الاثنين ٨ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم أكرم سلمان حسن

الصمت

اقتحمت خيالي صورة العجوز أبو وائل، فذهب الوسن وعجزت عن النوم.
كنت دوماً أعتقد أن أقسى ما يمكن أن يحصل لأي والدين.. هو فقدانهما الولد الصغير دون معرفة مكانه، والحيرة التي لا تموت ، إلا بموتهما.. فيما إن كان حياً أم لا؟!

ويتخيلانه خائفاً،جائعاً وباكياً، يتلفت حوله فلا يجد وجهاً مألوفاً يحضنه ويمسح دمعه، يهدئ من روعه، ويطبطب على ظهره حتى ينام.

لكنني اكتشفت أن هناك ما يضاهي هذه الحالة قسوة، إن لم يكن أسوأ.

كان ذلك عندما سمعت حكاية أبو وائل، بل أقول مأساته!!

حضر إلى مكتبي مساءاً بينما كنت أهم بالمغادرة، عجوز في الخامسة والسبعين، ذو قامة فارعة، أبيض البشرة أزرق العينين، لم تستطع المسارب التي حفرها الزمن على وجهه، أن تخفي وسامة جلية، باختصار له وجه يريح الناظر إليه، دون أن يغفل للحظة واحدة، أن الحزن اتخذ من عينيه ميناء ترسو فيه سفن محملة بالمرارة والأسى.

بدأ شرح مشكلته بالقول:

رزقني الله ثلاثة أولاد وهم (وائل وخالد وعلي) "وائل" سافر للعمل في بلد عربي وهناك قضى نحبه في حادث سير، الولد الثاني "خالد" استشهد في حرب تشرين، أما الثالث "علي" فقد اعتقل لأسباب أمنية، وبعد ذلك بسنوات مرض ومات في السجن.

وكما تعرف أستاذي فإن الدولة كرمت الشهداء وعوائلهم بعدة قوانين ومنها منح أسرة الشهيد منزلاً مجانياً، ومنذ أشهر تبلغت من الجهات المعنية أن دور عائلتي قد حان لاستلام المسكن المخصص لنا. وقد طلبوا مني إحضار الأوراق الثبوتية اللازمة ومنها شهادات وفاة لأولادي الثلاثة. وعندما راجعت السجل المدني فوجئت بأنهم لا يستطيعون إعطائي شهادة وفاة للمرحوم "علي" لأنه ليس لديهم ما يثبت ذلك، وعندما شرحت الأمر لأمين السجل المدني أشار علي بضرورة مراجعة المشفى الذي استلمت منه الجثمان، وعندما راجعت إدارة المشفى اعتذروا عن إجابة الطلب بحجة إنهم يتلفون السجلات بشكل دوري كل خمس سنوات. فأسقط في يدي لذا جئت إليك كي تجد لي حلاً قانونياً.

وسط ذهولي من صبر هذا الرجل على المصائب تابع قائلاً:
 تحاول أن تفهم وتتفهم ما يحدث، فلا تستطيع، بخاصة عندما تعلم، أن الجهة الأمنية التي تحتجز ولدك لم توجه له اتهاماً رسمياً، وأن مدة بقائه في السجن غير محدودة، ولا يبارحك السؤال.. ترى هل يقيض لك أن ترى ولدك قبل رحيلك عن هذه الدنيا؟! هل ينقضي اشتياق الروح الحزينة؟! وهل يبتل القلب الجاف بقطرات من ماء اللقاء.

سألته بحذر:

ـ حدثني عن ظروف وفاة المرحوم علي

تنهد أبو وائل ونظر إلي وجهي مباشرة وقال:

ـ في عام 1990 جاءني شرطي يبلغني بوفاة ولدي السجين بسبب المرض وأن علي الحضور إلى العاصمة لاستلام الجثمان من إحدى المشافي.

بعد قليل تابع قائلاً:

غادرت بلدتي في ساعات الصباح الأولى وبصحبتي سيارة نقل صغيرة لإحضار الجثمان، ووصلت إلى العاصمة في الصباح الباكر، أخذنا طريقنا باتجاه المشفى المعني وهناك وبعد انتهاء الإجراءات الروتينية وبعد أن كنا على وشك الخروج بالجثمان جاء أحد موظفي المشفى يطالب بالبطانية التي تلف جسد المرحوم وعندما استهجنت الطلب قال ببرود:

ـ البطانية ملك المشفى أي أنها ملك عام، ولا يجوز التفريط بالملك العام!!

حينها صرخت :

ـ وولدي هذا المسجى أمامك.. ألم يكن ملكاً عاماً؟! كان ابن هذا الوطن وكان كشقيقه الشهيد، مستعداً لبذل روحه في سبيل ترابه.. فلم فرطوا به!!

نظر الموظف المسكين إلي مذهولاًً غير فاهم..

بعد ذلك عرضت عليه أن أقوم بدفع ثمن البطانية.. فكان الجواب نفسه..

ـ ممنوع.. البطانية ملك المشفى ولا يحق لنا بيعها.

لم أرغب الدخول معه في جدال عقيم لا فائدة منه .. فقد كان موظفاً صغيراً ينفذ الأوامر.

لذا تركته وخرجت من المشفى وذهبت إلى السوق واشتريت كفناً للمرحوم مع بطانيتين وعدت برفقة ولدي في نفس الليلة إلى بلدتي.

ثم أضاف مبتسماً كنسخة ذكرية ولكن حية عن (الموناليزا):

ـ وهل تظن أن هناك شيئاً في الحياة أقسى من أن يقوم شخص بدفن ولده وتقبل التعازي به؟ كلنا نأمل بيوم يقوم فيه أولادنا بالوقوف قرب قبورنا لتقبل العزاء، ذاك هو منطق الأمور.. وتلك هي سنة الحياة.. لكن عندما تنقلب الأدوار، وتقف لتأخذ العزاء بفلذة كبدك.. أمر يحمل في طياته تناقضاً صارخاً من الصعب احتماله إلا بالقدرة على تقبل مشيئة القدر.. كان هذا الإحساس الذي انتابني عندما فقدت ابني الكبير في حادث السير.. واختلف الأمر نسبياً عندما بلغني نبأ استشهاد ولدي الثاني في حرب تشرين 1973، فقد كانت المشاعر مختلطة فمن جهة هناك الحزن لفقد الولد، ومن جهة ثانية هناك إحساس بالعز والفخر ينتابك وأنت تدرك أن ابنك مات أشرف ميتة.. قضى في سبيل وطنه.. ولقي ما يستحق من تكريم في الأرض .. وهناك جنات عدن بانتظاره في السماء.. لذا يهون عليك الأمر.

تابع أبو وائل حديثه بصوت أخفض كأنما كان يحدث نفسه:

أما في حالة الوفاة الأخيرة هذه، فالألم يتضاعف وتشب النار في أحشائك، ولا شيء يطفئ لظاها والمذهل في الأمر أن خيالك يعمل ضدك أيضاً ويزيد من الحرقة والمرارة، إذ أنك حين تذكر ولدك الميت، لا تذكره كبيراً بقدر ما يحضر في ذهنك صغيراً، و تطغى على خيالك صور للأمور التي حصلت لكما للمرة الأولى، كما حين حملته بين يديك رضيعاً، أو حينما بدأ بالمناغاة وسمعت صوته يزقزق كفرخ طير الحسون، وسعادته بالحبو على يديه، أو حينما تمكن من الوقوف على قدميه، ولا تبارحك صورته عندما كان يتغلب على خوفه و يبدأ بالمشي بلا مساعدة من أحد، وتكاد تسمع ضحكاته الفرحة وهو يكاد يركض ناظراً إليك بفخر، سعيداً بما أنجزه.

صمت أبو وائل .. كان واضحاً لي أنه كان في صراع .. صراع الرجل الشرقي مع فكرة حمقاء مؤداها أن البكاء يليق بالنساء لا بالرجال، وما بدا في عينيه ككرتين ثلجيتين صغيرتين بداية، تحول دمعتين تترقرقان وتفصحان، حاول إبقاءهما مقيدتين، لكنهما تحررتا وتدحرجتا على خده النضير، بعد أن تحررتا من عبودية العين و حبال المشاعر.

صمت بدوري.. كنت في حضرة الموت، وحضرة الرجولة، وحضرة الأبوة.. والأهم من هذا كله... حضرة المظلوم.

فكيف لا أصمت!!!!

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى