الأحد ٧ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم إياس يوسف ناصر

البسمة الدامعة

بين نبيذ شفتيكِ وشمع عينيكِ أبقى معكِ في مساء الحب الخالد. لا أحمل غيرَ فكرة حاولتُ أن أصوغَها لتحتويَكِ، فلم أستطعْ أن أجدَ لها مكانًا في هذا الكون الفسيح. أوتكفيني فكرةٌ لأكونَ قطرةً من الندى على نرجسة في أودية الجليل الشامخ! أوتكفيني شمعةٌ لأكتبَ على نورها ما يذوبُ مني على الورق! أوتكفيني نظرةٌ لأجمعَ فيها كلَّ ما فيكِ من جمال...

فأجملُ ما في الحب يا حبيبتي أننا نفتش عن مسكنه وهو ساكنٌ فينا، وأجملُ ما في الكلمات الصادقة أنها تبقى حيّةً على شواطئ الألفاظ، لأننا نَسمَعُ فيها شيئًا من وجيب قلوبنا وأغاريد أرواحنا، وأجملُ ما في البحر أن الموجَ يَرقُصُ على غناء الريح، كما تَرقُص دموعُنا يا حبيبتي على غناء الحب الجميل!

كلما لبس الليلُ عباءةَ الأحلام، وبانَ القمرُ راقصًا على شعاف الجبال الشوامخ، خامَرَ الحبُّ فؤادي، وجَعلتُ أرعى النجومَ وأسائلها عن أيامنا يا حبيبتي!! أين يا حبيبتي ذلك المطر الذي بلَّلَنا على أدراج المساء! وأين تلك الشجرة التي أظلَّتنا في ربيع الحياة! وأين تلك النجوم التي نَظمَتْ على عُنقَيْنا عقودًا من الحب والهيام! وأين تلك الطرقات التي تَرَكْنا على مقاعدها ملامحَنا وأصداءَ أنفاسنا! وأين تلك الكلمات التي كتبناها على رمل الشاطئ، فوثب عليها الموجُ وذهب بها إلى لُجَّة البحر الزاخر! وأين تلك العصافيرُ التي نَثرْنا على ريشها... نشيدَ الحرية الضائع...

يَهرُبُ المطرُ النائمُ على ثوب السهول والجبال حين تستيقظ الشمسُ وتقبّل وجهَ البسيطة... ويذوبُ اللحنُ في كأس الصدى حين يَخرُج من مبسم الأوتار ميّاسًا في حقول الأناشيد... ويَرقُدُ الأدباءُ والشعراءُ الأحياءُ في ضرائح الروايات والأشعار حتى يُقَضقِضَ الزمنُ ورقَ كلماتهم ليَحفَظَها في عقول المارّين بها!!

ها أنا ذا أجالس دفتري الذي أجمع فيه شيئًا من أشلاء سكينتي، والليلُ ينادمني على هذه الأناغيم التي تَخرُج من جوف خواطري. أتلفَّتُ إلى اللحظات التي تودِّعني في كل لحظة وهي حاملةٌ ربيعي وخريفي، فأكاد أتفطَّر منها جَزَعًا حين تَرجع إليّ بما ذهبتْ به قبل أعوام من الأحلام المجازية. فأقابلها بهذا الدفتر الممزَّق الثوب بين يديّ، فأجدها قد جَمعتْ تحت رماد الموقد أجيجَ الأيام العابرة، وخبَّأتْ بين تلافيف الغيوم أمطارَ الزوبعة الغابرة...

ربما كتبْنا على الورق بأفصح اللغات ما تُمليه علينا قرائحُنا من كلام سَبْط رقيق، ولكنا نستودع الزمنَ لحظاتِنا التي تَنسُج بخيوط الذكريات ثوبَ الزمن الجديد! فللأجساد خبزٌ من الزمن تعيش به، وللأرواح خمرةٌ من الذكريات تنتشي منها مُحلّقةً في هذا الكون العظيم!

فما أقوى الزمنَ الذي يُسيِّرنا فيه كي يَسيرَ فينا، ويُبقيَ منّا حكاياتٍ تردِّدها أفواهُ الذكريات على مسامع الأرواح!! وما أقوى الزمنَ الذي نفتش عنه في ملامح وجوهنا وخطوط أيدينا، فلا نراه إلا في مِرآة هواجسنا المنسيّة على مفارق الأشواق!!

أحرقُ عمري بَخورًا في مَجامر الحياة لأنني أحبُّها، فليس شيء بغير حب يحيا يا حبيبتي، ولا يستطيع الزمن - على سلطانه - أن يَجعَلَ من الحب زورقًا تتذاءبُ عليه بَراثنُ الريح العاصفة لتكسّره على خاصرة الصخور...

تبكي الجداول في الخمائل لأنها تَعشَق ابتسامات الأزهار، وتميس أنسامُ النسرين والآس ليَسبَحَ المسكُ في بحر الأثير، ويُهريق الفجرُ دموعَه على خدود الأرض، ليَسكر المستيقظون بجمال الخليقة البديعة!! فأين الزمن من هذا الحبّ السرمديّ يا حبيبتي! وأين الزمن من الأعناب التي عصرناها في بساتين الهوى، حيث لا تزال كلماتُنا محفورةً على ظلال الشجر الوريق! وأين الزمن من سراج الحب الذي أنار قلبينا لنسير في دَياجي الليل خلف أحلامنا الجميلة! وأين الزمن من جسدين شتيتين، تَجمَعهما أوتارُ النهاوند يا حبيبتي في سكينة روح واحدة...

إن الجمرَ الذي تتركه النيرانُ على وسائد الرماد ليس بأحرّ من الجمر الذي يتركه الحب على مواقد قلبي... والحب الذي يقطف عن غصوني أثمارَ السنين أقوى من الدهر الذي يكدس أيامي في خزائنه... ها أنا ذا أحملُ من الغد ما يَبوحُ به الأمس، ولا أَحملُ من الحب إلا لحظةً حاضرةً هي عندي أعظمُ من كل دهر!

قد كنتُ أظن أن الحب جذوةٌ متأججة تطفئها مدامعُ القبل، أو نظرةٌ يانعة تجفّ على حَرّ اللقاء، أو صوتٌ رهيف يَسكبه الإحساسُ في كأس من الألفاظ... فإذا هو نارٌ تحترق بها روحي لتَنثُرَ رمادَها على ضفاف الحياة، وخبزٌ أزليّ آكله لأظل جائعًا إلى الأبدية الروحانية!! فأنا أجد حياتي في مجاعتي...

يا حب... يا حب!! يا عزم الضعفاء وابتسام الحزناء... يا موئل المتعَبين وفرح النادبين... يا أبديّة الغابرين وأزليّة المرحَّلين... يا موطن المظلومين واغتراب المحتلّين...!! نظرتُ بعينيكَ فاستحالتْ كآبتي فرحًا، ومشيتُ خلفكَ فعلمتُ أن حياتي كانت محجوبةً بستائر الأيام، وأعطيتُكَ قلبي فجعلتَهُ مِفتاحًا لكنزي في السماوات "حيثُ لا يَقرَبُ سارقٌ ولا يُبلي سوس".

فيا أبناء الحرية المكبّلة بالشرائع البشرية... تعالوا نقتسمْ خبزَ الحب ونتنازعْ كأسَ دمه لتكونَ قلوبُنا قرابينَ في مذابح الحرية... هَلُمَّ نشربْ هذه المدامة السماوية لنتجرَّد من الأحكام الدنياوية التي تدوس الأزهارَ بقَدَم الظواهر، وتغلق النوافذ في وجه المطر الحزين!!

هكذا الحب!! يُفرِّقوننا به لنجتمعَ فيه، ويقتلوننا بسيوفه لنحيا من أجله في معابد أرواحنا... وهكذا أنا!! حيثما تكن دمعتي أو بسمتي أضع نفسي هناك... وفي هذه السماء كلُّ ما لا تقبله الأرض!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى