الأحد ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

الوشاح الوردي

هاهي العجوز(سعدية) تحتضنها الدار الكبيرة مع مجموعة من النسوة اللواتي تعرضن في رحلتهن الحياتية إلى ظلم متعسف مستبد من قبل الأزواج أو فلذات الأكباد.

أحيانا ينغمسن في لب مآسيهن المتفاوتات الدرجات، ويتأوهن جريحات المشاعر، مخضبات بالتواءات السنين، ويذرفن أدمعا سخية، سخينة توخزهن في صميم القلب، وأحيانا أخرى يتسامرن، ويطلقن من حناجرهن ضحكاتهن قصد التخفيف عن كواهلهن عبء التوتر، والوجع، والتذمر.

كلما تختلي (سعدية) بنفسها تحوم حولها ذكريات الأمس الملاح، تهزها هزا رفيقا فتمتلئ جوانحها المكسورة برذاذ الحنين والشغف إلى ذلك الماضي السحيق الذي يوغل بعربدته في البعيد.

زوجها كان شهما، طيبا، ولوعا بحب الطبيعة، وخدمة الأرض، دخل بها وهي لم تتجاوز الثامنة عشر من العمر، وأسكنها بيتا متواضعا يغازل وجه القرية العذراء الصبوح، وقد أثمر ارتباطها المقدس به عن ذكر بهي الطلعة، شبيه والده، سمته (منصور).

عجز زوجها عن كبح جماح فرحته، قفز إلى الخيزرانة المعلقة على الحائط، وبنشوة الصبيان الحالمين سحبها، وطفق يرقص ويرقص، ويتلاعب بعصاه في الهواء إلى أن نال منه التعب مناله، وأخيرا تهالك على جلد خروف، والتقط أنفاسه، ثم أسرع يبكي كالأطفال الأبرياء، سألته زوجته النفساء وهي تحوطه بوهج عينيها الذي يأبى الانطفاء:ماالذي يبكيك في هذه الليلة السعيدة، المباركة؟

 إنه الفرح يا غاليتي.

اجتهد في صنع مهد صغير من الخشب، قال وصوته الرجولي ينضح بالسعادة، والهناء، والافتخار: هذه هدية مني لابني الصغير.

وضعته بداخله كما توضع الماسة الثمينة بين طيات الحرير، وأخذت تناجيه بقلب صدوق، عامر بالأمومة و الحب: نم يا حبيبي الغالي، ياقرة عيني، ستكبر مع الأيام، وتساندنا في الرزايا، وترحم شيخوختنا، ستكون الولد البار، المطيع بإذن الله.

 إنك تبدين أجمل الجميلات بوشاحك الوردي هذا.

كانت تغتبط اغتباطا لمثل هذا الثناء الذي تتفوه به شفتاه، وتناضل نضالا عسيرا في أن تكون دائما أجمل وأروع امرأة في عينيه.

الأيام تتوالى هادئة، مطمئنة، رافلة في ثوبها الخجول، والابن الغالي ينمو ببطء كما تنمو النبتة الطرية في أحضان بستان.

عمل الحقل ليس هينا كما يتصوره البعض، والغلة لا تأتي فوق طبق من ذهب، فالأرض خصبة، معطاء، ومن لثمت يداه أديمها تدر عليه بغلال وفيرة لا تخطر أبدا على بال.

حين ينقر فصل الشتاء العبوس الأبواب الموصدة ببرده القارص، وأمطاره الفياضة يخرج الزوج ما ادخره من خشب لهذا الظرف العصيب، ويشعل الحطب وهو يدندن بصوت مسموع: سنقهر شبح البرد المخيف بهذه النار المتأججة، سنقهر شبح البرد المخيف بهذه النار المتأججة.

الابن (منصور) ركض نحو البيت لاهثا، وصراخه المزعج يقرع الآذان: أمي، أمي، أمي.

ارتعدت كأرنب بري مقهور، وقفزت إلى الباب لترى ما حصل، سقط سقطة شنيعة وهو يردد كالمخبول: أبي، أبي.

هرولت نحو الحقل حافية الرجلين والغبار يتطاير خلفها، إنه هناك ممدد فوق الثرى الطيب، دنت منه وأشباح الرعب تستحوذ على كامل جسدها، صرخت عاليا: ما بك يا(عصمان)؟ ما بك يا (عصمان)؟

هزته من ذراعيه، لم يحرك ساكنا، ظل هامدا، خامدا، ممددا كقطعة خشب.

انحنت برأسها عليه، وراحت تصخي السمع إلى قلبه، إنه لا ينبض، توقف تماما، لقد طارت روحه المسالمة إلى بارئها.

تحلق أهل القرية حوله وهم مذهولون عن أنفسهم، صدمة مؤلمة تلقفتها القرية اليوم ببالغ الحزن والأسى، تعاونوا على حمله إلى داره ودموع الفراق الأبدي تصطخب في مآقيهم، وشيعت جنازته في ذلك المساء الذي مازال محفورا في الذاكرة.

بعد وفاة زوجها تهافت الخطاب على بابها طالبين رضاها، لكنها كانت تعلن رفضها القاطع كل مرة حفاظا على ذكراه الغالية.

صار(منصور) ناضجا وتزوج، وأخذت زوجته تختلق جم المشاكل، كل يوم زعيق، وغضب، وثورة إلى أن أعمته بسحرها الفتاك، وألحت عليه أن يأخذ والدته إلى دار العجزة. انصاع لطلبها المشين دون أن يبيض جبينه خجلا.

ها هي العجوز(سعدية) تجرفها الذكرى الغالية صوب البعيد، إلى عمق ذلك الماضي الرحيب.

 إنك تبدين أجمل الجميلات بوشاحك الوردي هذا.

لا زال هذا الثناء الجميل ينبجس من أغوار السنين العجاف، ويسكن أذنيها أبدا.

تلمست الوشاح الوردي، أحست بسعادة عارمة تحتويها، وبأن زوجها لم يفارقها بعد، ظله الظليل يعيش بجانبها طوال الدهور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى