الأربعاء ٣ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

حكاية بومة شهباء

نهض بهدوء وفتور مسرفين، فارتعش العكاز بيمينه وحالما استقرت قدماه على الحصير حتى ارتطمت مؤخرته من جديد بالكنبة المحشوة بالتبن ليعود مرغما لوضعه الأول .. يعيد الكرة ثانية، وثالثة .. فكان يصدر عنه أنين متقطع يشبه صرير باب قديم وطقطقات وقرقعات من ظهره الأعجف، ثم دمدمات .. ثم تحسرات .. بالأمس كان السقف يقبل أم رأسه مائة مرة في اليوم الواحد وهاهو الآن يقبل الأرض بلا هوادة ورغما عنه ..

كان هيكله في حاجة جد ماسة لقطع غيار جديدة .. فكل قطعة منه أصبحت جاهزة للقيام بمهامها الأثرية، لكن روحه المتصابية أصرت إلا أن توقد بين جوانحه حنينا في عمر ثمرة التين .. وما لبث يعيد الكرة حتى يئس من انتصاب سليم، فأطاح بعكازه بعيدا في نوبة من الغضب فارتطم بالسقف..
انتفضت بومة شهباء كانت تعشش في شق من شقوقه الواهنة، ونقرت الحائط عدة نقرات في احتجاج، حينها غرزت عينيها الآدميتين في وجه العجوز.. وارتعشت.

كان يبدو بين ألسنة الشموع وكأنه شبح يحاول اخراج نصفه الأسفل من حفرة أو قبر .. لكن سواد الليلة كان أشد وقعا وشبحية، فثمة أذيال من ظلام كانت تخنق الحجرة والشيخ والزوجة والأطفال، وأحلام صغيرة، وكانت روحه المتصابية بين ضلوعه تقاوم زحف الموت والظلام واستفزاز الموج الأخرق في بطن المرفأ الصغير .. فالإغراء متجبر، والعجوز لم يطق انتظار الصباح .. فمن مدى خبرته الطويلة أيقن أن الرؤى وأحلام النيام لا تغني من جوع حتى وهي تبعثنا في قصور كسرى أو القيصر..

يجازف من جديد، هذه المرة كان سنده أصابع من تبن يابس .. فالعكاز ابتلعه الظلام في زاوية ما، لكنه توسل وبإلحاح إلى مجذافين شديدي الملوحة.. وحالما ينقض على طرفيهما وتنبعث منهما رائحة عفنة من جراء طحالب نتنة حتى ينط في عناد خبيث في اتجاه الباب وبمهارة.

كانت الجمرتان المتقدتان في شق من شقوق سقف الغرفة ترشقانه بنظرات آدمية وقد تابعت وباهتمام كبير فصول المسرحية "السيزيفية" كاملة .. ولما يصفق العجوز الباب من ورائه تنتفض وتنقر الجدار في احتجاج، ثم تلوك لسانها في خبث:

اخ .. أو أصابك الخرف ؟ !! عد لفراشك يا عجوز..

عند المرفأ الصغير كان ثمة شبح عجوز يركب زبد البحر .. يداه المعروقتان تنتزعان حبالا ومجاذيف جد ثقيلة تكسوها طبقة كثيفة من الطحالب.. وبين قهقهات الموج وسخرية الزوابع كانت تسمع قرقعات المجاذيف وارتطام الرواسي وصراخ وحش مائي .. تليها تصفيقات إعجاب من لدن قطع أخشاب عائمة وطيور بحرية تبحث عن بقايا أسماك وأعشاب .. ومراكب تهتز في خشوع وحيرة..
وبعد ليل من العراك يقهر العجوز البحر، فينعم المرفأ الصغيرفي صمت وسكون.

تنتفض البومة في شقها الأجوف، وتقذف بشرارة عينيها الآدميتين إلى الباب الموارب، وبعد أن تنقر الجدار في دهشة تلوك لسانها في خبث:
أنت ؟ !؟ ! أو عدت حيا ؟؟؟

يصفق العجوز الباب من ورائه بشدة فتهتز البومة والزوجة الصغيرة، ثم يصرخ الأطفال طالبين قوتا.. فتلملم الزوجة أنفاسها وتتثاءب ثم تنتزع قلبها من براثن حلم شاب وأسمر، ثم تربت على الأطفال الثلاثة بحنان:

ناموا يا أطفال .. فمازال في الليل بقية.
فيرعد صوت الشيخ آمرا:

كلا لم يعد لليل بقية .. هيا انهضي .. وأنتم أيضا يا أطفالي.
فيطيح بسمك القرش أرضا، وبعد أن يشعل الفتيلة، يكسر عكازه إلى قطع صغيرة ثم يطعم به النار..

يا إلهي عاد السقف يقبل رأس العجوز !؟ !

فينشق صدر ذات النظرات الآدمية اثر شهقة ودهشة وحيرة، فتسقط على أرض الغرفة، حينئد يلتقطها قط أبيض ملتهما إياها .. وفي مضجعه تساوره شكوك في مدى احتمال تراجعها عن قرارها.. حينها ستطرق بطنه طالبة منه الإنعتاق، وإلا أفسدت عليه شهيته .. لكنه كان موقنا من انصهار عظامها في أحشائه وإلى غير رجعة..

تغيب ملامح الغرفة وسط أحشاء دخان أبيض، يجيد الرقص بين ضحك الأطفال ونكهة شطائر اللحم الأبيض .. ويقف القط منتظرا غنيمته نظير خدمات كبيرة .. فلا محل للبوم بعد الآن في غرفة يسكنها قط أبيض وشيخ يستعيد نشاطه، وزوجة يتحقق حلمها الأسمر .. ليس بحلم وإنما هو واقع متجسد في وجه الشيخ المحتقن بالدماء ورأسه المحتك بالسقف .. وشرائح اللحم هاته هي شرائح لسمك قرش في وزن خمسة رجال:
"شيء لا يقبله العقل .." قال القط الأبيض ..

"شيخ يعود إلى صباه.." همست الزوجة الصغيرة في استغراب..

انظروا .. إنه يقف بلا عكاز "يقول الطفل الأصغر في اندهاش، وتردف الطفلة في ارتياب : "لا إنه ليس والدنا .."
فيلطمها الصبي الأسمر بقوة على خدها، وبعد عشاء دسم يقفز الأطفال خارج المنزل، فيقترح عليهم الصبي الأسمر لعبة قديمة " لعبة العكاز والعجوز"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى