الجمعة ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠١٠
قراءة في كتاب:
بقلم منذر الحايك

القادم لقتلك، استبق واقتله

قراءة للكاتب:

ولد يعقوب بيري عام 1944 في نحلات يهودا بفلسطين المحتلة من أسرة بولندية الأصل، درس في الجامعة العبرية الأدب العربي وتاريخ الشرق الاوسط. انضم إلى جهاز الشاباك عام 1966، وأصبح صاحب نفوذ في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد حرب عام 1967. تولى عدة مهام في الشاباك، منها: قيادة الجهاز في المناطق الشمالية من الضفة الغربية وفي القدس. عين عام 1988 رئيساً للشاباك وحتى عام 1995، واجه في فترة رئاسته للجهاز مشاكل كثيرة، خاصة في ما يتعلق بالانتفاضة الأولى. أعاد بيري تنظيم صفوف الشاباك بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة بموجب اتفاق اوسلو، وذلك لتتلاءم عملية جمع المعلومات مع الواقع الجديد.

بعد انتهاء رئاسته للشاباك في تشرين الأول عام 1995عين مستشاراً لرئيس الحكومة لشؤون الأسرى والمفقودين، ولكنه قدم استقالته عام 2000 لصدور قرار من المحكمة العليا يسمح بإطلاق سراح معتقلين لبنانيين أسروا وابقوا بلا محاكمه ليكونوا ورقة مساومة مع المقاومة اللبنانية، وبعدها تم تعيينه مديراً عاماً لشركة الاتصالات الخلوية <سليكوم>.

الشاباك: جهاز الأمن العام في إسرائيل، وهو أحد ثلاثة أجهزة أمنية مركزية فيها، إضافة إلى: <الموساد>، أي جهاز الأمن الخارجي، و<أمان>، أي جهاز الأمن العسكري. والشاباك مكلّف، مع الأجهزة الأخرى بأن يقدم للحكومة والإدارات السياسية التحذيرات والمعلومات والتقديرات والتوصيات لدعمها في اتخاذ القرارات الهامة. كما أن الشاباك يتصدّى لمهام كبيرة، منها: التعامل مع الانتفاضة، والتصدي للمنظّمات الفلسطينية، وضمان سلامة المهاجرين إلى البلاد، واكتشاف الجواسيس، وحراسة أمن الشخصيات والمؤسسات الرسمية، ومحاور المواصلات والمصالح الاسرائيلية في أرجاء العالم.

قراءة للكتاب:

أثار كتاب <القادم لقتلك. . استبق واقتله> عند صدوره في الطبعة العبرية التي حررها يوسف شفيت، ونشرتها دار كيشيت، اهتماماً كبيراً في الأوساط الإسرائيلية، وتناقلت وسائل الإعلام فقرات مطولة منه. ثم ترجم الكتاب إلى عدة لغات، منها العربية أعدها المركز الفلسطيني للإعلام، ونشرتها دار صفحات بدمشق. فالكتاب إضافة لكونه مذكرات يعقوب بيري المدير الأسبق لجهاز المخابرات الإسرائيلية <الشاباك>، فقد تضمن معلومات كانت بعيدة حتى عن كثير من الإسرائيليين أنفسهم.

تحدث بيري في كتابه عن مهنته كرجل أمن، مستعرضاً مسيرة تسعة وعشرين عاماً من حياته أمضاها في جهاز الشاباك، ومع أنه أراد إضفاء الصفة الشخصية على المذكرات بقوله:

<لقد حرصت طيلة سنوات خدمتي في الجهاز على كتابه يومياتي الشخصية، وحرصت على أن تتضمن الأحداث التي أواجهها يومياً، والمشاعر التي تعتريني والأفكار التي تراودني جراء عملي في الأماكن المختلفة>. فالكتاب يبقى مذكرات مهنية أكثر منه مذكرات شخصية، لذلك نجد أن أحد العناوين التي نشرت للكتاب كان: <مهنتي كرجل مخابرات>. أما العنوان الذي اختاره لطبعته الأولى العبرية: <الآتي .. لقتلك>، فهو عنوان يخاطب به الجمهور الإسرائيلي، ويشرح له كيف أنه وزملاءه كانوا يصلون الليل بالنهار، ليعمل الناس ويناموا بهدوء، وأنهم حالوا دون كثير من العمليات الفدائية التي كان يمكن لو نجحت أن يقتل فيها المئات بل الآلاف من الإسرائيليين، وكان يمكن لها أن تهز أركان الدولة وتهدد وجودها.

وهنا لا بد من طرح السؤال المعضلة الذي يثيره هذا العنوان:

من الآتي؟ . . . ولقتل من؟

إن بيري بما قصده من معنى لعنوان مذكراته كان يقلب الحقيقة رأساً على عقب، فمن هو الآتي من وراء البحار لقتل الآخر؟ ومن صاحب الأرض؟ ومن المهاجم القادم لاقتلاعه من أرضه؟ ثم استيطانها والحلول مكانه فيها. إن بيري هنا يبدو معبراً عن كل صهيوني مقيم في فلسطين، فهو خائف من القتل لأنه قاتل، وهو كمجرم، سابقاً ولاحقاً مع سبق الإصرار والترصد، يشعر بأن العقوبة آتية لا محالة. إنه خائف لأنه ليس صاحب حق، ولأن صاحب الحق لا يريد أن ينسى حقه، والصهيوني لا يريد أن يرجع الحق الذي اغتصبه إلى أهله، ولا يريد أن يعود من حيث أتى، فعليه إذن أن يعيش في حالة خوف وقلق هستيري، حذراً على الدوام من أي نشاط أو بادرة أو تفكير أو حتى حلم فلسطيني بالعودة إلى الأرض والدار، ولذلك فلا بد لهذا الصهيوني من أن يرتكب المزيد من الجرائم. وقد عبر يعقوب بيري عن هذه الحقيقة بإيجاز وبلاغة في مؤتمر صحفي عندما قال بحسرة كبيرة: <... بدون معجزة سنعيش دائماً على أسنة الحراب>.

وهذا يذكرنا بما جرى في أعوام الانتفاضة الأولى، فقد كان ضابط مخابرات إسرائيلي يحقق مع شاب فلسطيني معتقل أصله من قرية دير ياسين، الشهيرة بمجزرتها، فسأله الضابط: أما زال أبوك يحلم بالعودة إلى دير ياسين؟ أجاب الشاب: إذا كنت أنت لم تنس أننا من دير ياسين، فكيف تريد من والدي أن ينسى؟ إنه إذا لم يعد إليها، ولم أستطع أنا العودة إليها، فإن أولادي بالتأكيد سيعودون إلى دير ياسين، ولفت الشاب نظر المحقق الصهيوني إلى أن المهجرين من أبناء القرى والمدن الفلسطينية يطلقون أسماءها على محلاتهم التجارية وشركاتهم ومؤسساتهم، وشوارعهم وتجمعاتهم في المخيمات. هذه المحادثة التي هي غاية في البساطة، وفي الوقت نفسه غاية في المغزى، لا بد من أنها ترد على جميع من يعتقد بأن إسرائيل وجدت لتبقى، على الأقل في شكلها الحالي.

يقول بيري في مذكراته: <كسبت أصدقاء كثيرين خلال خدمتي، عملت مع أشخاصٍ مدهشين، تعرّفت عن قربٍ على رجال جيش وسياسيين في البلاد وخارج البلاد، تعلّمت الكثير من كلّ واحدٍ منهم>. وبالفعل فرئيس جهاز من أهم الأجهزة على صعيد البلاد، وأهمها على صعيد الداخل الإسرائيلي، لا بد وأن يسعى لصدقاته الجميع، ولكنه يمنح هذا الشرف لعلية القوم، وفقط لمن تربطه بهم علاقات عمل، فالموضوع لا يخضع للاستلطاف الشخصي، أو لتوافق الآراء والهوايات، حتى أن تسميتها <علاقات عمل مهنية> يبدو واقعياً أكثر من تسميتها <صداقة>. فعلى سبيل المثال كان ممن وصفهم بيري بأصدقائه: <إيهود باراك> الذي تعرف عليه في وقت مبكر من حياته العسكرية، ويصف بيري صداقته لباراك بقوله: <كان بيننا علاقات عمل جيّدة جداً>.

وبقراءة سريعة لفصول الكتاب يلاحظ القارئ أن بيري يسعى إلى استعادة ثقة الجمهور الإسرائيلي بجهاز الشاباك بعد اغتيال رابين، والإخفاق في منع عدد من العمليات الاستشهادية المؤلمة للكيان الصهيوني. وكذلك فإنه يحاول التزلف إلى هذا الجمهور، من خلال العزف على الوتر الحساس بالنسبة للمستوطنين وهو هاجس الأمن، وإحساسهم الدائم بأن هناك من يهدد وجودهم وحياتهم. وأعتقد أن بيري استهدف جاداً من خلال كتابه هذا الجانب من الشعور الدائم بالتهديد، بأن يجنب الإسرائيليين سؤلاً يتجاهلونه عادة، مع أن واقع الحال يطرحه بشدة، وهو: لماذا يوجد هناك من يريد قتلهم؟ ألأن هؤلاء الآتين للقتال والقتل سفاحون متعطشون للدماء؟ وإن كانوا كذلك، أي كما يصورهم الإعلام الإسرائيلي، فلماذا يتحملون كل تلك الصعاب؟ ويتخطون الحواجز ويقطعون الحدود ويسيرون في حقول الألغام لأجل قتلهم؟ إنهم لو كانوا عدوانيين بالفطرة أو مجرمين قتلة لكان الأسهل لهم أن يستهدفوا المواطنين المحيطين بهم! ويوفروا على أنفسهم كل هذا العناء.

حاول بيري في كتابه أن يثبت بأن جهازه كان موجهاً ضد الأشرار، بينما هو لا يخيف الأخيار، فيقول: <لقد نقشت على علم جهاز الأمن العام جمله تقول: درعاً وليس خوفاً>، لكن من هم الأشرار ومن هم الأخيار من وجهة نظره؟ ومن وجهة نظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية؟ بل وحتى المؤسسة الحكومية الإسرائيلية؟ مع الأسف ومخالفة لكل منطق وعدل وحق، فدائماً الأشرار هم الفلسطينيون الإرهابيون المخربون القتلة، الذين يطالبون بحقهم في الوجود على أرض عاشوا عليها من آلاف السنين. والأخيار، هم بيري ورجاله ورجال المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، المتميزين باللطف والظرف، لكن إذا فكر، مجرد أن يفكر، فلسطيني بأرضه وحقه فيها فهم عندها وحوش كاسرة.

يمدح بيري نفسه ورجال جهازه، ويبرر كل فضائحهم وارتكاباتهم ومخالفاتهم لأبسط قواعد حقوق الإنسان بالإخلاص لإسرائيل، خاصة وأنه شخصياً قد تعرض خلال رئاسته للجهاز للاتهام بسوء الإدارة وعدم النزاهة، فيقول:

<ورغم أن هذه القصة هي قصتي أنا إلا أنها بداية قصه رجال جهاز الأمن العام، الذين رافقوني طيلة السنين التي خدمتها، وقاموا بجل العمل، إنها قصه رجال أشداء سريعي البديهة شجعان مستقيمين وشديدي الإخلاص لدوله إسرائيل>.

أما عن متاعب المهنة فيقول بيري: <لا أعرف عملاً يتآكل فيه الأشخاص بسرعة فائقة مثلما هو الحال في الشاباك>، ثم يضيف لاحقاً: <تسعة و عشرون عاماً مرت منذ أن دخلت لأول مرة مبنى الشاباك في يافا كمتدرّب وحتى مغادرتي مكتب رئيس الشاباك، إنه من الصعب جداً أن تخرج من مثل هذا المنصب سالماً دون ضرر، لذلك يسعدني، رغم كلّ الأزمات والفضائح والتشهير، أن أخرج سالماً>.

في آخر مذكراته يختم بيري الحديث بقوله: <بودّي أن أنهي المذكّرات التي كتبتها طوال تسع وعشرين سنة من خدمتي في الشاباك بالسطور التالية: في أمسية شتوية ماطرة من يوم 22شباط عام 1995، في متحف <هآرتس> في تل أبيب، أجرى لي العاملون في الشاباك حفل وداع>. ثم يتابع بيري معدداً الشخصيات التي حضرته، وهم جميع من عمل معه في الجهاز إضافة إلى: <رئيس الدولة، رئيس الحكومة، وزراء، أعضاء كنيست، رئيس هيئة الأركان، ألوية في هيئة الأركان، وضيوف كثيرون آخرون>. ثم يذكر كيف أنهم كانوا: <يصافحونني، يربتون على كتفي، يقبّلونني>. لقد أبدى بيري من خلال وصفه حفل الوداع وتعداد حضوره الأثر الطيب والامتنان الذي تركه من خلال عمله الطويل في جهاز الأمن، لكن لا أدري إن كان قد خطر على بال بيري أنه ترك أثراً آخر ربما لا يقل أهمية، وسيأتي وقت يكافأ عليه حتى لو بعد موته، إنه دوره في مسيرة آلة القتل الهمجية الإسرائيلية ضد العرب داخل حدود الدولة وخارجها، أم هنا كما هي العادة الأمر مختلف وحياة البشر تكال بمكيالين.

أما أحداث حياة بيري بعد تركه لجهاز الشاباك فيبدو أنها تتلخص في التسابق لتقديم وظيفة لائقة بخدماته، يقول: <حين تم الإعلان رسمياً عن استقالتي، تلقّيت عروضاً عديدة من أوساط اقتصادية تعرض عليّ وظائف ومناصب، و كان أحد اللقاءات التي أجريتها في هذا المجال هو اللقاء مع إسحاق شامير رئيس الحكومة السابق>.

يتابع بيري: <درست العروض التي وردتني، وبدا لي بعضها شديد الإغراء، ولكنني استخدمت تجربتي الاستخبارية ودرستها عن كثب بصورة أعمق. في نهاية الأمر توجّهت للالتقاء مع داف تدمور الذي اقترح عليّ أن أشغل منصب رئيس ومدير عام <سلكوم>، وقال لي إنه تلقّى تزكيات جيدة لي من: عزرا وايزمن، وحاييم هرتسوغ، وإسحاق رابين. والتقيت مع الشركاء الإسرائيليين والأمريكيين الذين وافقوا جميعاً على التعيين>.

وهنا نلاحظ بأن أهمية الشخصيات التي زكته للعمل، واختياره من قبل شركة إسرائيلية أمريكية يحمل الكثير من المعاني، منها: دقة وعمق الصلات بين إسرائيل وأمريكا. ويفسر الكثير مما كان يدور حول هذا الرجل وانتماآته وممارساته المشروعة وغير المشروعة بالنسبة للدولة الإسرائيلية.

وختاماً فمذكرات بيري، كما أراها، هي تسليط للضوء على الدقائق الأخيرة من الحلقة الأخيرة من المسلسل الصهيوني الطويل، بل ربما هو المشهد الختامي منه، مع تجاهل متعمد لكل الممارسات الصهيونية السابقة التي أدت إلى هذا المشهد الختامي الذي ساهم فيه القتل والتهجير والتجويع والاضطهاد الصهيوني بتحويل الفلسطيني إما إلى استشهادي مقتول بشرف، أو إلى مقتول ذليل لا محالة، ولكن تواتر الانتفاضة تلو الانتفاضة، والاستشهادي تلو الشهيد، سوف لن يسمح لمشهد <الآتي لقتلك> أن يكون، كما أراده بيري، المشهد الختامي في قضية الصراع العربي الإسرائيلي.

مع ذلك وبشكل عام علينا أن نطلع على كل ما ينشر في الوطن المحتل، لنعرف كيف يفكر هؤلاء الناس، وكيف يمكن أن نرد عليهم بمنطق يعرفونه، إن من يتصدى للرد الآن من العرب، ولجهل معظمهم بما يدور في فلسطين المحتلة، فهم كمن يردد الكلام على نفسه، لأنهم يتحدثون بمنطق لا يفهمه الآخر. إضافة لذلك فإنني أدعو كل عربي لقراءة هذا الكتاب ليعرف حقيقة مشكلة الأمن في إسرائيل، والشعور بالخوف القاتل من المستقبل، وعلى ضوء ذلك يمكن أن يفسر العديد من مواقفها وردود أفعالها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى