الثلاثاء ٢ شباط (فبراير) ٢٠١٠
قيثارة الحب والحرب
بقلم شعبان أحمد بدير

الشاعر ابن النبيه المصري

حياته ومكانته الفنية

 

إن نشأة الشاعر ابن النبيه المصرى بل حياته كلها يكتنفها الغموض، لندرة ما ورد عنها فى كتب التراث وكتب التراجم من الأخبار التى لم تدلنا على شىء أكثر من موطنه الأصلى وعمله ووفاته، ولقد وردت ترجمته فى الغالب مصاحبة لترجمة الملك الأشرف موسى بن العادل، الذى ولى ابن النبيه له رئاسة ديوان الإنشاء، فهذا ابن خلكان يقول عن الشاعر فى معرض حديثه عن الشعراء الذين مدحوا الملك الأشرف: " والكمال بن النبيه، وكانت وفاته سنة تسع عشرة وست مئة بمدينة نصيبين الشرق، وعمره تقديراً مقدار ستين سنة، كذا أخبرنى صهره بالقاهرة " (1) واستناداً إلى هذا القول، نستطيع تحديد ميعاد ميلاده بعام 559 أو 560 هجرية.

أما الصفدى، فقد أورد له ترجمة كاملة مستقلة، يقول: "على بن محمد بن الحسن بن يوسف بن يحيى، الأديب البارع كمال الدين أبو الحسن ابن النبيه المصرى صاحب الديوان المشهور، مدح بنى العباس، واتصل بالملك الأشرف موسى وكتب له الإنشاء، وسكن نصيبين، وتوفى فى حادى عشرين جمادى الأولى سنة تسع عشرة، وست مائة بنصيبين، وهذا ديوانه المشهور أظن أنه هو الذى جمعه من شعره وانتقاه، لأنه كله منقى منقح الدرة وأختها، وإلا فما هذا شعر من لا نظم له إلا هذا الديوان الصغير" (2) .

وما ذكره ابن تغرى بردى لا يزيد عن ذلك حيث يقول عنه: "هو العلامة كمال الدين على بن يوسف بن النبيه الكاتب الشاعر، صاحب ديوان رسائل الملك الأشرف موسى بن العادل، وله ديوان شعر مشهور كله ملح، توفى سنة 619 "(3) وذكر ابن العماد العبارة نفسها فى شذرات الذهب، ثم عقّب على ذلك بمختارات قليلة من شعر ابن النبيه (4).

ولقد أورد الذهبى ترجمة قصيرة لابن النبيه، لم يزد فيها عمّا سبق، غير أنه وصفه بالشاعر " البليغ صاحب الديوان.... سار شعره وانقطع إلى الملك الأشرف، وسكن بنصيبين وبها مات فى الحادى والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وست مئة، وقيل إنه بقى إلى سنة إحدى وعشرين وست مئة " (5) ولم يقل أحد بوفاته سنة 621 هـ إلا الذهبى فى هذا القول والسيوطى فى حسن المحاضرة فى قوله: "على بن محمد بن النبيه الشاعر المشهور، أحد شعراء العصر المشهورين مات سنة إحدى وعشرين وست مئة " (6).

أما ابن الشعار الموصلى فلم يزد فى ترجمته لابن النبيه على ما ذكره السابقون، غير أنه نوّه إلى مكانته ومنصبه الذى كان يتقلده فى مصر قبل لحوقه بالملك الأشرف، فيقول عنه: " ابن يحيى المعروف بابن النبيه أبو الحسن المصرى الربعى، كان من مفاخر المصريين ومحاسن الشعراء العصريين شاعراً.. بزَّ بقوله على نظرائه وأضرابه، ذا عارفية فى النظم شديدة يذهب بلطيف ذهنه إلى الأغراض البعيدة، حسن المعانى أنيقها، حلو الألفاظ رشيقها شعره فى نهاية الحلاوة، يلوح عليه رونق الملاحة والطراوة، وكان يتولى بمصر ديوان الخراج والحساب، ومدح الملوك من بنى أيوب، ووزراء تلك الدولة وأكابرها، ثم اتصل آخراً بخدمة الملك الأشرف مظفر الدين أبى الفتح موسى بن محمد بن أيوب بن شادى، فانتظم فى سلك شعراء دولته وسكن نصيبين وبها مات فى سنة تسعة عشرة وستمائة، فقال الملك الأشرف عند موته – وكان معجبا بمحاسن شعره وما يأتى به من بديع الكلمات – مات رب القريض..." (7) وهذا يكشف بعض الشىء عما كان يتمتع به ابن النبيه من مكانة عالية فى مصر قبل عمله فى بلاط الملك الأشرف.

ولم يزد الزريكلى على ما ورد فى التراجم السابقة، مما جعله يستنتج من كلام الصفدى أن ديوان الشاعر منتقى من مجموع شعره، يقول: " شاعر منشىء من أهل مصر مدح الأيوبيين، وتولى ديوان الإنشاء للملك الأشرف موسى ورحل إلى نصيبين فسكنها وتوفى بها، وله ديوان شعر مطبوع صغير انتقاه من مجموع شعره" (8)

ونستنتج مما سبق أن حياة الشاعر بصفة عامة - وخصوصا فى بدايتها – كانت غامضة، فلم نعرف شيئاً عن أسرته: أبويه وأبنائه، وهل كان من أسرة ذات جاه أم ينتسب إلى عامة الشعب، وليس هناك شىء عن أساتذته أو خطواته التعليمية التى تدلنا على مستوى ثقافته، ويحاول الدكتور شوقى ضيف الخروج ببعض الاستنتاجات المقتبسة من الديوان ومن حالة العصر التعليمية والاجتماعية، فيذكر أنه " ولد بمصر حوالى سنة 560هـ واختلف إلى كُتّاب حفظ فيه القرآن الكريم وبعض الأشعار على عادة لِدَاته، ثم أخذ يختلف إلى حلقات العلماء والأدباء، وتفتحت ملكته الشعرية، ورنا إلى الالتحاق بدواوين صلاح الدين ووزيره الكاتب البليغ القاضى الفاضل راعى الأدباء فى عصره، وفى ديوانه مدائح مختلفة له، وليضع أمامه الدليل الواضح على قدرته البيانية ضَمّن جميع أبيات إحدى مدائحه له كلمات من سورة المزمل مقتبساً لها فى قوافيه بقوله فى مطلعها:

قمتُ ليلَ الصدودِ إلا قليـلاَ ثم رتلـتُ ذكرَكـمْ ترتيْـلا
ووصلتُ السُّهادَ قُبِّح وصـلاً وهجرتُ الرُّقادَ هجراً جميْلا

ويبدو أن القاضى الفاضل لم يعجب بالقصيدة، فلم يعين فى دواوين صلاح الدين وأيضاً لم يعين فى دواوين ابنه العزيز، حتى إذا وُلِّى شئون مصر السلطان العادل سنة 596، رأيناه يقدم مدائحه إليه وإلى وزيره الصفىّ بن شكر، ويبدو أن صداقة انعقدت حينئذٍ بينه وبين الأشرف موسى بن السلطان العادل، حتى إذا ولاه أبوه على الرُّها سنة 598 اصطحبه معه واتخذه كاتبه، وأخذت إمارته تتسع فشملت خلاط وميّافارقين ونصيبين ومعظم بلاد الجزيرة، وكان يتنقل الأشرف موسى فى بلدان إمارته، وكانت أكثر إقامته فى الرقة لموقعها على الفرات وابن النبيه معه يلازمه، ولا يترك مناسبة من انتصار فى حرب أو عيد إلا ويقدم له مدائحه... ويدل ديوان ابن النبيه على أنه كان يعيش لدى الأشرف موسى معيشة مبتهجة يتمتع فيها بالرياض ومجالس الأنس والطرب حتى وفاته بنصيبين سنة 619 " (9)

وهناك اختلاف حول تاريخ تركه لمصر وارتباطه بالملك الأشرف فى نصيبين، فالدكتور محمد كامل حسين يرى أنه اتصل بالأشرف سنة 600 هجرية، واستند فى هذا الرأى إلى أن الشاعر أشار فى إحدى قصائده إلى انتصار الأشرف على كيكاورس صاحب الروم وهذه الواقعة كانت حوالى سنة 613هـ، ثم أنه أشار فى قصيدة أخرى إلى دخول الملك الأشرف إلى خلاط، وكان ذلك سنة 609 هـ فهذا كله يُرجّح صلة الشاعر بالأشرف كانت قبل هذه السنوات، وإذا عرفنا أنه مدح القاضى الفاضل بست مقطعات لا نشك أنه أنشدها قبل سنة 591هـ، وهى السنة التى انقطع فيها القاضى الفاضل عن الحياة العامة واعتزل الناس واعتزل الشعراء، إذن تكون صلة الشاعر بالأشرف بعد هذه السنة كل ذلك يجعلنا نرجح أنه ترك مصر إلى الجزيرة حوالى سنة 600هـ " (10)

ويرى أحد الباحثين أنه " لما رحل ابن النبيه إلى الشام لم يكن الملك الأشرف قد تولى الحكم بعد، ونعتقد أنه عمل على توطيد علاقته بالأشرف، قبل أن يلى المُلْك، ولذلك نرى أن أول القصائد التى تحمل تاريخاً يبين هذه الصلة هى التى نظمها ابن النبيه سنة 607 وهى التى تولى فيها الملك الأشرف الحكم، وفى القصيدة يشير إلى انتصار قائد جيش الأشرف الأمير حسام الدين الأشرفى على أبى الحرث أرسلان شاه مسعود صاحب الموصل " (11) ولكن هذا الرأى يحتوى على مغالطات، وأهمها أن تلك القصيدة المشار إليها قد ذكرها ابن واصل فى تهنئة الشاعر للأشرف بإيقاعه بعسكر الموصل فى حوادث سنة 600هـ، يقول ابن واصل: " وكانت هذه الواقعة أول ما عرف من سعادة الملك الأشرف ويُمْن نقيبته، فإنه لم يلق بعد ذلك جيشاً إلا فضَّه، وعلا بهذه الواقعة ذكره، واشتهر صيته، وهنته الشعراء بما حصل له من هذا الفتح العظيم، وممن مدحه وهنأه منهم كمال الدين على بن النبيه المصرى، فإنه مدحه بقصيدة مطلعها:

لما انثنَى الغُصنُ فوقَ كثبانِه جبـرتُ قلبى بكسرِ رُمَّانِه
ونلتُ من ريقـهِ وعارِضِـهِ أطيـبَ من راحِهِ وريْحانِه (12)

وهذه الرواية تؤكد على أن الشاعر قد بدأ يأخذ مكانته ووضعه جيداً عند الملك الأشرف سنة 600هـ، وأن تاريخ تركه لمصر لم يكن فى هذه السنة، كما ذكر د. محمد كامل حسين، ولكن كان قبل ذلك، وربما حوالى سنة 596 هـ وهى السنة التى توفى فيها القاضى الفاضل، الذى كان يتزعم الحياتين السياسية والفكرية فى مصر فى ذلك الوقت، والذى تولى الوزارة من بعده عدوه الصفى بن شكر، فلم يجد ابن النبيه القدرة على أن يمكث فى مصر وصفى الدين بن شكر المعروف بجبروته وزيراً للعادل، ويؤكد على علاقته الطيبة بالفاضل وانقطاعه للأشرف واستئثاره به قول ابن فضل الله العمرى: " لحق الفاضل وأرضاه وقارضه القريض وتقافاه، وانقطع إلى الملك الأشرف شاه أرمن موسى وطافت بشعره مشاعره، وظهرت له آيته الموسويّة، وآمن بها ساحره، ولم يأنس لسواه سنا قبس ولا حضر فى مجلسه فتكلم أحد ولا يبس، وجرت به سفن سعادته... وكانت لا تحجبه عنه خلوة ولا تحجزه عن الحضور معه صبوة، ولا يزال ينبسط له ويقهقهه القهوه..."(13) وعاش ابن النبيه ما تبقى من حياته بعد تركة لمصر فى نصيبين "واجداً فى ظلال الملك الأشرف الحياة الهادئة المطمئنة، وإن كان يبدو فى شعره الحنين إلى وطنه، والشوق إلى مهد صباه وشبابه" (14) ولكنه كان يتصبر بما أنعم عليه الأشرف من جاه وثراء، ويعبر عن ذلك بقوله:

إنَّما خدمةُ موسى جنةٌ عندها أوطانُنُا قدْ نُسيَتْ (15)

ويرى د. محمد كامل حسين أن ابن النبيه "لم يمدح أحداً وهو فى الجزيرة سوى الملك الأشرف، فإنه انقطع إليه انقطاعاً تاماً، يُذكّرنا بانقطاع المتنبى عندما كان يتصل بأمير من الأمراء" (16) ويبدو أنه كان يصحبه فى كثير من رحلاته وحروبه وأوقات سمره، ونقلت لنا كتب التراجم بعضاً من ذلك، ومنها ما يرويه ابن النبيه نفسه فى قوله: " مررت مع الملك الأشرف بن العادل بن أيوب فى يوم شديد الحر بظاهر حرّان على مقابرها، ولها أهداب طوال على حجارة كأنها الرجال القيام، وقال لى الأشرف: بأى شىء تشبه هذا، فقلت ارتجالاً:

هواء حرَّانكم غليظ مُكدّرٌ مُفـرط الحـرَارَةْ
كأنَّ أجداثَها جحيـمْ وقودُها الناسُ والحجارةْ (17)

ومما يؤكد انقطاعه للأشرف أنه لم يشغل نفسه بالاتصال بأىٍ من ملوك البيت الأيوبى، فلم يتضمن ديوانه مدحاً لأحد ملوك بنى أيوب وأمرائهم سوى قصيدتين فى مدح الملك العادل سماهما «العادليات»، وفى غالب الظن أنهما كانتا مجاملة للملك الأشرف فى شخص الملك العظيم أورب البيت الأيوبى فى ذلك الوقت، وهوالملك العادل، ولم يتحرك لسانه
 كما يبدو من الديوان- بمدح لصلاح الدين أو أحد أبنائه، ربما لأنه لم يعاصر صلاح الدين إلا وهو فى فترة مبكرة من شبابه، ولم يكن قد بلغ درجة النضوج الفنى بعد، وربما كان ذلك بسبب الصراع الذى كان قد احتدم بين أبناء صلاح الدين وعمهم العادل وأبنائه، بسبب اغتصاب العادل لملكهم، فأمسك الشاعر عن مدح صلاح الدين وأبنائه محافظة منه على مكانته عند الأشرف والبيت العادلى.

وأما غير البيت الأيوبى، فقد اتصل بوزراء العصر ومن أهمهم:

1 – القاضى الفاضل

عبد الرحيم بن على العسقلانى البيسانى "ولد ببيسان سنة 529 هـ وطلب العلم وتتلمذ على ابن الخلال، وتفوق فى كتابة الإنشاء، واشترك فى الأحداث التى كانت بين شاور وضرغام وكان وزيراً لصلاح الدين، وبرز فى الإنشاء وله فى النظم أشياء حسنة، استمرت مكانته عند العزيز بعد وفاة صلاح الدين، وعند ولده المنصور بعده" (18) وكان للفاضل مكانة عظيمة فى مملكه صلاح الدين ؛ حيث استخلصه صلاح الدين لنفسه لحسن اعتقاده فيه، ولما أظهره الفاضل من صدق النصيحة والتدبير، حتى قال:"ما فتحت البلاد بالعساكر إنما فتحتها بكلام الفاضل"(19) الذى تميز بمكانة عظيمة بين أدباء عصره، فقد كان إمامهم، وشيخا من شيوخ الكتابة وعمالقه الأدب "فشهرته فى فن الترسل كانت حديث رجال البلاغة العربية بل حديث كل من تعرض للعصر الأيوبى" (20).

وللمكانة العظيمة التى احتلها فإن أدباء عصره كانوا لا يعتلون مكانة مرموقة فى دنيا الأدب حتى يحصلوا على رضاه، وليس أدل على ذلك من إهداء العماد الأصفهانى كتابه خريدة القصر له، ووصفه فيه وصفاً بالغ فيه، ومما قاله فى وصفه وبيان مكانته والتوسل إليه:

يا أوحـدَ العصـرِ الذى بّزَّ الورى 
فضلاً بغيرِ مُشَاكةٍ ومُشَاكلِ
ياأفضلَ الفصحاءِ بل يا أفصحَ الـــــبُلـغاءِ منفرداً بغيرِ مُسَاجل
يـا حالياً بالفضـلِ حَـلِّ تفضـلا ً 
منى بجدِّك جيدَ حظٍّ عاطلِ (21)

وفى نفس القصيدة يقول العماد مؤكداً مكانة الفاضل عند السلطان صلاح الدين وأنه كان بوابة الشعراء والأدباء إليه:

جُـدْ لى بمِنَّتـكَ الضعيفةِ مُنَّتى 
عنها وأثْقِلْ من جمِيلك كاهلى
أرجوكَ معتنياً لدى السلطانِ بى 
كرمـاً فمثلُـك يَعْتنِى بأمَاثِلِى
تُوفِى وليَّـك دَيْنَ مجدٍ عاقَـهُ 
لىُّ الوعودِ من الزمانِ الماطلِ
قَرِّر لى الشغلَ المُنخّـِلَ مُخْلِيا 
بالى من الهمِّ المقيمِ الشاغـل
لازلتَ غيثَ مكارمٍ وبقيتَ غوْث 
أكارمٍ وسلمـتَ لهْفَ أفاضِلِ (22)

ومثلما كان شعراء العصر مع الفاضل، كان أيضا ابن النبيه الذى حاول التقرب منه ومدحه بقصائد بالغ فيها، حتى صارت مبلغ المثل فى الصنعة، لعله يجد عنده الفسحه من الوقت لسماعه وتحقيق ما يرجو وما يأمل، ولذا فهو يتوسل إليه فى قوله:

لا أذمُّ الزَّمـانَ إذ كنـتَ فيهِ 
يا سحابَ النَّدى لرزقِى كفيـلاَ
لِى ديـونٌ على عُلاكَ وهـذَا 
وقتُ يُسرٍ فأوْفِ واصنعْ جمِيلاَ
أتمنَّى رزقَ المُقيمِ على اللــ ــهِ وإنْ رمْتُ رحلةً ونُزُولاَ (23)

 فالشاعر يرى أن رأى الفاضل هو خير معين له، وزخيرة تبقى معه طوال حياته بدلا من الجاه والمال، فيقول موجها خطابه للفاضل:

أأشْتِكى الفقرَ والخُمُـولَ وإنَّ 
من عطاياكَ المالَ والجَاها
إنْ قلَّ حظِّى فحسنُ رأْيكَ لى 
ذخيرةٌ لا عدمـتُ حُسْناها (24)

إذن لقد كان ابن النبيه كغيره من شعراء العصر الأيوبى يطمحون فى الحصول على تأييد الفاضل وإجازته لأدبهم، ويكون ذلك بمثابة إشارة الانطلاق فى دنيا الأدب.

2 - الأسعد بن مماتى

أسعد بن الخطير بن مهذب بن زكريا بن مماتى " أحد الكتاب فى الديوان الفاضلى، ذو الفضل الجلىّ والشعر العلىّ ، والنظم السوىّ، والخاطر القوىّ...." (25) كان ناظراً للدواوين المصرية، وكان نصرانياً هو وأهله وأسلموا عند تولى أسد الدين شيركوه الوزارة فى مصر خوفاً من أن يصرفه هو وأهله عن الدواوين، وكان السلطان صلاح الدين يثق به فولاّه ديوان الجيش، فارتفعت مكانته و " لم يزل الأسعد متصلا بالأيوبيين وعلى ديوانهم إلى أن وزر ابن شكر للملك العادل، وكان بين الوزير الجديد وبين الأسعد عداوة قديمة منذ كان الأسعد رئيساً على ابن شكر وكثيراً ما كان يهينه، فحقدها ابن شكر عليه إلى أن صارت إليه الوزارة "(26) فاضطر الأسعد للفرار من وجه ابن شكر بعد أن جرّده الأخير من ماله وفى ذلك يقول الأسعد:

تنكـرَ لى ودُّ الصَّفىّ ولم أكـنْ به رافعـاً رأسـاً لو اعتدلَ الزمَـن
ولكنْ علا عند انخفاضٍ وساءَنى 
وحسْبُك من شخصٍ تركتُ له الوَطن (27)

وكان للأسعد مكانة عاليه فى دنيا الأدب وصلة بكبار رجالها كالقاضى الفاضل، وتدلنا الروايات الكثيرة التى أوردها ابن ظافر على أن الأسعد كان ذا رأى فى الحياة الأدبية فى ذلك الوقت، يقول ابن ظافر: " وأخبرنى الأسعد أبو المكارم أسعد بن الخطير قال: كنت عند الفاضل – رحمة الله تعالى – إذ دخل الوزير نجم الدين فأخبرنى بما طلب السلطان، وانشده ما صنع، فقال الفاضل: هذا معنى كنت صنعته قديما إلا أننى استخدمت الليل بواباً فقلت:

بِتْنا على حالٍ تسوءُ العِدا وربَّمـا لا يُمكـنُ الشَّرحُ
بـوّابنـا الليـلُ وقلنا له إنْ غبتَ عنَّا هجم الصبحُ

قال الأسعد: ولم أكن صنعت شيئا، فصنعت بديهًا:

قلتُ لليلِ عندما زارنى البَدْ رُ وأوجستُ خيفةً للرَّواح
 أنت يا ليل بـرددارِ حبيبى فتأهبْ لدفعِ صدرِ الصَّباحِ

قال: فاستحسن الوزير القسيم الثانى فقلت: برددار المولى نعلم منه حسن الخلق، يقول: انصرف راشدا، وهذا البرددارُ فظٌّ غليظ يدفع فى الصدر " (28)

ونستطيع أن نستنتج من تلك الرواية مكانة الأسعد عند كبار الأدباء فى ذلك الوقت، وأيضاً علاقة ابن النبيه بهم جميعاً، حيث ذكر ابن ظافر بعد الانتهاء من الرواية السابقة رواية أخرى لابن النبيه نسج فيها بيتين على منوال بيتى الفاضل والأسعد، يقول: " وأخبرنى أبو الحسن بن النبيه قال: دخلت على الأجل نجم الدين الوزير –رحمه الله تعالى– فأمرنى بالعمل فيما رسمه السلطان فاستمهلته فأبى فصنعت وأنشدت:

 قـلـتُ لليـلِ إذْ حبَـانِى حبيبـاً وغِنـاءً يَسْـبِى النُّـهَى وعُقارَا
 أنا سلطانُ مجلسِى فاحجبُوا الصُّبـ ـحَ وكن أنت يا دُجى بردَ دَاراَ (29)

وفى تناول ابن النبيه للمعنى الذى تناوله الأسعد والفاضل ما يدل على قربه منهما، خصوصاً وأنه قد ذكر بيتى الفاضل فى ديوانه وذكر بعدهما بيتيه السابقين، بالإضافة إلى ذكر ابن ظافر لرواية ثالثة لابن سناء الملك (30) ينسج هو أيضا على منوال المعنى ذاته، مما يعطينا إشارات واضحة – إلى حد ما – على أن ابن النبيه كان قد وصل إلى مكانة فى أيام العزيز أهلته لمجالسة هؤلاء العظماء ومطارحتهم الشعر والمعانى الشعرية.

وأما عن علاقة ابن النبيه بالأسعد بن مماتى من خلال الديوان، فلم يرد فى ديوان ابن النبيه سوى قصيدة واحدة فى مدح الأسعد والتى مطلعها:

 أعيــوناً أدارَها أمْ عُقــارا فترَى الناسَ حين يرنُو سُكَارَى (31)

والقصيدة إن دلت على شىء فإنما تدل على ما كان يشيع فى ذلك العصر من التكلف واصطناع البديع، وأن ذلك كان أهم وسيلة للتقرب من زعماء الأدب كالفاضل وابن مماتى، ويبدو أن ابن النبيه قد حصل على قدر مما يريد على يد الأسعد ولذا نسمعه يقول:

لو نظمتُ الشِّعرَى العَبُورَ مديحاً كـان أوْلَى من نظمِىَ الأشْعَارَا
ربِّ هبـنِى شكراً لهُ فلقـدْ قلَّد نِى أنعمــاً جسامـاً كِبَــارَا (32)

وهذا الشاهد يدل على أن هناك علاقة ربطت بين الرجلين وإن كان ابن النبيه يظهر فيه فى موقع الراجى الذى يطلب العلو وينتظر الرفعة

3-الصاحب نجم الدين بن المجاور العزيزى

الوزير الجواد المجيد نجم الدين بن مُجاوريوسف بن الحسين (33) وزير العزيز عثمان ابن صلاح الدين الذى تولى ملك مصر بعد والده صلاح الدين، وكان ابن مجاور دمشقى الأصل "ولزمهم هذا النسب من جدهم، رفض جنة الدنيا دمشق ولزم المجاورة بمكة، فعُرف بالمُجاور" (34) عمل معلماً للعزيز ثم استوزره فى نيابته عن أبيه بمصر، وكان ذا ثقافة عالية استقاها من القرآن الكريم وعلوم اللغة والأدب، " وكان معروفاً بتوطئة الأكناف، ومعاونة الأدباء والشعراء، والأخذ منهم غير متميز عنهم، حتى كأنه إذا باحثهم واحدٌ منهم، مع ارتقاء فى الشعر إلى الدرجة التى تأخذ بمجامع القلوب والألباب...." (35) وهذه الروح الطيبة من الوزير ابن المجاور جعلت الأدباء والشعراء يلجأون إليه، ويمدحونه بقصائد كثيرة، ومن ذلك قصيدة ابن الساعاتى:

عِزُّ الجفونِ وذِلَّةُ الصبرُ حَكمَا علىَّ بطاعةِ الهجْرِ
ما كنتُ أعلَمُ قبلَ كاظمةٍ أنَّ الوفـاءَ طلِيعةُ الغَدْرِ (36)

ويبدو أن هناك علاقة قوية ربطت ابن النبيه بالوزير ابن المجاور للدرجة التى جعلته يدخل عليه مجلسه بحرية ويجالسه ويطارحه الشعر، كما ظهر من رواية ابن ظافر الأخيرة التى نقلها عن ابن النبيه.

 أما عن الديوان، فليس هناك سوى قصيدة واحدة مدح فيها الوزير نجم الدين والتى مطلعها:

بدرُ تِمٍّ لـهُ من الشَّعرِ هالَـهْ 
من رآهُ من المحبينَ هالَـهْ (37)

وهى قصيدة قصيرة أبياتها سبعة عشر بيتاً، لم يتجاوز جزء المدح فيها خمسة أبيات، دارت حول معنيى الإجادة فى الكتابة والكرم، يقول فى ثلاثة منها:

ذُو يـدٍ مُوسـويَّـةٍ و محيَّـا 
يـوسُفىٍّ إذا رأيـتَ جمالَهْ
يبسطُ الجُودَ عندما يبسطُ السَّا 
ئِـلَ فى نيلِ جـودِه آمالَهْ
 دارُهُ جنــةُ النَّعيـمِ فمَـنْ فا 
زَ بتقبيلِ تُربِها طَـوبَى لَهْ(38)

ونلاحظ أن ابن النبيه ما زال فى مرحلة البحث عن الذات، وعن الوسيلة التى تحقق له آماله، ولعله يجدها عند هذا الوزير الذى لا يرد سائلاً ولا يخيب رجاء آمل فى مساعدته.

4-على بن ظافر الأزدى

هو الفقيه الوزير جمال الدين الأزدى المصرى ابن العلامة أبى منصور (39) من كبار رجال العصر المقربين إلى الملك الأشرف حتى أنه جعله وزيره، وكان ابن ظافر رجلاً عالماً أديباً مثقفاً "وتفقه على والده وقرأ الأدب وبرع فيه، وقرأ على والده الأصول وتفوق على غيره فى علم التاريخ وأخبار الملوك " (40) وكان حافظاً مؤلفاً، ألف الكثير من الكتب أهمها: أخبار الدول المنقطعة، وكتاب غرائب التنبيهات على عجائب التشبيهات، ومن أهم الكتب التى تبيّن علاقته بعصره كتاب بدائع البدائه " فلا شك أنه قد اطلع على كثير من المصادر واستخلص منها ما يلائم موضوع الكتاب، إلى جانب ما رواه عن نظرائه وأعمدة الشعر والنثر فى عصره وتلك الأخبار التى شارك فيها ويعد هو مصدرها " (41) ولذا فهو من أوفى الكتب التى تنقل لنا المطارحات الشعرية الدائرة فى ذلك الوقت، وغيره من الأوقات.

 ويبدو أن ابن النبيه كان من أصحاب على بن ظافر الذين كانوا يجتمعون معاً بالقاهرة، "وكانوا بين أدباء وشعراء منهم من عرف واشتهر كالأسعد بن مماتى ومنهم من لم يشتهر ولحق فيما يبدو ببعض صحبة القاضى الفاضل ومنهم الوزير نجم الدين وزير العزيز عثمان أونجم الدين المصمودى قاضى العسكر للملك العادل أبى بكر، ونشو الدولة ابن المنجم على بن المفرج الشاعر" (42) ونفهم من هذا أن صلة الأديبين كانت قبل التقائهما بالأشرف أى أثناء نشأتهما التى يبدو أنها انطبعت بطابع واحد فى القاهرة، خصوصا وأن ابن ظافر قد ولد فى السنة التى تولى فيها صلاح الدين الوزارة للعاضد بمصر، فتربى هو وابن النبيه فى المدارس التى بناها صلاح الدين وأعوانه، واعتنوا بمناهجها وأساتذتها حتى تكون قادرة على نشر المذهب السنى مرة أخرى وتشجيع الناس على الجهاد، أى أن مشاربهما الثقافية كانت –إلى حد كبير- واحدة.

ولكن يبدو أن صلة ابن النبيه بالأشرف قد سبقت صلة ابن ظافر به، ويدل على ذلك "أن تقديم بدائع البدائه للأشرف كان سنة 603هـ أى قبل اتصاله به " (43) والعمل كوزير فى خدمته، يقول ابن ظافر فى بدائع البدائه: " وكنت عند المولى الملك الأشرف – أبقاه الله تعالى – فى سنة ثلاث وستمائة بالرها، وقد وَرَدْتُ إليه فى رسالة، فجعلنى بين سمعه وبصره، وأنزلنى فى بعض دوره فى القلعة." (44) ويبدو أن ابن ظافر قد لاقى ترحيباً عظيماً فى بلاط الملك الأشرف، ولم يبدأ اتصاله الرسمى به إلا فى عام 608هـ، وفى ذلك يقول: "واتفق أن مضى السلطان الأشرف – أبقاه الله – فى أوائل خدمتى له وأواخر سنة ثمان وستمائة إلى مدينة نصيبين" (45) .

ولقد اتسعت علاقات ابن ظافر فى بلاد الجزيرة وكان من أهم وأوثق أصدقائه ابن النبيه المصرى، وشهاب الدين يعقوب، وغيرهما ممن ذكرهم ابن ظافر فى بدائع البدائه فى مثل قوله: " حضر عندى وأنا برأس العين فى خدمة الملك الأشرف – أدام الله أيامه – الأديب الموفق علىّ بن محمد البغدادى الساكن بها والدين بن كساء الشاعران، وعندنا رجل يعرف بالضياء ابن الزرَّار – مصرى معروف – وكانوا يمجنون " (46)

وكان ابن النبيه على صلة قوية بابن ظافر "يؤكد هذه الصلة بين الرجلين تلك الأخبار التى تدل على الجلسات الترويحية التى كانت بين كثير من أدباء العصر وشعرائه" (47) ومن ذلك ما رواه ابن ظافر فى قوله: "وأنشدنى القاضى أبو الحسن ابن النبيه لنفسه:

حبّّذا فى الصيامِ مئذنةُ الجا مـعِ والليـلُ مسبلٌ أذيالَهْ
 خلتُها والفانوسُ إذ رفَعَتْـهُ صـائداً واقفاً لصيدِ الغزالَهْ (48)

ويذكر علىُّ بن ظافر أنه اتفق له أن اجتمع مع القاضى أبى الحسن ابن النبيه ومعهم جماعة من شعراء مصر، فأنشدهم قول مؤيد الدين الطغرائى فى الهلال:

قومُوا إلى لذّاتكُمْ يا نيامْ واترِعُوا الكأسَ بصفوِ المُدَامْ
هذا هِلالَ العيد قدْ جاءَنا بمِنجلٍ يَحصُد شهر الصّيـامْ

فقال ابن النبيه: لو شبهه بمنجل ذهب يحصد نرجس النجوم لكان أولى، ثم قال نظماً:

انظـرْ إلى حُسـنِ هلالٍ بـدا
فقلت (أى ابن ظافر):
 يُذهـب من أنـوارِه حِنْدسَـا
فقال:
كمِنجَلٍ قدْ صِيغ مـن عَسْجَـدٍ
فقلت:
 يحصُد من شهبِ الدجى نرجسَا (49)

ومن هذه الرواية وسابقتها نستطيع أن نتبيّن مستوى العلاقة بين ابن النبيه وابن ظافر وبعض أدباء عصرهما فى النقطتين التاليتين:

1.إن تلقيب ابن ظافر لابن النبيه بالقاضى وهو مازال فى مصر، أو أثناء وجود ابن ظافر فى خدمة الملك الأشرف، ربما يدلنا على ما كان يتمتع به ابن النبيه من مكانة أدبية مرموقة، ويرى الدكتور محمد زغلول سلام أن ابن النبيه كان يُلقب بالقاضى ولم يتول القضاء بل كان كاتب إنشاء " ولكن جرت العادة أن يُطلق لقب القاضى على كل صاحب قلم، كما يطلق لقب الأمير على كل صاحب سيف" (50)

2.وقوله: " ومعنا جماعة من شعراء مصر " من الممكن أ، يرشدنا إلى صلة ابن النبيه ببعض أدباء عصره الذين لم تتضح علاقته بهم فى الديوان مثل ابن سناء الملك وغيره، وأنه كان يحضر مجالسهم مثل المجلس الذى ذكره ابن ظافر فى قوله: "حضرنا يوماً عند الصاحب صفىّ الدين بمعسكر المنصور على بلبيس عند بروز السلطان لسفرته الثانية حين حوصرت دمشق الحصار الثانى فى خيمته بمجلس حفل، لم يعدم فيه أحد من مشايخ الدولة ووجوهها، وهم إذ ذاك متوقّرون لم ينقص لهم عدد، ولا فقد منهم أحد... ومن جملة مَنْ معنا فى المجلس ممن يقول الشعر ابن سناء الملك، والأسعد أبو القاسم عبد الرحمن بن شيث، فاقترح الصاحب أن نعمل فى منجنيق الشمعة وكان الهواء عاصفاً..." (51) وإذا كان ابن ظافر يذكر أن هذا الحفل لم يعدم أحداً من مشايخ الدولة ووجوهها ويجعل نفسه أحدهم، كان أحق لابن النبيه أيضا أن يكون واحداً منهم، وهو على تلك المكانة التى أكدتها الرواية السابقة لتلك الرواية.

3-الحاجب حسام الدين على بن حماد الموصلى

 لم يوضح ديوان ابن النبيه شيئاً عن صلاته فى بلاد الجزيرة غير صلته بالحاجب حسام الدين بن حماد، النائب عن الملك الأشرف بخلاط، والمقدم على عساكرها، وقد مدحه ابن النبيه بقصيدة مطلعها:

هذا اللِّوى والحىُّ منْ أمامِهِ 
قدْ خفقَ البَرقُ على أعلامِهِ(52)

والقصيدة تبين ما كان يضطلع به الحاجب من المهام الجسام، والملاحظ أن نبرة الاستجداء والبحث عن الذات قد خفت حدتها فى مثل هذه القصائد ؛ لأن الشاعر قد بدأ يعتلى مكانة مرموقة جعلته فى حالة من الرضى النفسى.

ومما سبق نستطيع أن نتبين كيف كانت علاقة ابن النبيه بقادة الفكر والسياسة فى عصره، مما يعكس لنا مكانة مرموقة احتلها الشاعر بينهم، أهّلته لأن يجالسهم ويطارحهم الشعر، ويشاركهم أيضا أنسهم وسمرهم، بالإضافة إلى دوره على الساحتين السياسية و الفكرية، مما أمده بمحصول من الثقافة والعلم، أصّلت فكره، وخصّبت أخيلته.
 
المبحث الثانى - صنعة الشاعر وثقافته

عمل ابن النبيه فى مصر – كما سبق - رئيساً لديوان الخراج والحساب، ثم رئيساً لديوان الإنشاء فى مملكة «الأشرف» موسى بن العادل وهذا الديوان كان "يومئذ رأس الدولة المفكر ووسيلة اتصال الحكومة بفروعها فى داخل البلاد بغيرها من الحكومات فى خارج حدودها، وقد استطاع النثر أن يفى بحاجة الأمة، وكان العاملون فى ديوان الإنشاء فى غاية الصيانة وقلة الخلطة بالناس" (53) ويوضح لنا القلقشندى تلك المكانة العالية التى يعتليها كاتب الإنشاء فى قوله: " أما رفعة محله وشرف قدره فأرفع محل وأشرف قدر، يكاد ألا يكون عند الملك أخص منه ولا ألزم لمجالسته، ولم يزل صاحب هذا الديوان معظماً عند الملوك فى كل زمن مقدماً لديهم على ما عداه، يلقون إليه أسرارهم ويخصونه بخفايا أمورهم، وناهيك برتبة هذا محلها" (54) ويوضح المقريزى بعضاً مما يتميز به كاتب الإنشاء فى قوله: " وكان لا يتولاه إلا أجلّ كُتّاب البلاغة ويخاطب بالشيخ الأجل ويقال له كاتب الدست الشريف ويسلم المكاتبات الواردة مختومة فيعرضها على الخليفة من بعده، وهو الذى يأمر بتزييلها والإجابة عنها للكتاب، والخليفة يستشيره فى أكثر أموره، ولا يحجب عنه متى قصد المثول بين يديه، وهذا أمر لا يصل إليه غيره وربما بات عند الخليفة ليالى..." (55)

 وقد كان لا يحظى بتلك المكانة العالية إلا الأثرياء ووجهاء المجتمع، والمؤهلين بثقافة أدبية وفنية عالية، وهذا ما وضحه القاضى الفاضل فى قوله: "وكان من العادة أن كلاً من أرباب البيوت إذا نشأ له ولد أحضره إلى ديوان المكاتبات، ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويسمع، فأرسلنى والدى وكان إذ ذاك قاضياً بثغر عسقلان إلى الديار المصرية فى أيام الحافظ العبيدى وهو أحد خلفائها..." (56)

وإذا كان الأمر على ما وصفه القاضى الفاضل، فنستطيع أن نستدل به على أن ابن النبيه كان من أسرة لها شأن ووجاهة فى المجتمع فى ذلك الوقت ؛ حيث اهتمت بتربية ابنها وتأهيله لهذا العمل الهام.

وكان العمل فى ديوان الإنشاء يتطلب من صاحبه أن يكون ذا ثقافة رفيعة وعلم غزير، يوضحها القلقشندى فى قوله: "اعلم أنه لما كانت صناعة الكتابة مبنية على سلوك سبل الفصاحة واقتفاء سنن البلاغة وكانت هذه العلوم هى قاعدة عمود الفصاحة، ومسقط حجر البلاغة، اضطر الكاتب إلى معرفتها والإجابة بمقاصدها، ليتوصل بذلك إلى فهم الخطاب وإنشاء الجواب، جارياً فى ذلك على قوانين الله فى التركيب مع قوة الملكة فى إنشاء الأقوال المركبة المأخوذة عن الفصحاء والبلغاء من الخطب والرسائل والأشعار" (57) وبجانب هذه القدرة البلاغية يرى الدكتور شوقى ضيف أنه لا بد لكتاب الإنشاء فى كل العصور "من أن يتقنوا طائفة من المعارف وفى مقدمتها علوم اللسان العربى وعلم الفقه، وكان العلم الأخير ضرورياً لهم، لأنهم كانوا يكتبون فى شئون الخراج وفيما يجب على أهل الذمة أن يؤدوه من أموال، وكذلك كان علم الحساب من الضرورة لهم بمكان، وكانوا يلمون بكل علم مثل الكيمياء والطب والنجوم، وأكبّوا على الفلسفة والمنطق ليُدعّموا عقولهم، ولم يكن ذلك كل ثقافة الكاتب، فقد مضى يقرأ كل ما تُرْجم عن الحكمة اليونانية ومأثور ما تبادله الإسكندر المقدونى وأرسطو من رسائل..." (58)

 كل تلك العلوم والثقافات التى يحتاجها كاتب الإنشاء، تعكس لنا إلى أى مدى وصلت ثقافة ابن النبيه الذى "أعدّ نفسه للعمل فى ديوان الإنشاء فنال حظاً كبيراً من الدراسة التى تعد لهذا العمل، وكان معظم الكتاب يومئذ يعد من تمام مجده أن يكون كاتباً شاعراً، فكان كثير من أدباء هذا العصر يجمع بين الخصلتين" (59) أمثال القاضى الفاضل وابن سناء الملك والعماد الأصفهانى، وابن ظافر الأزدى والأسعد بن مماتى، وغيرهم ممن تركوا لنا آثاراً أدبية عظيمة سواء كانت شعرية أو نثرية "فالذى يقرأ ديوان ابن النبيه يستطيع بسهولة ويسر أن يحكم بأنه كان متضلعاً فى العلوم الأدبية وعلوم العربية، وكان متأثراً بشعر القدماء.."(60) ولم تحفظ لنا كتب التراث شيئا من آثاره النثرية نستطيع من خلالها الحكم على موهبته فى هذا الميدان ما عدا المقدمة التى قدّم بها لديوانه، والتى تدل على تأنق لفظى وبلاغى رفيع المستوى، يقول فى مطلعها: "الحمد لله الذى بثّ أرواح العقول فى أجساد الصور، وعَمّ البسيطة بأجناس الحيوانات، واختص منها بالنص البشر،" خلق الإنسان علمه البيان " ، وأظهر أسرار الحكمة بواسطة فهمه، وجعل بدائع صنعه ميداناً لجولات سوابق علمه، استخلصه لعبادته وشكره، كما شهد الكتاب المطهر المكنون، أنزل فيه " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"....." (61) فهذه المقدمة تدل دلالة واضحة على ما كان يتمتع به ابن النبيه من موهبة فى فن النثر، وأيضا ما كان يتحلى به من ثقافات مثل: الثقافة الدينية التى وضحت من خلال تضميناته من القرآن الكريم، وتلك النظرات الفلسفية فى مثل قوله: " وبث أرواح العقول...." ويتميز أسلوبه بالوضوح والبساطة والبعد عن الإغراق فى الصنعة، على عكس غيره من كتاب الدواوين فى ذلك الوقت، وأنه كان يزين إنشاءاته ويدعمها بالصور الفنية التى تناسب المعنى.

ومع تلك المميزات نجد عمر الأسعد محقق الديوان يرى أن من مستلزمات هذا المنصب أشياء صناعية جافة " صبغت هذا اللون من الشعر بصبغة خاصة تميز بها شعر الهواة من أصحاب دواوين الإنشاء والترسل، الذين اضطروا إلى القفز من قطار الأدب الرفيع، لعدم لقيانهم أماكن مخصصة له فيه، ومستلزمات هذا المنصب أيضا أحاطته بقيود لو برىء منها وأطلق لشياطين شعره سراحها وترك طبيعته على سجيتها، لأتى إنتاجه ثمرا أطيب وأكلا أنضج...."(62) ولكن هذا الرأى وإن كان صائبا من الوجهة المنطقية ؛ حيث قيل كثيرا على العديد من شعراء العربية لذوبانهم فى ممدوحيهم أو فى أعمالهم ذات التأثير مثل ديوان الإنشاء، ومع ذلك فلا يجب أن نطبقه تطبيقا حرفياً على ابن النبيه، حيث أن مستلزمات هذا المنصب لم تضر بالشاعر بقدر ما أكسبته الكثير من المنافع، فجاء شعره –كما سنرى- رصينا مدعما بالثقافات العلمية والدينية والبلاغية واللغوية إلى جانب انطباع شعره بطابع وجدانى رقيق، ويرى الدكتور عثمان موافى أن شعر الكتّاب

" قد كان فى أغلبه شعراً وجدانيا ذاتياً، يعبر عن موضوعات وجدانية تتصل بذات الشاعر، ونفسه اتصالا وثيقاً، وقد تأثر فى صياغته الفنية ببعض موضوعات النثر، وأصولها الفنية، من ذلك موضوع الإخوانيات الذى كثر تناول هؤلاء الشعراء له فى أشعارهم " (63) .

وسيتضح من خلال دراستنا للديوان انعكاس صنعة الشاعر على جوهر شعره وخصائصه الفنية.
 
المبحث الثالث – مكانة الشاعر الفنية

كان لابن النبيه مكانة فنية عالية فى عصره وبعد عصره، مما حدا بالشعراء إلى معارضته والنسج على منواله فى كثير من قصائده، وقد ذكر الصفدى فى ترجمته لابن النبيه عدداً من هؤلاء الشعراء الذين عارضوه، مثل التلعفرى الأديب البارع الذى وصفه ابن سعيد بـ " الفيلسوف المتفنن الشاعر الموفق التلعفرى مظفر بن محمد...." (64) الذى مدح الملوك وتقلّب فى بلاطهم ومدح الملك الأشرف موسى، أى أنه كان معاصراً لابن النبيه فى آخر أيامه. وذكر الصفدى بعد ذكره لقصيدة ابن النبيه:

بـدرُ تِـمٍّ لهُ من الشَّعرِ هالَهْ 
مـنْ رآهُ مـن المحبيـنَ هـالَـهْ(65)

" وقد تقدم فى ترجمة محمد بن يوسف التلعفرى قصيدة على هذا الوزن " (66) وتلك القصيدة هى قوله:

أىَّ دمـعٍ مـنْ الجفـونِ أسالَه مُذْ أتتـه مع النسيـمِ رسـالَه
حملتـهُ الريـاحُ أسـرارَ عرفٍ أودعتهـا السحـائبَ الهطَّـالـه

 يقول فيها:

يـا خليلى، و للخليـلِ حقـوقٌ واجباتُ الأحوالِ فى كـلِّ حـاله
سـلْ عقيقَ الحِمى وقـلْ إذ تراه خاليـاً مـن ظـبائِـه المختالـه
أيـن تـلك المراشـفِ العسليّـا تِ وتـلـك المعـاطفِ العسَّالـه
ولـيـالٍ قـضيتُهــا كـلآلٍ بغــزالٍ تغـارُ منـه الغزالَـه
بابـلىُّ الألحاظِ والريـقِ والألـ ـفـاظِ كـلُّ مدامـةٍ سلسـالَـه
مـن بنى التركِ كلما جذبَ القو سَ رأينـا فى بُرجه بدر هـالَـه
يقطعُ الوهمَ حينَ يرمى ولايـدْ رِى يـداهُ أمْ عينـه النـبَّـالـه
قلت لمـا ألوى ديـون وصالى وهـو مثـرٍ وقـادرٌ لا محالَـه
بيننا الشرعُ، قال: سر بى فعندى من صفـاتِى لكـلِّ دعـوى دِلاله
و شهودِى من خـالِ خدِّى وقدِّى فـشهـودٌ معـروفةٌ بـالعدالـه
أنا وكَّـلتُ مُقلتى فى دمِ الخلـ ـقِ فقالت: قبلتُ هذِى الوكَالـه (67)

وبمطابقة تلك القصيدة بقصيدة ابن النبيه، وجدت أن قصيدة التلعفرى هى معارضة لقصيدة ابن النبيه فى المعنى والمبنى، حيث أن كلا القصيدتين مصاغتان فى بحر الخفيف، بالإضافة إلى غرام التلعفرى بنفس قافية سابقه ونفس ألفاظ القوافى، بالإضافة إلى محاولته تتبع المعنى بل والألفاظ التى تتركب منها قصيدة ابن النبيه، فمن ينظر إلى البيتين الخامس والسادس من قصيدة التلعفرى يجدهما منطبقين لفظا ومعنى مع بيتى ابن النبيه:

قصُرَ الليلُ حينَ ولى ولا غَرْ وغزالٌ غارَتْ عليهِ الغزالَهْ
كلُّ معسولةِ المراشفِ بيضا ءَ حمَتْها سُمْرُ القَنا العَسَّالَهْ (68)

ويُرجع أحد النقاد كثرة المعارضات فى ذلك العصر إلى دافع الإعجاب الذى سيطر على الشعراء " فينتقلون معه من لون إلى لون – يساعدهم على ذلك ازدهار الصنعة فى تلك الآونة – فتارة تعتمد المعارضة على التشطير أو التخميس أو التسبيع أو التعشير وتارة تعتمد على الإجازة، وثالثة لا تعتمد على ذلك ولكنها ترتبط بالصبغ البديعى، بحيث أطلق على العصر "عصر البديعيات " وطوراً تقوم على الإعجاب فحسب، بدون أن تلبس بأى لون آخر من تلك الألوان" (69)

ودافع الإعجاب هذا شجع شعراء غير التلعفرى على معارضة هذه القصيدة أمثال الصفدى فى قصيدته:

ذكـرَ البـانَ بالعقيــقِ وضَالَه عندمـا شـامَ برقه فأضـالَـهْ (70)

يقول فى بعض أبياتها:

أىُّ عيــشٍ يهنـا بقولى: عَساهُم، والأمانى على المُحالِ مُحالَه
بـأبـى أهْيـفٌ تعلـم منـه غصــنُ بـانٍ مَيْلَـه و اعتـدالَـه
وحَكـاه الخَطِّـىُّ لـونـاً ولينـاً لـمْ يـزدْه وذاك شــرطُ العَـدَالَه
مـا تثنَّـى عِطْفـاه إلا وأمْسَـتْ ألِفُ القـدّ بـالنسـيمِ مُمَـالَه (71)

 وهناك شاعر آخر تأثر بابن النبيه تأثراً كبيراً فى كثير من المعانى، وهو صفى الدين الحلى الذى يقول عنه الصفدى: " شاعر أصبح به راجح الحلى ناقصاً، وكان سابقاً فعاد على عقبه ناكصاً، أجاد القصائد المطولة والمقاطيع، وأتى بما أخجل زهر النجوم فى السماء فما قدر زهر الأرض فى الربيع، تطربك ألفاظه المصقولة، ومعانيه المعسولة ومقاصده التى كأنها سهام راشقة وسيوف مسلولة"(72) ونجد الصفى الحلى – على علو قدره ومكانته – شديد الإعجاب بابن النبيه، فمن يتصفح ديوانه يجده متضمنا لكثير من المعانى التى سبقه إليها ابن النبيه وكذلك القصائد التى عارض فيها سابقه، مثل قصيدة ابن النبيه:

يا ساكنِى السَّفحِ كم عينٍ بكُم سَفحتْ 
نزحتُمُ فهى بعدَ البُعدِ قد نَزَحتْ (73)

يقول الصفدى: "وفى ترجمة صفى الدين عبد العزيز بن سرايا الحلى قصيدة على وزن هذه ذكرتها هناك" (74) وفى موضع آخر يقول: " , انشدنى له إجازة:

يا نسمةً لأحاديثِ الحِمى شرحتْ 
كمْ من صدورٍ لأربابِ النُّهى شرحتْ (75)

يقول فيها:

بليلـةٍ البـردِ يهـدى للقلـوبِ بها 
بردٌ فكمْ لفحـتْ قلبى وقـد نفحتْ
وبارقٌ كسقيـطِ الزَّنــدِ مقتـدحٌ 
لهُ يدٌ لزنـادِ الشـوقِ قد قْدحـتْ
بدا فأذكرَنى أرضُ الصِّـراةِ وقدْ 
تكلَّلت بالكـلاءِ والشيـحِ واتشحتْ
والريـحُ نائحــةٌ والسحبُ سافحةٌ 
والغُـدرُ طافحةٌ والورقُ قد صدحتْ

ويقول:

وظبيـةٌ من ظبـاءِ التـركِ كاليةً 
لكنها فى رياضِ القلبِ قدْ سرحتْ
إن جالَ ماءُ الحيا فى خدِّها خجلتْ 
وإن ترددَّ فى أجفانِـهـا اتَّـقحتْ
قسـتْ على صبِّـها قلب ووجنتِها 
لو مرَّ تقبيلُهـا بالوهـمِ لانجرحتْ
سألتُـهـا قُبلــةً والوقتُ مُنفسحٌ 
لنا فما رخَّصت فيهـا ولا فسَحتْ
وخلتُ أعطافَهـا بالعطـفِ تمنحُنى 
فمانحتْ ذلك المنحا ولا منَحتْ (76)

وتلك الأبيات الأخيرة هى معارضة لقول ابن النبيه:

لهفِـى لـظَبيَـةِ إنـسٍ منكمُ نفرَتْ 
لابل هى الشمسُ زالتْ بعدما جَنحَتْ
بيضاءُ حجَّبها الواشونَ حيـن سَرَتْ 
عنى فلو لمَحتْ صبغَ الدُّجا لمحَـتْ
يقتصُّ من وجنتيهـا لحظُ عاشِقهَـا 
إن ضرَّجتْ قلبَه باللَّحظِ أو جّرَحتْ
يهتـزُّ بين وشاحيْهـا قضيـبُ نقَا 
حمائمُ الحَلْى فى أفنانِـه صدَحَـتْ
و أسودُ الخـالِ فى مُحمـرِّ وجنتِها 
كمسكـةٍ نفحَـتْ فى جمـرةٍ لفحتْ
لهـا جفـونٌ وأعطافٌ عجبتُ لها 
بالسُّقمِ صحتْ وبالسُّكرالشديدِصحَتْ (77)

وقد تأثر بتلك القصيدة كبار الشعراء وحاولوا معارضتها، والنسج على منوالها، مثل الصفدى فى قوله: "ولى أنا قصيدة فى هذا الوزن وعلى هذا الروى استحيى أن أذكرها بعد هذه، ولكن فتنة الإنسان بكلامه أوجبت إيرادها، وهى:

وفَى لها الحُسنُ طوعاً بالّذى اقترحتْ 
فلـو رأتْهـا بُـدور التَّـمَّ لافتُضِحـتْ
كأنهـا البـدرُ فى ليـلِ الذوائِبِ قدْ 
تقلـدتَ بـالنجـومِ الزُّهْـر واتشحَـتْ
صحتَّ على سقـمٍ أجفانُهـا وكـذا 
أعطافُها وهى سَكْرَى بالشبابِ صحَتْ
تفـرى حَشَاىَ وتفنيهـا لـواحظُها 
ما ضَرَّ تلك الصِّفاح البيضِ لو صَفحتْ
مهـاةُ حسـنٍ أداريهـا إذا نفـرتْ 
عنِّى وأعطِفها بالعَتْب إن جَمحَـت (78)

فمن يطابق القصيدتين، يجد أن الصفدى قد عارض قصيدة ابن النبيه معارضة حرفية فى المعنى والمبنى، وكذلك عارضها ابن نباتة السعدى، ولذا يقول عنها ابن حجة الحموى فى خزانته: " والقصيدة كلها تحف وطرف عارضها ابن نباتة مما حلا معها مكرر نباته، وأجرى الصفدى معها ينابيع فكره فما صفا له معها مورد وجاراها الصفدى فتصعدت سوابق قوافيه عن لحاقها "(79)

ولم يقف التأثر بابن النبيه عند شعراء العصر المملوكى، لكن يبدو أن هذا التأثر قد امتد إلى شعراء العصر الحديث أمثال أمير الشعراء أحمد شوقى، وقد لاحظ الدكتور جابر عصفور هذا التأثر فى قوله:" ويبدو أن للوزن الشعرى دوراً مهماً فى عملية التداعى التى يستدعى بها البحر العروضى ونغماته من ذاكرة الشاعر كل ما يجانسه بجامع التشابه الصوتى. وذلك ما حدث بالفعل فى قصيدة شوقى بمناسبة انتصار كمال أتاتورك والتى مطلعها:

الله أكبـرُكمْ فى الفتحِ من عجبِ يا خـالدَ التركِ جددْ خالدَ العربِ

فهذا المطلع نفسه ليس سوى ترجيع لمطلع آخر من الوزن نفسه والقافية نفسها من قصيدة ابن النبيه الشاعر المصرى التى تبدأ بهذا البيت:

اللهُ أكبرُ ليسَ الحُسنُ فى العَرَبِى كم تحتَ كُمَّةِ ذا التُّركِىِّ من عَجَبِ(80)

فنلاحظ التأثر فى الوزن والكلمات، بل والحس الشعرى يقارب بين الشاعرين الكبيرين، ومع ذلك نجد الدكتور طه حسين يُرجع تأثر شوقى كله إلى قصيدة أبى تمام فيقول: " ثم رأينا معاً أن شوقى إنما اتخذ قصيدة أبى تمام هذه نموذجاً حين أراد أن ينظم قصيدة فى انتصار الترك، ومن غريب الأمر أن اتخذ القصيدة نموذجاً فى اللفظ والمعنى وفى الوزن والقافية، فمطلع أبى تمام:

السيـفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ 
فى حـدِّه الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ

فهى من البسيط وقافيتها الباء ورويتها مكسورة، وكذلك قصيدة شوقى ؛ فأبو تمام إذن هو الذى قدم إلى شوقى قوافيه وشيئا غير قليل من ألفاظه ومعانيه " (81) ومع أننا نوافق الدكتور طه حسين على رأيه، إلا أن ذلك لا ينفى مبدأ تأثر شوقى بمطلع ابن النبيه فى اللفظ والبنية ووزن القصيدة وقافيتها، وامتداد هذا التأثر إلى العصر الحديث يدل دلالة قوية ًعلى منزلة ابن النبيه ومكانته الفنية المتميزة.

ويدلنا على هذه المكانة التى احتلها ابن النبيه الأبيات التى رثاه بها أحد الشعراء وهو شهاب الدين أبوالخطاب الربعى (82)يقول فيها:

شعـراءَ الزمـانِ إنَّ المعـانِى والمعـالِى تبكِى على ابنِ النَّبيهِ
مات روحُ القريضِ واخُترَم الـ ـفضـلُ وحسنُ البدِيعْ والتشبيهِ
كــان عنـد الإنشاديةَ موسى فـالقَـوافِى من بعـدِه فى التِّيهِ (83)

فتلك الأبيات - على إيجازها – تبين قدر ابن النبيه ومنزلته الأدبية والسياسية العالية، حيث بكت عليه كل من المعانى والمعالى، وكان لموته أثر سىء على الحياة الأدبية فى عصره، ويشير الشاعر إلى اختصاص ابن النبيه بملكه الأشرف دون غيره من ممدوحيه حتى آخر أيامه.

ومما سبق يتأكد لنا غموض حياة الشاعر وأن ما قدمناه هو استقراء للنصوص الوجيزة الواردة عنه، والتى تشابهت فى مضمونها، وكذلك استقراء لديوان الشاعر الذى لم يذكر فيه شيئاً عن حياته سوى أبيات بثَّ فيها حنينه وشوقه إلى وطنه الذى تركه بحثاً عن مكانةٍ فنيةٍ وسياسيةٍ مرموقة، أهّلته لها ثقافته المتميزة التى تنوعت روافدها وانعكست على مضمون فنه الشعرى، مما جعل الشعراء اللاحقين له يعجبون بفنه ويحاولون معارضته بالكثير من القصائد حتى العصر الحديث.

الهوامش

  1. ابن خلكان : وفيات الأعيان ، تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد مطبعة السعادة 1948 ، جـ 4 ، . ص 418 ، وذكره ابن إياس أيضاً فى أخبار سنة 597 فى سياق الحديث عن الملك الأشرف : " وهو ممدوح القاضى كمال الدين بن النبيه فى جميع قصائده" بدائع الزهور فى وقائع الدهور ، مطابع الشعب 1961 ، ص 72.
  2. صلاح الدين الصفدى : الوافى بالوفيات ، تحقيق محمد الحجيرى جـ21 ، ص 431 – 432 ، والعبارة . نفسها ذكرها ابن شاكر فى الفوات وختمها بقوله : " وديوان شعره كله من هذا الأسلوب وهو موجود فى . أيدى الناس ، رحمه الله " فوات الوفيات ، تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد ، ط السعادة 1951 ، . 2: 143.
  3. ابن تغرى بردى : النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة ، ط دار الكتب المصرية 1949 ، 6 :243.
  4. ابن العماد الحنبلى : شذرات الذهب فى أخبار من ذهب ، ط مصر 1351 هـ ، 5: 85 .
  5. الذهبى: سيرأعلام النبلاء ، تحقيق بشارعواد معروف ، د. محى هلال السرحان ، مؤسسة الرسالة 22 :38
  6. جلال الدين السيوطى : حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة ، جـ1 ص 326.
  7. ابن الشعار الموصلى : قلائد الجمان ، سلسلة (جـ) عيون التراث ، يصدرها فؤاد سزكين ، معهد تاريخ . العلوم العربية والإسلامية ، 1410هـ-# 1990م ، الجزء الرابع ، ص 306 – 307 .
  8. خير الدين الزريكلى : الأعلام ، المجلد الرابع ، دار العلم للملايين ، تحقيق عبدالسلام على ، ص 331.
  9. د. شوقى ضيف : عصر الدول والإمارات ، مصر ، ص 171-# 172 .
  10. د. محمد كامل حسين : دراسات فى الشعر فى عصر الأيوبيين ، ص 159-# 160.
  11. غريب محمد على أحمد : الرواسب الشيعية فى الشعر الأيوبى ، رسالة ماجستير مخطوطة ، القاهرة . 1397هـ-# 1977م ، ص 176-# 177.
  12. ابن واصل الحموى : مفرج الكروب فى أخبار بنى أيوب ، 3 : 157.
  13. ابن فضل الله العمرى : مسالك الأبصار ، سلسلة (جـ) عيون التراث ، يصدرها فؤاد سزكين ، معهد . تاريخ العلوم العربية والإسلامية ، 1408هـ-# 1988م ، جـ 18 ، ص 123 .
  14. د. أحمد بدوى : الحياة الأدبية فى عصر الحروب الصليبية ، ص 204 .
  15. ديوان ابن النبيه ، ص 156.
  16. د. محمد كامل حسين دراسات فى الشعر فى عصر الأيوبيين ، ص 160.
  17. ياقوت الحموى : معجم البلدان ، المجلد الثانى دار صادر بيروت ، طـ الثانية 1995 ، ص 235.
  18. أبو شامة المقدسى : الروضتين فى أخبار الدولتين ، جـ1 ، ص 130.
  19. ابن العماد الحنبلى : شذرات الذهب ، جـ 4 ، ص 325.
  20. د. محمد كامل حسين : دراسات فى الشعر فى عصر الأيوبيين ، ص 212.
  21. العماد الأصفهانى : خريدة القصر وجريدة العصر ، قسم شعراء مصر ، جـ 1 ، ص 38 .
  22. المصدر السابق ، ص 39.
  23. ديوان ابن النبيه ، ص 402.
  24. المصدر نفسه ، ص 496.
  25. العماد الأصفهانى : خريدة القصر وجريدة العصر ، قسم شعراء مصر ، جـ1 ، ص 100.
  26. د. محمد كامل حسين : دراسات فى الشعر فى عصر الأيوبيين ، ص 221.
  27. المرجع نفسه ، ص222.
  28. على بن ظافر الأزدى : بدائع البدائه ، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ، مطبعة الأنجلو المصرية ، . 1970 ، ص 276.
  29. المصدر نفسه ، ص 276-# 277 ، وورد البيتان فى الديوان برواية أخرى للبيت الثانى:
    أنت يا ليل صاحبى فامنع الصبــ ـح وكن أنت يا دجى برد دارا
    الديوان ص 391 .
  30. المصدر نفسه .
  31. ديوان ابن النبيه ، ص411.
  32. المصدر السابق ، ص 416.
  33. ابن سعيد الأندلسى : الغصون اليانعة ، ص 19.
  34. المصدر نفسه .
  35. المصدر نفسه.
  36. المصدر نفسه ، ص 120.
  37. ديوان ابن النبيه ، ص 473.
  38. المصدر السابق ، ص476.
  39. ياقوت الحموى : معجم الأدباء ، جـ 13 ، ص 264.
  40. المصدر نفسه ، جـ 3 ، ص 264.
  41. د . عيد بلبع على بن ظافر وكتابه بدائع البدائه ، ص 63.
  42. د محمد زغلول سلام : الأدب فى العصر الأيوبى ، جـ 2 ، ص 161.
  43. د . عيد بلبع : على بن ظافر وكتابه بدائع البدائة ، ص 116.
  44. على بن ظافر : بدائع البدائه ، ص 325 – 326.
  45. المصدر السابق ، ص209.
  46. المصدر السابق .
  47. د. عيد بلبع : على بن ظافر و كتابة بدائع البدائة ، ص91.
  48. على بن ظافر : بدائع البدائه ، ص 274.
  49. المصدر نفسه ص 188.
  50. د. محمد زغلول سلام : الأدب فى العصر الأيوبى ، جـ 2 ، ص 161.
  51. على بن ظافر : بدائع البدائه ، ص268.
  52. ديوان ابن النبيه ، ص 383.
  53. محمد محمود نغش: الكتابة الديوانية بمصر فى عصر الدولة الأيوبية ، رسالة ماجستير مخطوطة جامعة . القاهرة ، ص 20.
  54. أبو العباس القلقشندى : صبح الأعشى فى صناعة الإنشا ، جـ 1 ، ص 101.
  55. المقريزى : الخطط المقريزية ، طبع بمطبعة النيل بمصر 1334هـ ، جـ 2 ، ص244.
  56. ابن حجة الحموى : ثمرات الأوراق فى المحاضرات ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ص 65.
  57. القلشندى : صبح الأعشى فى صناعة الإنشا ، جـ 1 ، ص 180.
  58. د. شوقى ضيف : العصر العباسى الأول ، دار المعارف الطبعة التاسعة ، ص466 – 467.
  59. د. أحمد بدوى : الحياة الأدبية فى عصر الحروب الصليبية ، ص 204.
  60. د. محمد كامل حسين : دراسات فى الشعر فى عصر الأيوبيين ، ص 154.
  61. مقدمة الديوان ، ص 77-# 78.
  62. المصدر نفسه ، ص 18 – 19.
  63. د. عثمان موافى : نظرية الأدب ، دار المعرفة الجامعية بالأسكندرية 1994م ، ص 135.
  64. ابن سعيد الأندلسى : الغصون اليانعة ، ص 59 " وهو شهاب الدين أبو عبدالله الشيبانى التلعفرى الشاعر المشهور ولد بالموصل سنة ثلاث وتسعين واشتغل بالمدح ومدح الملوك والأعيان توفى سنة خمسين . وسبعين وستمائة " الوافى بالوفيات للصفدى ، جـ 5 ، ص 255، 256
  65. ديوان ابن النبيه ، ص 473.
  66. صلاح الدين الصفدى : الوافى بالوفيات ، تحقيق محمد الحجيرى ، جـ 21 ، ص 435.
  67. المصدر نفسه ، اعتناء ديدر ينغ-# الطبعة الثانية دار النشر فرانز ستايز بغيسبادن ، جـ5 ، ص 259. وديوان التلعفرى ، ص 34 ، صححه وراجعه السيد محمد سليم الأنسى ، المطبعة الأدبية ببيروت ، . 1310هـ
  68. ديوان ابن النبيه ، ص 473 – 474.
  69. د. إبراهيم عوضين : المعارضة فى الأدب العربى ، مطبعة السعادة الأولى 1401هـ-# 1981 ، . ص 120 – 121.
  70. الصفدى : الوافى بالوفيات ، تحقيق محمد الحجيرى ، جـ21 ، ص 435.
  71. المصدر نفسه ، جـ 21 ، ص 435-# 436 .
  72. المصدر نفسه باعتناء أيمن فؤاد سيد الطبعة الثانية 1411 هـ-# 1991 م ، جـ 18 ، ص481-# 482 وهو " صفى الدين عبدالعزيز بن سرايا الحلى، كان مولده يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة سبع . وسبعين وستمائة ، وتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة ".
  73. ديوان ابن النبيه ، ص 165.
  74. الصفدى : الوافى بالوفيات ، جـ21 ، ص 446.
  75. المصدر نفسه ، جـ 18 ، ص503. وديوان صفى الدين الحلى طبعة دمشق ، 1297 هـ ، ص 104.
  76. صلاح الدين الصفدى : الوافى بالوفيات ، جـ18 ، ص 503. وديوان صفى الدين الحلى ص 105.
  77. ديوان ابن النبيه ، ص 165-# 166 .
  78. صلاح الدين الصفدى : الوافى بالوفيات ، جـ 21 ، ص 446.
  79. ابن حجة الحموى : خزانة الأدب ، ص 6.
  80. د. جابر عصفور : القيود تكبل الشاعر ، مجلة العربى الكويتية ، العدد 422 يناير 1994 ، ص 118.
  81. د. طه حسين : حافظ وشوقى ، ص 36 .
  82. "هو محمد بن جعفر أبو الخطاب الربعى النبلى أحد الشعراء... كان أديباً فاضلاً حسن الأخلاق متودداً . وسافر إلى بلاد الجزيرة وأقام بآمد ومدح السلاطين وأثرت حاله وشعره جيد ، وغزله رقيق وأسلوبه حسن " الوافى بالوفيات ، جـ2 ، ص 300 – 301 .
  83. المصدر نفسه ، جـ 21 ، ص 451 .
حياته ومكانته الفنية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى