السبت ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم نازك ضمرة

ثريّا السيراوية

اعتادت النساء على شرود ذهن ام ثريا، لا يقاطعن استغراقها، يجلسن الساعات الطوال، ترحب بهن، تجيب عن سؤال او اثنين، ثم يلاحظن الضيق على وجهها، وبعدها يبدأن بالتحدث فيما بينهن، كما هي عادة مجتمع النساء في قرية بيت سيرا، وتعود ام ثريا الى ذهولها. ام ثريا لا تريد ان تصدق ما حدث، تستعيد الساعات والايام والشهور واحداثها، فتنشغل بالتمتمة.

قبل اسابيع اجتمعت النسوة والفتيات حول العرافة، كانت آذانهن صاغية لما تقول، قالت المبصرة لأم ثريا:(ستغيبين! سرك مكشوف، وحظك معروف، يومك غايب ومالك نايب، جسمك نحت وبيتك تحت)، جفلت الام، امتدت يدها وبعثرت خطوط الرمل، نهرتها قائلة:

قومي يا عجوز السوء، تعيشين لتنهشين، اغربي يا غراب! فجمرك قتاد، وهرجك سواد، اعطيناك البيضة فهيا فارقينا! ولا حاجة بنا لرؤية وجهك المشئوم.

خيم ضباب الصمت بعدها على رووس الحاضرات، والصبايا تململن، تمنين سماع قراءة حظوظهن، تهدج صوت ام ثريا شيخة الجلسات في شبه الهمس، لتغيير الجو الذي تركته العرافة، أوشكت على طرد العرافة، لكنها صبرت حتى ترى رد فعل زائراتها الحاضرات. تتذكر أم ثريا الحوار الذي جرى صيف العام الماضي.

موسم هذا العام خير كثير، سنملأ مخابينا بالحبوب، لكن الدوخة وضيق التنفس تنغص حياتي.

اجابتها ام خليل بان ارتفاع الحرارة، تسبب الضيق والالم لبعض الناس يا أم ثريا، تنهدت ام ثريا بحشرجة:

_اللهم استرنا دنيا وآخرة.

تخاطبها امرأة اخرى:

احمدي ربك ام ثريا، عندك بنت قمر تساعدك وتساندك، وليس مثلي، كل طلبات زوجي أقوم بها وحدي، ابنتك ما شاء الله كاملة الصفات، جميلة الخُلق والخلق، وسيرتها العطرة على كل لسان ليت ابني عيسى قادر على الزواج لخطبتها له.

استنشقت أم ثريا نفساً طويلاً، أراحت جلستها كأنها استندت إلى جدار، وقالت في هدوء وسعادة:(لا يأخذ او يعطي الا النصيب).

ألهب كلام ام عيسى جمرة حبي لابنتي ثريا، اعيش مع نفسي وسعادتي بابنتي ثريا، زينة إخوانها الثلاثة، لماذا يحسدني الجميع عليها!؟

في نفس اليوم من صيف العام الماضي، غسلت ثريا قدمى والدها العجوز، دعا لها الله ان يسعدها. وفي مناسبة اخرى لم تسمح لي بالذهاب معها لملء جرار الماء، استدعت رفيقاتها لمساعدتها، أرادت أن تريحني من همّ مسئولية جلب الماء لشرب العائلة، أحمدك يارب كبرت ابنتي وتصر على إراحتي، ازداد فرحي بها،دعوت لها ان يسعدها الله.

اظلمت الدنيا مساء ذلك اليوم، ولم يكد يظهر القمر ليلتها، هجع الضاحكون والباكون، وخفت أو تلاشت مصابيح الزيت، قال ابو ثريا:

_ابن ابي رشدي انسب شخص لابنتنا يا ام مازن، زارني والده قبل ايام، وقال انهم مستعدون لوزنها بالذهب.

لم اؤيد الفكرة، قلت له ان عمر البنت خمسة عشر عاماً، وما زالت صغيرة على الزواج، أصررت على تأجيل بحث هذا الموضوع لعام آخر.

هزت ام ثريا رأسها ، عبست قليلاً ، تراءت لها العرافة وسط الحلقة،صدى كلماتها تقرع اذنيها :(جسمك نحت وبيتك تحت ، سرك مكشوف وحظك معروف، يومك غايب، وما لك نايب).

الجماعة طيبون يا ام مازن، وحالتهم المادية ممتازة.

قلت لك لسنا في عجلة هذا العام، لنؤجل الامر (وبنتنا الف من يتمناها).

جميع الحاضرات يلاحظن شرود ام ثريا، لا تجرؤ احداهن على التعليق، او حتى محاطبتها، واصلن ثرثرتهن في مواضيع متنوعة، وتواصلت الاحلام في رأس أم مازن.

على أسطح المنازل، حيث يبيت الريفيون صيفاً، هرباً من الحر، تلألأت النجوم في السماء، كان القمر شاحباً آيلاً للسقوط، تأملت ثريا به طويلاً،اسندت رأسها بيدها، بدا عليها الانقباض حين قالت:

(اكل جميع اهل القرية من لحمها الا نحن!، كنا نشرب الحليب منها كل يوم! لا ادري كيف وقعت عن الصخرة العالية؟! كانت بقرتنا قوية جداً وفي مقتبل العمر!؟)

اشرتُ لها بيدي حتى لا تكمل، احسست بالحزن الشديد يشد كل عصب في وجهي، لم اظهر لها، قلت لها: (امر الله يا ابنتي،المكتوب ما منه مهروب).

قال لي خالها:جلست ثريا بجانبي، تحتضن سلة فيها اقراص الزعتر والبيض البلدي والمطبق، كانت تتأمل صعود الركاب، وازدحامهم في الوقوف، بعد ان امتلأت جميع كراسي الباص، كانت ثريا تتأفف عند كل وقفة، يدخل الركاب الجدد، ويضغطون على الواقفين والجالسين لم تشتك من ذلك، كانت تريد الوصول الى شقيقها مازن بسرعة.

قالت لي بعد عودتها، ان صديق شقيقها الذي يدرس معه في نفس المدرسة سأله:(من الحسناء العاشقة التي عانقته؟)

امّا بنات جيران مازن، فقد تحدثن طويلاً عنها، وابدين اعجابهن بجمالها الريفي الطبيعي، والخالي من اي رتوش او زيف، وسحرن بطلاوة حديثها البسيط، وكلماتها المنضبطة المهذبة .

حتى اذا حل موعد حصاد الذرة في أواخر شهر أغسطس آب! اجتمع الناس يعاونون بعضهم في جني المحصول ،كؤوس الذرة يقطفها الرجال، والقصب تقطعه وتجمعه النساء والصغار، تعجب الجميع من ثريا! نحلة في غدوها ورواحها!

شمس في سماء المرج!

نغم في اسماع الآفاق

قلب ام منتشية في عيون المحتفلين

تنظر الفتيات لها بعين الغيرة، يحاولن العمل مثلها، حتى يجذبن انتباه الشباب والفتيان، تتجمد أعين الرجال وتتصلب اذراعهم، يتتبعون حركات يديها الراقصة الجادة،فيهيج المرج بالحركة والنشاط، تهمهم الخلايا، ترتفع الاهازيج، تتجرد الارض بسرعة، تتعرى مما سترها من ورق او اعواد، هل ترضى ثريا عن احدهم؟!احبها الكبار والصغار، قال احدهم:

ثريا! قمر القرية صيفاً، وشمسها شتاء!

نساء وصبايا تحلقّن حولي، قبل الحصاد بعدة ايام اجتمعنا على درج المنزل، نادى منادٍ من فوق المئذنة:

(يا سامعين الصوت صلوا على النبي ! ضاعت شاه سمينة بيضاء من شاهدها او عرف عن موقعها، يدلنا عليها، وله مكافأة، والله يجزيه خير الجزاء).

قالت خالة ثريا:العوض على الله! لا اعتقد انم سيرونها ثانية! لا بد انها اختطفت او غابت الى مكان بعيد.

النساء رجعن يتحدثن ويتمازحن، صرن يتطرقن الى امور عائلية خاصة، كما هي العادة حين تطول الجلسة ، قالت ام ثريا لنفسها:

هل اشتكى غيرها؟!! ولماذا ابنتي ثريا وحدها يا رب؟!

احست ثريا بوجع بسيط في رأسها، شدت حزمتها الضخمة، تحاملت على نفسها وحملت حزمتها، عادت لبيتها دون ان تشكو لاحد ، اشتكت لي اولا:

راسي يا امي! راسي ! احس انه يكاد ينفجر، صداع شديد!! ساعديني يا امي ، افعلي لي شيئاً! انه يزداد! اوقفوا لي الالم يا ناس؟!

ولولت الام، حاولت تهدئتها، لم تتوقف ثريا عن الانين والشكوى ، قالت الام:(لا شك ان الناس حسدوك" يا قروطة"، هذه ضربة عين، خطر لها كلام العرافة:(جسمك نحت وبيتك تحت، سرك مكشوف، وحظك معروف).

لاحظ الحاضرون شفاهها تتحرك وتتمتم:

(خايف ان رقبتها التوت من ثقل الحزمة، من لا بخت له لا يتعب ولا يشقى)
نظر والدها لها، تأمل حالها، خاطبها، صاحت:

راسي! راسي يا ابي ! راسي! ساعدوني! اوقفوا لي الالم؟!

اقترب منها وضع يده على راسها، قرأ كل ما يحفظ من الآيات والرقى و الادعية.
تلمست امرأة زائرة رقبتها وراسها وصدرها، ربطت راسها برباط قوي، قالت احدى العجائز:

اعطوها شراباً ساخناً، وغطوها جيداً، واقفلوا عليها جميع النوافذ حتى تعرق.

ازداد صياح ثريا واستغاثتها مع حلول الظلام، لم يكن بالبلدة وسيلة نقل او اتصال عرف ابن ابي رشدي عن الم ثريا، جلس مطرقاً مفكراً، انتصف الليل، اصطحب اثنين من اصحابه الشباب، ساروا للقرية المجاورة ( بجياد مالهن قوائم)، قرعوا باب دار صاحب السيارة، اقنعوا الرجل للقيام بمهمة انسانية، وبالاجر الذي يريد، ولدى عودتهم بشر والديها ان السيارة وصلت.

في الخامسة صباحاً، كانت ثريا تخضع للفحوصات والعلاجات، كانت امها تقف خلف باب غرفتها بالمستشفى، ظلت تكلم نفسها وتهذي، رثى الحاضرون لحالها، هدها السهر والاعياء، جلست على الارض في ساحة المستشفى، تحرك جسمها للامام والخلف،كانت تقول:

(يومك غايب ومالك نايب، جسمك نحت وبيتك تحت)

بعد خروجه جلس الطبيب خلف مكتبه، هجم شقيقها عليه صائحاً متوسلاً بحرقة والم:
تصرف يا دكتور! افعل شيئاً! افعل كل شيء! ارجوك! ارجوك!

ظل الطبيب مستمراً بكتابة تقريره، وهو يكلم الممرضة في شبه همس، لو كان عندهم ثلج ووضعوا على رأسها، أو لو استحمت بالماء البارد كل ساعة أو ساعتين لما حصل كل ما حصل لهذه البنت الشابة الجميلة. ومما جاء في تقرير الطبيب: (ضربة شمس قوبة، حالة متأخرة جداً) اقفل الملف، نظر الطبيب الى مازن، ثم والدتها التي لا تكاد تحس بما يجري حولها، زم شفتيه، هز رأسه، وانتقل الى غرفة اخرى، تقول والدة ثريا للجالسات همساً

قبل ستة شهور كانت ثريا تريد أن تساعدني في ملء جرار الماء، رحل جمال النحت إلى تحت.

غابت ثريا عن عيني أمها إلى غير رجعة، وستنتظر والدتها طويلاً حتى تكبر ابنتها الصغيرة لمساعدتها، هذا إن عاشت الأم والبنت لسنوات عشر أخر؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى