الخميس ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم صبحي فحماوي

للضرورات أحكام

بعد تخرجهما من كلية تربية مخيم الشاطىء، بحثت كل من تغريد وماجدة عن وظيفة معلمة، أو سكرتيرة أو حتى عاملة في مدرسة، أو متجر داخل الإقليم المحاصر، فلم توفق أي منهما في العثور عليها، ذلك لأن الناس كانوا يتحركون في محيط سجنهم الكبير، ويأكلون فتات الأطعمة، ويشربون مياه المصارف الزراعية، التي يتفضّل عليهم بها ذوو الحضارة الديمقراطية الحرة المتعددة الجنسيات المتحدة ضدهم، ويضحكون على أنفسهم كثيراً تحت باب، «شر البَليّة ما يُضحك»، والأطفال يتفعفلون بالتراب، ويرجمون الجرافة المجنونة بالحجارة، والجرافة لا تلتفت إليهم، بل تواصل تجريفها بكل نشاط وجدّ واهتمام، والعرق يتصبب من جباهها الفولاذية الصفراء، بينما العمارات الكرتونية في حي ’’سلام الشجعان’’ وأحياء كثيرة لاحقة مصابة بفقر الدم وهشاشة العظام ومحشوة باللاجئين المخضرمين تتهاوى بمن فيها... وبعض خيام صغيرة نصبت في الساحة الواسعة وسط المعسكر، كانت قد قُدِّمت هدايا تكريمية، وجوائز ترضية من وكالة غوث النازحين الجدد، وأطفال صغار وعجائز يدخلون ويخرجون من عقالها، حيث يحمل طفل قطعة خبز جافة، ومخاط أصفر ينزل من أنفه، والذباب يهاجم محيط فمه، وهو يضحك لكاميرا الصحافة، ويرفع لها إصبعي يده اليمنى، الشاهد والسبابة، بعلامة النصر، كل ذلك تحية للكاميرا التي تصور هذا الشعب المقرّر جعله متخلِّفاً، بهدف المتاجرة بصوره، بصفته لا يستحق الحياة، ويجري تجريفه وطمره تحت التراب، واستبداله بشعب حضاري ديمقراطي تكنولوجي عولمي، يأكل بالشوكة والسكين، ويتبول في مراحيض من العاج، ويغسل نفسه بمياه بكر مُنقّاة، تخرج من صنابير ذهبية، ويأكل اللبن والعسل والكافيار، في أرض اللبن والعسل!

ووسط هذه العذابات، اضطرت الخريجتان للتعاقد مع الوفد التربوي القادم من ولاية الرمال العربية، ووجدتها الصبيتان فرصة للعمل معلمتين هناك!

طلبوا منهما أوراقاً ثبوتية، فأحضرت كل منهما ما طلب منها، أوراق تخرجها، وشهادة ميلادها، وكشف علاماتها، وشهادة صحية تثبت خلوها من الأمراض المعدية، وشهادة حسن سلوك، حيث ختم لهما مختار المعسكر، أبو شكشوك أحلى شهادتي حسن سلوك، مقابل عشرين «شيكلاً» من كل منهما .. لا أحسن من سلوك تغريد إلا سلوك ماجدة .. هكذا شهد المختار، بعدما قبض المعلوم.

ولم يبق من الأوراق الثبوتية سوى المحرم.. ولهذا الغرض زارت أم غازي دار أم جهاد، فرحبت بها الأرملة خير ترحيب، وبعد أحاديث طويلة، دخلت عائشة في الموضوع، وسألت أم جهاد عن المحرم الذي سيذهب مع ابنتها ماجدة إلى ولاية الرمال العربية، فقالت لها أم جهاد: كنا نفكر في ذهاب جهاد كمحرم معهما، فهذه ماجدة أخته، وتلك تغريد خطيبته، وكان الله بالسر عليماً، ولكن جهاد رفض مغادرة الوطن، وأصر على أن يبقى في البلاد. وكذلك فإن جهاد يريد تغريد زوجة له هنا، وليس في بلاد الله البعيدة، ذلك لأنه لا يستطيع تركنا وحدنا نواجه هذه البلاوي الزرقاء، من اعتداء متواصل على أرواحنا وبيوتنا، وفقرنا ومسؤولية إخوانه وأخواته وأهل بيته، ولا تنسي محددته التي صار شغلها كله يقع على كاهل جهاد وحده ، وأنت تعرفين يا عائشة، كلنا نأكل ونعيش من وراء هذه المحددة، فأبو جهاد الذي أسس لابنه هذه المحددة بالدين، توفي رحمه الله والديون علينا متراكمة، بقي هكذا في أتونه حتى توفي بالجلطة كما تعرفين. ولو كان أبوها رحمه الله موجوداً، لسافر معها، محرما على الأقل، وترك جهاد في المحددة.!.. نحن في توهان لا نعرف له بداية ولا نهاية يا عائشة، وتحدِّيات لا نعرف لها حلاً، فمن أين نأتي بالمصاريف المتزايدة هذه؟ صدقيني لولا كوننا محتاجين للنفقة يا عائشة، ولولا ديون محددتنا، لما وافقنا على تغريب ابنتنا إلى تلك الديار.!

يا أسمى «لا تشكي لي، لأبكي لك»، فكلنا محتاجون لرغيف الخبز، ولكن ربنا لا يقطع أحداً.! ولكنك لم تجيبيني على موضوع المُحرَم.!

لو كان لدي حل يا عائشة لنطقت ! ولكن ما باليد حيلة!

اسمعي يا أسمى، ما رأيك بهذا البهلول ؛ أبو مهيوب، الذي يقعد كثيراً في دكاننا؟

ماذا تقصدين بقولك هذا البهلول؟

أقول لو افترضنا أن يكون أبو مهيوب محرماً مع ماجدة وتغريد، فهو بمثابة عمٍّ لهما، ورجل مجرّب ومعروف، وليس من ورائه مشاكل، ويستطيع أن يقوم بالمهمة.؟

أكيد أنك قد جننت يا امرأة!

لم أجن، ولم أفقد عقلي حتى الآن يا أسمى!

إذن كيف يذهب معهما رجل غير محرّم عليهما ؟

هذه بسيطة، فهو أكبر سناً من أبويهما، وهو زاهد في الزواج، خاصة بعد سن الخمسين، فهو لو أراد الزواج، لتزوج بعد وفاة زوجته سندس رحمها الله . والرجل يدخل بيتنا، وبيوت معظم أهالي المخيم، ولم نشاهد منه تصرفاً خارجاً عن المألوف لا سمح الله، طيلة هذا العمر الذي عشناه. وعندما ولدت تغريد مثل كتلة من اللحم، حملها أبو مهيوب وأبو غازي من بيت الداية أم خليل، إلى بيتنا، وكنت أنا يومها عائدة معهم، وأنا أتحامل على ذراع «أبو غازي». فكون أبو مهيوب محرماً للبنتين، موضوع مأمون ومنطقي. ولا تنسي كون البنتين مخطوبتين ؛ كل منهما لأخ البنت الأخرى، وستعيشان معاً كأختين، برفقة الرجل الكبير، الذي سيكون مناعة لهما ضد أي خلل قد يحصل في الغربة، لا سمح الله. 

ولما لم يكن أبو مهيوب - الذي وافق على العرض المقدم له - يحمل صفة المحرم، والقانون يمنع سفر رجل غير محُرمْ مع البنتين، ولكن وليّي أمري المعلمتين فكرا بهذا العائق، وقررا أن يكتبا ورقة صورية، تشهد بأن هذا الرجل المحرم هو زوج كل معلمة منهما على حدة، وبعد تداول الأمر مع الرجل، كتبا عقدي زواج موثقين حسب الأصول، ولكنهما صوريان بالطبع، باسم«مصطفى مهيوب الصنفوري» وقدما عقدي الزواج، مع أوراق المعلمتين، وهكذا انطبقت عليه شروط المحرم.!

لم يكن جهاد موافقاً على سفر تغريد وماجدة بهذه الطريقة، وتحت ضغوطات الحاجة والأهل، وعدم قدرته لإصدار قرار فيتو على سفرهما....راح يناقش نفسه: الجميع يضغط باتجاه سفرهما..والمجتمع - تحت ضغط الاحتلال - يضغط لإرسالهما بهذه الطريقة المستهجنة..! ووالدتي تقول لي: لا تعارض يا ولدي، فالدين مثلاً يمنع جلوس امرأة ملاصقة لرجل غريب عليها..ولكن النساء في سيارات الأجرة العامة، يجلسن ملاصقات للرجال، دون استغراب أو استهجان، أو منع..! وهذا المنظر يجعلك تدرك أن للضرورات أحكام..! أفكار ووجهات نظر تجعلك ترضخ لها ! للضرورات أحكام ! ونظراً لعدم وجود قدرة على صنع قرار بديل، قرّر جهاد الرضوخ لرأي الأغلبية، والمبادرة بالوقوف معهما، ومساعدتهما، وعدم التّخلِّي عنهما، وذلك بالقيام بواجب إرسالهم بسيارة المحددة المخصصة للشغل، «البكب» إلى الحدود.

وفي صباح اليوم التالي، حمل أبو مهيوب نفسه، وحزم أمتعته، وودّع معارفه وجيرانه، وكذلك فعلت تغريد وماجدة... تجمّع الكل حول سيارة جهاد المنتظرة أمام دكان الفالوجة لتحميل المسافرين وأمتعتهم، وهم متباينون في شعورهم ؛ بين موافق ورافض، وفرح وحزين، وحاسد، وحاقد، وخائف، ومكسور الخاطر..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى