الأحد ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم أحمد الخميسي

الفن وزملاء المهنة

أنا من عشاق عربات الفول ولحم الرأس والكشري وشرب الشاي على أرصفة الشوارع، والتسكع، والتفرج بالخناقات. وأشعر خلال ذلك أنني أمام مسرح دوار يتبدل فيه والممثلون والمواضيع والديكورات والمخرجون. الأهم من متعة الفرجة أنني أحس داخل ذلك المسرح البشري أن أحدا لا يمكن أن يسلبني شيئا، فكل ما أحتاجه للبقاء هنا هو لا شيء، ومن ثم أشعر أنني جزء من الريح، لا أحد ولا شيء يحكمني، ومثل كل أولئك يمكنني أن أواصل الحياة بأي شيء. منذ شهرين لمحت عربة كبدة في باب اللوق، خط صاحبها عليها بلون أخضر فاتح "«كبداكي» على وزن «كبداكي».

وأول أمس توقفت في شارع جانبي بالفجالة أمام عربة فول، ورأيت على جانبها عبارة طويلة بحروف كبيرة: «ما خطرش على بالك يوم تفطر عندي؟»، على وزن شطرة أغنية أم كلثوم الشهيرة: «ماخطرش على بالك يوم تسال عني؟». وفكرت في المبدع المجهول الذي خطرت له تلك العبارات. لاشك أنه ابن بلد بسيط مبدع تسكنه روح الفن. وما زال الرجل نصف العاري الذي ينفخ النار من فمه يظهر في شوارعنا أحيانا، بجواره طبلة تدق له مارش البطولة، وحلقة نارية يقفز عبرها، لكن بعد أن يصيح وهو يدور بكف ممدودة: «عاوزين نستفتح بالصلاة على النبي». ولا أستطيع إذا رأيت مثل هذا الرجل أن أمر بجواره مرور الكرام، فلابد أن أتوقف وأعطيه مبلغا معقولا، لشعوري العميق بأنه زميل في الإبداع لكن حظه كان أقل من حظي ولم تساعده ظروفه على التعلم والارتقاء بموهبته. كل أولئك وغيرهم كثيرون مجهولون هم الذين يعيدون صياغة السير الشعبية والأغاني وينقحونها ويضيفون إليها حتى تصلنا بشكلها الذي نعرفه. وقد اعتدنا دون وعي أن نحسب أن الفن حالة خاصة وأن المبدعين نخبة نادرة.

ولا شك أن الفن بحاجة لموهبة خاصة لكنه أي الفن يتخلل كل حياتنا، ويشيع في كل مظاهرها، لأن الفن شرط وضرورة لاستمرار الحياة والتواصل، مثله مثل اللغة. يشيع الفن بدءا من أغنيات الأمهات للأطفال، مرورا بالنكت، وتقليد الشخصيات، وزينة المرأة، وديكور وتنظيم البيوت من الداخل، والملابس، حتى مواكب الجنازات. كل ذلك نشاط فني. وليست الرواية والقصة والشعر والمسرح والنحت إلا القسط الأصغر من الفن الواسع الذي نتعامل به مع بعضنا البعض في الحياة. لكننا اعتدنا أن نفهم من كلمة « الفن» فقط ذلك الجزء الذي قدرنا أنه يتمتع بأهمية خاصة كالرواية والشعر وغير ذلك، وأضفينا على «ذلك الجزء» أهمية خاصة بحيث لم نعد نرى أن الفن مقترن بكل مظاهر الحياة بأشكال ووسائل مختلفة.

المشكلة أن ذلك «الجزء» الخاص يطبع وينشر ويتم الاحتفاظ به في أشكال عديدة، بينما يذوب القسط الأعظم من الفن في الحياة، وتبقى منه أحيانا بعض عباراته أو مظاهره، مثل عبارة «إيه تآخد من تفليسي.. يا برديسي»، أو الأغنية التي برقت من دون مؤلف أو ملحن في وداع عبد الناصر حين وجد الشعب نفسه يغني في كل ناحية «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين.. ثورتك ثورة جياع عشتها طول السنين».

الفن ظاهرة أكبر مما نراه، ومما نقرأه، ومما نستمتع به في المسارح، لأنه شرط من شروط استمرار الحياة، وقد صادفني بائع أكواب زجاج صعيدي، باعني بالفن أكواب لم أكن أحتاج إليها، حين ثبت عيناه في عيني وقال بنبرة أخوية صادقة: اشتريهم مش عشانك.. أنت مش محتاج حاجة خلاص.. لكن عشان تفرح الأولاد.. دخولك على الأولاد بشيء جديد بالدنيا كلها. يعني إيه عشرة ولا اتناشر كباية ؟ ولاحاجة، لكن الصغيرين بيفرحوا. وأنت عاوز تفرحهم؟ صح ؟. تأملته طويلا وهو يحدثني، وأنا أشعر أنني أمام مبدع، مقنع، لبق، استطاع أن يوحي إلي أنني لابد أن أكون مبهجا ولابد أن أدخل الفرحة على قلوب أهل بيتي، فاشتريت منه كل الأكواب التي طقت في البيت من أول لمسة ماء ساخن ! ومع ذلك لا يفارقني شعوري بأن كل أولئك المبدعين المجهولين هم رفاقي وأخوتي، لذلك أبحث عنهم بين عربات الفول المدمس، ولحم الرأس، وعلى أرصفة الشوارع، وحين ألتقي بأحدهم أفرح لأنني عثرت على زميل مهنة، وأشفق على قلة حظه في حياته الشاقة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى