة أنها هي منذ خمسة وعشرين عاماً...

عانقت سلمى أباها... لكنها رجته أن يتريث في كشف الحقيقة لكيلا تسبب المفاجأة صدمة لوالدها الحالي ووالدتها ومحيطها... وكذلك زوجها وأولادها...وبقي السر دفيناً في قلب سلمى و"أبو سلمى".ولم يطق أبو سلمى هذه الحال، لم يحتمل أن يبقى أسير لغز قاتل.أخبرها بأنه سيسجل المحل باسمها، وكذلك البضاعة.

كيف الفراق الأخير؟

وأخبرها بأنه راحل عائد إلى كندا... إلى ابنته سلمى هناك... لكي لا يخسر سلمى مرتين... وكان ذلك. وعاد ولم يعد...ولكن سلمى أصرّت على الانتساب إلى أبيها الأصلي، وأقامت دعوى شرعية بذلك...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى