الأحد ١٤ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

الجوكير

كنتُ كلّما جلستُ إليه في إحدى الحانات بمدينة أگـاديرْ، ونظرتُ إلى تقاسيم وجهه الرقيقة، واستمعتُ إلى أخباره الثقافية المثيرة، أقول لنفسي:«نِعْمَ الرجل هذا، ونعم المثقّف!»

وهو مُحاور بارع، ومستمع نادر، وقرّاء رائع. وأروع ما فيه، حكْيُه المتقن لأمور لا يصدّقها العقل، بيد أنّني أطربُ لها، وأبتسم. كان يحكي ما جرى له وما لم يجْر له، بأسلوب قلَّ أن تجدَ نظيره عند الكتّاب. وكلّما أتاني بكذبة قصصية جميلة، تغرق عيناه في الضيق؛ فيشعر بذلك خلف نظّارتيْه الطبِّيتين، فيقول لي:"اشرب يا صديقي فما لنا إلاّ هذا الشيء!«ولسان حالِه الخفي يقول:«الشراب هو المسوّغ الرئيس للكذب الجميل».

الكلّ يعرف بأنّه دكتور آداب وعلوم إنسانية، والكلّ يعرف بأنّه ليس دكتورا في هذه العلوم. ومع ذلك، رأيناه يؤلِّف المسرحيات، ويسهر على إخراجها من مخيّلتِه إلى مخيِّلاتنا.

ولأنّك ترى في عيْنيْه الضيّْقتين الصدق الذي لن تراه في عيْنيْ زوجتِك، فإنّك تصدِّقه، بل تحبُّ أن تصدّقه إشفاقا عليه، وعلى "القصّة" بصفة عامّة.

في الكثير من الأحيان، كان يبكي عندما يحكي لنا قصّةً مأساوية عن شخصِه، أو عن شخص آخر. فلا نملك سوى أن نقول له:«لا عليك يا صديقَنا العزيز؛ فالدنيا هكذا؛ جحودة» ثمّ ننادي الجرسون ليزيده من الشراب على حسابنا.

حكى لي مرّة أنه اشترى مغارة بأحد شواطئ أكادير، وعثر فيها على صندوق مدمج في الحجارة، فاستخرجه، ولمّا فتحه، وجد بداخله قطعا نقدية مربّعة الشكل يعود تاريخها إلى الإمبراطور هولاكو. وزعم أنه ألقى الصندوق بما فيه في المحيط (لكي يضمن حقّ التاريخ في الاحتفاظ بأسراره «حسب ما قال»)، فكان أن خرج صندوقٌ آخر من البحر، وعلى الرغم من أنّه من حديد، طفا (؟)، ولمّا فتحه، وجد رسالة مرقونة بخط طاهوما بنط 14 تقول:هذه النقود مضروبة(!).

هل كنتُ لأطلب منه أن نذهب إلى المغارة المزعومة ونستجلي القصّة؟ بالطبع لا؛ فلو فعلتُ لأفسدتُ سحر الحكيْ الأسطوري.

لكنّ أجمل كذبة حكاها لي، عندما قال إنّه صادف الملك متنكّرا في ثياب بستاني (؟) وهو يتجوّل ليلا في أحد الأحياء الشعبية. فاستوقفه وقال:«ماذا تفعل يا سيدنا، والناس نيام؟» فردّ الملك:«وأنت يا أستاذ، ماذا تفعل في هذا الليل المتأخّر، وغَداً لديك محاضرة مع الطلبة؟ فلمّا سألته:«هل تعرفني؟» قال:"ومن لا يعرفك؟»

يحكي صاحبي أنّه تجوّل مع الملك «البستاني» حتى مطلع الفجر، وتحادث معه في أمور عديدة، وعندما بلغا قصره ببنسركاوْ، قال العاهل:«والآن سأدخل إلى بيتي...»ثم عانقني بحرارة، وقال لي:اطلب ما تريد"؛ فهل تصدّق أنني طلبتُ منه أن يعزل أحد الوزراء لأنّهُ كذّاب؟

وفي جلسة أخرى، حكى أنّه توصل برسالة من هيلاري كلينتون تسأله:«ما رأيُك في أن أتنحّى عن الرئاسة لفائدة باراك أوباما؟». فقلتُ لها (هو الذي يقول):«أراه يصلح»؛ فأرسلتْ لي شيكاً بسبعة آلاف دولارا عن هاتين الكلمتين. واستطرد قائلا:«ولكنني أنفقتُها على طفلي المريض...»

هل« الجوكير» كذّاب، منافق، لا يحكي إلاّ لكي يشرب بالمجّان؟ هذا لا يهمّ، ف«الجوكير» أمتعنا بقصصه التي لا يصدّقها العقل، ونحن نحبّه؛ فهو ـ على كلّ حال ـ أديبٌ على طريقته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى