الخميس ١١ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم محمد محمد علي جنيدي

خرجت ولم تعد

كانت الليلة هي آخر أيام حياتها.. خرجت ولكنها لم تعد ثانية إلى بيت أبيها.. هي علياء شاهقة الجمال الطالبة في كلية الآداب والمخطوبة إلى ابن عمها أحمد والذى كان في سنته الآخيرة بكلية الحقوق وبطل الجامعة في الملاكمة.

لقد كانا ينتظران معاً نهاية العام ليصنعا أجمل حلم عرس لقريتهما فهو ابن العمدة الكريم المحبوب لأهل قريته وهي من هي.. وهي التي استنهضت أقلام شعراء الجامعة في مدح جمالها فإذا ما رأيتها تمشي تحسبها عود من الريحان قد غازلته نسمة الربيع الباسمة،عيناها مدينة ضاربة في أعماق الزمن البعيد والتي إذا منحتك جواز المرور أليها أمضيت فيها رحلة لا تنساها ما دمت حيّاً باختصار هي كما قالوا عنها سفيرة الجمال أينما توجهت.

لقد أنهت علياء أجازة نصف العام في سعادة غامرة ولكنها قالت لخطيبها وابن عمها أحمد في صباح اليوم الآخير والذي فارقت فيه الحياة: تذكرني يا أحمد وخذ عني هذا الشال فإذا ما فقدتني سوف تجدني فيه ولن تغرب عنه رائحتي مادمت تحفظه عني.. لكنه قاطعها قائلاً: ما عليكِ.. لا ورب الكعبة لن تموتي إلا بعدي.. لماذا هذا التشآؤم يا علياء!، ثم إذا بالنهار قد أدبر و ليل الوداع قد أقبل عندما توجها معاً إلى حافلة الفراق والذي اقتادها سائقٌ ضربته هموم الحياة في قلبه وفكره.. فكم كان شارد الذهن ضائع التركيز، وأثناء قيادته في هذه الليلة الباردة وهو قابعٌ في أحزانه وهمومه هاجمته من الجهة المقابلة حافلة نقل بضائع جبارة كان يقتادها سكير أحمق، فأراد أن يتفاداه فانحاز مسرعاً في اتجاة الترعة المجاورة لعل وعسى أن ينجو بمن معه فلم تطاوعه الأقدار كما لم يمهل القضاء أصحابه إذا حل بهم، أمسك أحمد بيد علياء واحتضنها قائلاً لها: لا تخافي أبداً سأنجو بك إن شاء الله واستطاع بالفعل قبل أن تكمل الحافلة غرقها أن يخرج بعلياء من النافذة المجاورة لهما – ولكن – أين علياء وقد أسلمت روحها الطاهرة إلى بارئها.

وعلى الرغم من أن معظم أصحاب الحافلة قد ماتوا غرقى غير أن أحمد كان وما يزال يحتضن علياء معتقداً بأنها في إغماءة ستعود بعدها إلى الحياة.

انتظر أحمد بالمستشفى داعياً مولاه أن ينجي له علياء.. حتى جاءه الطبيب الشرعي ممسكاً بكتفيه قائلاً له: كل نفسٍ ذائقة الموت..علياء لم تمت غريقه ولكنها فارقت الحياة وهي في حضنك يا بني..

والغريب حقّاً أن الدموع قد بخلت على أحمد أن تمنحه شيئاً من السكينة فلم تزره ولم تحضر إلى أجفانه أبداً.

ثم إذا به يكسر حاجز الصمت بينه وبين كافة الحضور قائلاً للطبيب: أستسمحك سيدي أن تأذن لي بإعطائي الشال الذي تلتف به علياء فهو وصيتها لي.

ومرت الأيام – ولكن – ما كان حديثه لأصحابه مع كل ليلة تمر به وهو يلتف بشال حبيبته سابحاً في ذكرياته معها إلا أن يقول لهم: اقترب الموعد يا أصدقائي سوف أراها غداً بإذن الله جامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، أعدكم بألا ينال الفراق منا ساعة أخرى وحينها سوف يبتل صبري وتسكن روحي ويبتسم الوجود لقلبي المحتسب.

 
 
 
 
 
 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى