الخميس ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

أمل في الأفق

اﻷيام تتعاقب في تؤدة، وتنزلق فوق كف القدر لتنقش علامة استفهام كبيرة٬ هذه العلامة اقتحمت مخيلتي شر اقتحام فتولدت عنها عشرات الاستفهامات المضببة كوجه عبقري حزين ٲصابته نكسة الأيام، وثرثرة الزمن الرديىء.

تلطخت ٲعماقي المهجورة برذاذ الانتظار، وتسربت إلى قلبي الصغير موجات يٲس عارمة فغمرتني بفيضاناتها.

أنزوي فوق الصخرة الكبيرة الصامدة في وجه الريح، وولولة العواصف الغاضبة معانقة غيمات حزن، وأحدث نفسي المعطوبة التي علاها الصدأ: سأضفر من غيابه المؤلم جدائل شوق وٲبقى أترقب عودته على الدوام عله يرأف ويحن وتطرق قدماه ساحة انتظاري، ويداويني من وباء الفراغ الذي التهم نصف عمري الباكي واستفحل بغرابة مدهشة كالفطر المميت. عندما يطبق الظلام الدامس على مدينتي العذراء بفكيه تنتابني رعشات البكاء، وأنزلق في فراشي الوثير كما تنزلق السمكة بين ثنايا ٲمواج، يهجرني سلطان النوم، يحلق بعيدا في أجواء فسيحة تكتنفها أتربة الغموض واللامبالاة.

أتضور شوقا في جوف الليل البهيم، يقذفني هذا الزنجي العنيد بجمرات عينيه الحارقتين ويقهقه قهقهات سخيفة سرعان ماتتبخر كالفقاقيع .
فجٲة يطالعني والدي الحبيب في ذاكرتي وضيئا كالنجم سابحا في هالة مقدسة من النقاء الشفاف وهذا مايدفعني ﻷن أهتز على أوتار المحبة و الصفاء، وٲستسلم بكل أحاسيسي المتدفقة في قوة الشلال لصدى الذكريات، وروعة ذلك الماضي الثري الجميل.

أدس يدي العصفورة الدافئة في راحة يده، وأتحدث إليه بنبرة صوت مفعمة بالحب المخملي والزهو والافتخار : أحبك يا أبي، فٲنت محور سعادتي ورونق طفولتي ورضاي، يرد علي بهدوء نفسي رزين: أنت سمفونيتي الخالدة التي أترنم بها على الدوام، وٲنت النبع الصافي الذي يحيل حياتي إلى كرز واخضرار وجنة، أتلفع أحلامي الوردية شالا ملونا يضارع قوس قزح، وٲعانق بشاعرية ناصعة مفرطة دفئه اﻷزلي الذي يندف فوق رأسي، ويغمرني كمندوف قطن.

أتباهى أمام الملأ، وأتسامق بقامتي الغضة نحو غد مشرق يفيض بالحماسة والجود والأمان.
دق ناقوس الخطر، وحانت لحظة الحسم الكبرى التي ابتلعت كل الأماني والأحلام.
قال لوالدتي وهو يعدمها إعداما لامفر منه: سأرحل عن هذه الديار، وأجلب المال الكثير و...

­­_ لاتكمل أرجوك، تراجع عن قرارك هذا، إنه لاينبئ بالخير أبدا.
­­_ كفي من هذا الهذر ياامرأة، أنت لا تفقهين من الحياة شيئا.

لمحت دمعات حزينة في عينيها اللوزيتين تترقرق كالماس، ثم انسابت على خديها الحمراوين راسمة بإتقان رفضها الموجع، وألمها الصاعق الدفين.

خرج وهو يمسك بيمناه حقيبته، اندفعت خلفه كالصاروخ المريع، استوقفته منادية إياه بكل مايحمله لساني من أسمى معاني الحب والاحترام: أبي، أبي.

استدار إلي، عانقني بقوة جارفة لم أعهدها فيه من قبل، وهمس في أذني كهمس الندى: سأجلب لك من مدينة العجائب ألعابا كثيرة ومثيرة.

بكيت بصخب عال وهتفت وغصات الألم تخنق زقزقتي: لماذا ترحل عن جوف المدينة وتتركني لمرارة الأيام، ووحشة الانتظار؟

­­ سأعود عندما يتفتح الورد في أكمامه، ويترنم الهزار الطليق في عشه، ويتماوج الفرح ليتناغم مع إيقاعات الحياة.

خطا بضع خطوات، توقف فجأة، ابتهجت ولحقت به وأنا شاعرة كأنني سندريلا الشاشة أو ملكة مبجلة تستقطب أنظار المعجبين، صحت في فرح فوضوي عارم لاحد له: أتبقى بجانبي إلى أبد اﻵبدين؟

­­_ أعدك أنني سأعود، فوعد الحر دين عليه، هيا عودي إلى الدار ولا تبتئسي.
تسمرت في مكاني كالوتد وعيناي العميقتا السواد تتابعان خطواته باهتمام بالغ إلى أن توارى شيئا فشيئا عن اﻷنظار.

أحسست بفؤادي كأنما تمزق إلى شطرين وأن فرحي الملائكي تقزم ثم استحال صفرا شاحبا بلا شذى ولا دفء ولا نغم.

أجول في الغرفة كالحمامة المسالمة باحثة عن موقعي، هنا كان يجلس والدي فوق الكرسي الخشبي، يحتسي قهوته المعتقة كالمسك، ثم يدخن سيجارته بعمق وفي لذة منقطعة النظير، تنصحه أمي الحبيبة معاتبة إياه عتابا لطيفا: ألا تقلع عن هذا السم الخطير؟ إنه داء وهلاك.

أتصوره قادما على متن موجة كبيرة وفي عينيه الصافيتين تنبت سنابل الفرح، وبين شفتيه يتراقص اللقاء ويزهر، أركض إليه بملء إرادتي والغبار يتطاير خلفي، وأهتف بأعلى صوت تسكنه لآلئ الشوق وحمى الانتظار: عاد أبي، عاد أبي.
وأمنحه سلالا مزركشة مليئة بالأحلام، والهدايا، والهمسات، والقبل.
فجأة أفيق من غفوتي الحالمة، أصدم بواقعي المر الذي أسكره الأسى في الأوج، يزلزلني شبح الفراغ المريع، يقهرني هاجس الانتظار فأغدو طيرا ضعيفا مضرجا بهشاشة الانكسار.

تعلوني فوضى عارمة من الهزائم و اﻹحباطات، وتدمع عيناي تحت وطأة التأسف والوجع.
وأنا في ذروة الاشتعال والحيرة والقلق تتلقف يدي الحانية أول رسالة من وراء البحار.
وتصلني منه رسالة ثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة، ثم تنقطع أخباره عنا دفعة واحدة فأحس باكتئاب مزمن يدمر قلاع عواطفي، ويمتص قدراتي على مواجهة الموقف المضبب العسير.
تعلقت عيناي بساعي البريد وهو يدلف إلى حينا المتواضع، سألته: ألدي رسالة يا سيدي ؟
أجاب بالنفي القاطع، ثم استرسل يقول وكأنه أحس بالذي أعانيه: لا تيأسي من الحياة، الأمل لازال قائما.

همست في تربة نفسي وأنا أتشبث بأهداب الصبر: متى يعلن عن عودته المباركة ليمسح عني لسعات القلق، ويذيب عن عاتقي جليد السنين العجاف؟ متى يعود وهو يرفل في برنوس اللقاء ويتغنى بأشهى القصائد وأجودها ؟

وكان يوم

رأيت النسوة يتجهن صوب بيتنا، لم أفهم سر تجمعهن المباغت، أمي تنتحب بعمق أشد، أكيد أن مكروها حصل.

تطلعت في فضول بالغ مخيف إلى عيون هؤلاء علني أعثر على إجابة شافية تشيع أملا بين جنبات نفسي .

أقاربنا كلهم توافدوا فرادى وزرافات إلى بيتنا، عمي، خالي، خالتي، أبناء أخوالي، وأعمامي، وبناتهم.

تساءلت حيرى مستغربة: ماذا هناك؟ ماالذي ألم بأمي وهي تنوح بهذا الشكل المريب؟
امتثلت أمام خالي سائلة إياه بصوت يرتجف كأنني مقبلة على امتحان عسير: ماالذي يحدث في بيتنا ؟

ترقرقت العبرات في سماء عينيه، وركن بخشوع إلى كهوف الصمت.
تقاطرت في أذني كلمات من هنا وهناك، المرحوم، المغترب، الموت، الفراق الأبدي.
من المقصود بالذات ؟ أهو أبي؟ لا..لا..لايمكن، لا أصدق، لا أصدق أبدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى