الأربعاء ١٧ آذار (مارس) ٢٠١٠
تقنيات السرد والزمن الروائي في قصة
بقلم ثامر إبراهيم المصاروة

«لن أفقد الأمل» لقماشة العليان

" قراءة نقدية "

تدور أحداث هذه القصة حول فتاة أُجبرت على الزواج من أهلها، حيث تبدأ القصة بإجبار ابنتهم على الزواج من رجلٍ يكبرها سنًا، وهم يرون أن هذا الزواج فرصة لا تعوَّض؛ لأن الزوج غني، عندها فكّرت الفتاة بأشياء كثيرة، وخاصة أنها كانت تحب شخص يدّعى (فيصل).

الأصل في الزواج الاستقرار والسكينة «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيت لقوم يتفكرون.»((1)، لأنَّه المرحلة الأولى لبناء بيت الألفة والطمأنينة والاستقرار، ولكنه يأخذ منحىً عكسيًا لذلك، فيصبح بيت الجحيم ويصبح المحذور الذي نخشى وقوعه، تلك الحالة التي آل إليها الزواج، وأصبح جحيمًا بعد أن أجبرت الفتاة على زواج لا ترضاه، وهذا ما وجدناه في تلك القصة.

لقد كشفت قماشة العليان في قصتها هذه عن هذا الزواج، نجد أنّ الفتاة سوف تتزوج رغمًا عنها، «تزوجته مرغمة أو هكذا بدا لي الأمر حينما لم يستشرني أحد في أمر زواجي.».(2)، ولكنّ الفتاة ترضخ لواقع الأمر فتوافق رغمًا عنها، وهي لا تريد ذلك الزوج، إذن، لقد كان الزواج رغمًا عن الفتاة، وكانت السلطة بيد الأب يتحكم بها كيف يشاء، هو الآمر والناهي ولا أحد سواه.

قماشة العليان أظهرت لنا صورة المرأة المسلوبة الرأي، إذ لم يكن لها رأيًا في ذلك الزواج، فالفتاة أحبت (فصيل)، وعندما تقدم وطلبها من أبيها رفض؛ لأنه طالبٌ، ففضل ذلك الرجل الذي يكبرها عمرًا، وقدّمت الأم والصديقات النصائح المتعددة لها من أجل زواجها، وحصل هذا الزواج، إلا أنه سرعان ما تبددت الأحلام، وطلبت الطلاق.

وبعد ذلك كلّه، لا بدّ لنا من أن نتحدث عن تقنيات السرد التي جاءت في القصة، ومن المعروف أن السَّرد وسيلة من أبرز الوسائل الفنية التي تسهم في إنجاح العمل الروائي أو إخفاقه، حيث يعود ذلك إلى مقدرة الكاتب في توظيف عمل السارد، وعلاقاته مع الشخصيات... الأمر الذي يعكس استجابةً المتلقي لقبول هذا الإنتاج الأدبي(3).

لا بدّ لنا من تناول العلاقة القائمة بين الحكي والسَّرد، أو القصة والخطاب؛ لأنّ هذه العلاقة تكشف عن أنماط الزمن السّردي، وقبل الشروع في هذه العلاقة سأتناول حركتين أساسيتين للسَّرد من خلال تعامله مع الزمن(4) 

الحركة الأولى:

ترتبط هذه الحركة بموقف السرد من الصيرورة الزمنية التي تتحكم في النَّص، وبتنسيق ترتيب الأحداث في القصة، فالأصل أن تسير القصة وفق تسلسل زمني حتى تصل إلى النهاية، ولكن الخط الزمني لسير القصة قد لا يكون منتظمًا، فقد يعود بنا الزمن للوراء لاسترجاع أحداث حصلت في الماضي، أو يقفز بنا للأمام لاستشراف ما هو آتٍ، أو متوقع، فنجد أنفسنا تارة أمام سرد استذكاري، وتارة أخرى إزاء سرد استشرافي.

الحركة الثانية:

 ترتبط بسير الأحداث من حيث السرعة والبطء، وتشتمل على مظهرين: المظهر الأول يقضي باستعمال صيغ حكائية تختزل زمن القصة، ونموذجه السرد التلخيصي والحذف، والمظهر الثاني يتمثل في تعطيل الزمن القصصي على حساب توزيع زمن السرد، بواسطة صيغ مثل السرد المشهدي، أو تقنية الوقف(5).

تقنيات الحركة الأولى:

1- تقنية السّرد الاستذكاري، أو الاسترجاع، أو الارتداد:

ويقصد به كل عودة للماضي، حيث يحيلنا على أحداث سابقة عن النقطة التي وصلتها القصة وتحتل الروايّة نصيبًا كبيرًا من بين الأنواع الأدبية التي تحتفل بالماضي وتستدعيه لتوظيفه بنائيًا(6).

ويعرَّف الاسترجاع في علم النفس بأنَّه " التَّطلع إلى الوراء والنظر في التجارب والخبرات التي عاشها المرء في الماضي"(7).

وتظهر أهمية الاسترجاع حول اللحظة والفترة التي تنتاب الكاتب في أثناء فترة الكتابة، حيث تتطلب منه استدعاء ذلك الماضي من أجل خدمة نصه الأدبي، إما بنقل صورة، أو توضيحها، أو معاينة هذا الحاضر بذلك الماضي المستدعى.

وبما أنّ الاسترجاع يعدّ عودة إلى الماضي، فلا بدّ لهذا الماضي أن يتميز بمستويات مختلفة ومتفاوتة من ماض بعيد وقريب، ومنه تتنوع الاسترجاعات إلى استرجاع خارجي يعود إلى ما قبل بداية الرواية، واسترجاع داخلي يعود إلى ماض لاحق لبداية الرواية قد تأخر تقديمه في النَّص، واسترجاع مزجي يجمع بين النوعين، ولكن يبقى الاسترجاع بأنواعه الثلاثة جزءًا مهمًا في الرواية، يمتاز بتقنياته الخاصة، ووظيفته التي تختلف من رواية إلى أخرى حسب رؤية المبدع، والرسالة التي يود إيصالها إلى المتلقين(8).

وعندّ النظر في هذه القصة نجدّ أنّ هذه التقنيات موظفةً بها، ولكننا نلحظ أن اغلب الاسترجاعات في القصة جاءت داخلية، ولعلّ السبب في رأيي، لأنها واقعية تناولت واقع المجتمع آنذاك حتّم على السارد العودة إلى بداية القصة.

ونجد أنّ الاسترجاع يبدأ معنا منذ الصفحة الأولى، فتقول: " تزوجته مرغمة أو هكذا بدا لي الأمر حينما لم يستشرني أحد في أمر زواجي.. فقد صمت أبي و نكس إخوتي رؤوسهم باستسلام وأشاحت أمي بوجهها و دمعة حائرة تلوح في عينيها لم يكن ثمة ما يعيب العريس سوى أنه متزوج وأب لخمسة أطفال أكبرهم يصغرني بخمس سنوات فقط لا غير."(9).

في هذا الأنموذج ما يوحي بالبوح النفسي الذي يختلج صدر تلك الفتاة، وما تكنِّه من مشاعر تجاه أبيها وأمها وأخوتها في ذلك العريس الذي لم يعيبه سوى أنّه متزوج ولديه خمسة أطفال، فهذا يوحي ليّ بألمٍ شديد يسكن تلك الفتاة. 

ومن أمثلة الاسترجاع كذلك قولها: «تذكرت كلمات صديقتي وهي تقول: أنتي محظوظة ستتزوجين من رجل متزوج معنى هذا أنه سيقدرك حق قدرك وسيحبك ويدلعك كثيرًا....... هززت رأسي بصمت وأسئلة حائرة تصرخ داخلي جميعهم يشجعونني على الزواج به ولم أجد من بينهم من يشارك ضميري الرأي كيف أنتزعه من بين زوجته وأولاده وأبني بيتي على أنقاض بيتهم وسعادتهم ولماذا يكون هذا هو نصيبي ؟؟» (10) .

هنا جاء الاسترجاع ليعطينا معلومات سابقة حول الحالة النفسية التي تصيب تلك الفتاة عندما طلبها ذلك الرجل، ولا سيَّما أنّ القصة لم تذكر لنا شيئًا عن ذلك، فجاء الاسترجاع ليضع البعد النفسي، والحالة التي تنتاب الفتاة نُصب أعيننا، حتى نستطيع متابعة الأحداث.

ومن الاسترجاعات التي ظهرت في القصة " بكيت ليلة زفافي وأنا أتذكر فيصل.. فيصل من تفتح عليه قلبي أول مرة.. من عشت وإياه عمرًا لا ينتهي.. فيصل حبيب الماضي وأمل المستحيل.. امتلأت عيناي بالدموع وأنا أبتعد عن أجواء الزفاف بخيالي إلى فيصل.. عاد إلى ذاكرتي لقائي الأول معه بتفاصيله المدهشة"(11).

هنا كشف الاسترجاع عن شخصية (فيصل)؛ فجاء ليمثل الوقائع الماضية التي حدثت قبل بدء الحاضر السردي، حيث استدعاها السارد أثناء سرده، كما أنّ هذا الاسترجاع أخذ منحى آخر، حيث عبَّر عن الحالة النفسية التي ألمت بالفتاة جرّاء حبها لفيصل، إذ كان حبيبها الماضي، وأملها المستحيل بعد زواجها.

وفي رأيي الباحث أنّ هذا الاسترجاع جاء لبيان مدى تعلُّق الفتاة بفيصل، الذي تشرّبت حبه منذ القدم، كاشفةً عن تلك المعاناة والعذابات، فنراها تناجي نفسها، وتتذكر أيامها التي كانت مع (فيصل)، وتحاول جاهدةً أن تلفت نظرة إليها.

 ولو أمعنا النظر في العنوان لوجدناه بحدِّ ذاته استرجاعًا "لن أفقد الأمل"، حيث إنها تحاول مرةً أخرى، وهذا يقودنا إلى أن هناك مرات فشلت فيها إلا أنها لم تيأس ولكنها صممت على النجاح، فالعنوان يقود المتلقي إلى أن الفتاة رغم ما حصل بها فهي على أمل النجاة والخلاص من هذا.

وما نود الإشارة إليه، هو أنّ هنالك علاقةً ثنائيةً تقوم في النصوص السردية، وتتمثل هذه العلاقة الثنائية بين الماضي والحاضر، ففي رأيي الباحث أن قماشة العليان لجأت في قصتها هذه إلى الماضي (فيصل)؛ من أجل الحنين والحب والذكريات، ومن أجل الهروب من الحاضر (زواجها من ذلك الرجل).

2- السرد الاستشرافي

ونعني به: " القفز على فترة ما من زمن القصة، وتجاوز النقطة التي وصلها الخطاب لاستشراف مستقبل الأحداث، والتطلع إلى ما سيحصل من مستجدات في القصة"(12).

ولاشتغال الاستشراف بحسب طبيعته المهمة المسندة إليه هناك طريقتان، أو شكلان: الأول كتمهيد: ويعني الإخبار ضمنيًا عن سلسلة الأحداث التي سيشهدها السَّرد في وقت لاحق،(13) فالتمهيد يتمثل في الإشارات الأولية التي يكشف عنها الروائي لحدث سيأتي لاحقًا(14)، الثاني كإعلان: ويكون بالإخبار صراحة عن سلسلة الأحداث التي سيشهدها السرد في وقت لاحق(15).

وفي رأيي الباحث أن الاستباقات تعدّ بمثابة النور الذي يهتدي إليه القارئ في القصة أو الرواية، ولكن تبقى المعرفة والإلمام، وكيفية التعامل مع هذه الاستباقات هي الفارق بين القُرَّاء، ولا سيّما أنّ القارئ قد يتوقع شيئًا ويحصل شيئًا آخر، وهذا يسمى بكسر أُفق التوقع.

ففي هذه القصة نجد أن العنوان (لن أفقد الأمل) كما قدّم لنا استرجاعًا لخيبة الأمل، أيضًا يقدّم لنا تلخيصًا استباقيًا للقصة، مماشوّق القارئ لقراءة تلك القصة قبل الشروع بفتح الصفحة الأولى منها وقراءتها، فالعنوان وما يحتويه من أنّ بطل القصة يعاني من خيبة الأمل، لكنّه لم يستسلم لها، فقد كان العنوان استباقًا لأحداث القصة ومجرياتها، وبعد قراءة تلك القصة نجد أنّ الفتاة قد قررت الانفكاك من هذا الزوج وطلب الطلاق منه مجددةً الأمل بالعودة (لفيصل).

ومن أمثلة الاستباق والاستشراف قولها: "أما أمي الحبيبة فقد قالت لي بانكسار: ستتزوجين رجلاً عاقلاً وليس كهؤلاء الشباب الطائشين إنه هو الذي سيحافظ عليك و يحميك.. همست لي شقيقتي الكبرى وهي تغمز بعينيها: إن الرجل من هؤلاء يكون قد مل زوجته الأولى و كرهها فاجتهدي أنتي لتفوزي به قلبًا وقالبًا"(16).

في هذا المقطع من الاستباق يحاول السّارد التمهيد لأشياء ستحصل فيما بعد لتلك الفتاة، فبعد تلك النصائح يستطيع المتلقي أن يتنبأ بالحدث المستقبلي، إمّا السعادة للفتاة والاستمرار بالزواج، وإمّا الندم وطلب الطلاق وهذا الأرجح.

ومن أمثلة الاستشراف قولها: "تزوجته تسبقني إليه أحلامي وبأنني سأكون ملكة متوجة في بيته تأمر فتطاع، تطلب فيجاب طلبها بسرعة منقطعة النظير كانت توقعاتي أكبر من أحلامي و أكبر من الواقع الذي وجدت نفسي فيه"(17) .

المتأمل لهذا الحلم يجد الإشارات، والدلائل التي تقود إلى النتيجة التي ربما تكون الأقرب إلى اليقينية، فوجود الواقع ومجيء الحلم الذي لا تستطيع أن تمتلكه، وجدت الفتاة أن واقعها أكبر من حلمها في السعادة والهناء، فالمتلقي يستشرف النتيجة الحتمية لهذا الزواج.

تقنيات الحركة الثانية:

1- الحذف

ويعرِّف لطيف زيتوني الحذف بقوله: " يختلف الزمن الذي تستغرقه الأحداث (زمن الحكاية)، عن الزمن الذي تستغرقه رواية هذه الأحداث (زمن السرد)؛ بسبب تغير سرعة الرواية، والسرعة درجات أقصاها الحذف، أي إغفال فترة من زمن الحكاية وإسقاط كل ما تنطوي عليه من أحداث يلجأ الراوي إلى الحذف حين لا يكون الحدث ضروريا لسير الرواية أو لفهمها"(18)، ونستدل على مكان الحذف المصرّح به بالنقاط المكررة (...) أو (***).

وفي تلك القصة أن الكاتبة لجأت إلى مثل هذه التقنية، ونجد ذلك في قولها: " بكيت ليلة زفافي وأنا أتذكر فيصل.. فيصل من تفتح عليه قلبي أول مرة.. من عشت و إياه عمرا لا ينتهي.. فيصل حبيب الماضي وأمل المستحيل..."(19) .

وهنا نلحظ أنّ هذا الفراغ الذي جاء بين الجمل لم يأت عبثًا، وإنما أسهم في تسريع حركة السرد، ويستطيع القارئ المتابع لأحداث القصة أن يستشفَّ ذلك الحذف، ويملأه من خلال متابعته لتسلسل الأحداث.

وفي رأيي الباحث قد استطاعت الكاتبة بهذه التقنية أن تتلاعب بالزمن، وتسقط من خلاله فترات معينة قد تصب في الإناء السلبي للقصة لو تم ذكرها، كما تجاوزت عن أحداث ثانوية في السرد ليست بالضرورية، كذلك صمتت عن أشياء كان لا بدّ من إخفائها إما؛ لأنَّه لا مجال لذكرها، أو أن القارئ لا بدَّ وأن يكون مشاركًا ومنتجًا فيستشعر متعة الوصول إلى ما يبحث عنه، وبذلك لا تكون الكاتبة قد أهملت القارئ، وإنما فتحت له المجال ليكون مشاركًا. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى