الجمعة ١٩ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم مجدي علي السماك

آية الحمامة

نزل السيد سلطان القابع في غرفة مكتبه عن كرسيه الوثير المرتفع.. وبأضيق اتساع دائري صنعته شفتاه أخذ يصفّر، بعدها التهبت مشاعره لمّا نظر إلى مزرعته لإحساسه الأكيد بالأمان الكثير الذي بدأ يسكن قلبه وقلوب العاملين معه، فأخذ بأرق مزاج لديه يدندن ويترنم ويبتسم. وراح مستمتعا يصوّب جلّ صفيره إلى وجه حمامة ضئيلة من النوع النادر، محبوسة في قفص حديدي صغير وضيق، جلب معه والديها ذات يوم حين كان عائدا من مهمة عمل في أمريكا، ثم ماتا بعد حين. الحمامة كان لها شكل جميل خلاب مسرف في أنوثته.. ومع أن ريش رأسها كان نافرا ومنكوشا باستمرار، لكن لونه مثل القطن أبيض. القفص ضيق.. مع هذا كانت الحمامة في ذروة نشاطها في حبور تتنطط فيه منتشية من سلك إلى سلك، ولا تتوقف عن القفز جيئة وذهابا من رف إلى رف في ابتهاج عظيم وطرب أعظم. وكانت دائما بطرف منقارها القصير الحاد بنهم كبير تنقنق، ولم تكن في أي حال تكف عن النقنقة ونفسها دائما مفتوحة إلى الحبوب الصغيرة المنثورة في قاع القفص.. كأنما تحس أنها عائشة في أوسع قصر.. أوسع مملكة.. أوسع دنيا.. إذ في الحقيقة بالقفص خلقت.. وبالقفص ترعرعت.. فكبرت حتى صار بمقدورها أن تطير إذا أرادت. 
بينما كان السيد سلطان هكذا غائصا في طمأنينته.. تدفق إلى طاقتي أنفه وقد فاحت من آخر الممر الطويل رائحة عطر نسائي شذاه جذاب، عرف الرائحة لتوه فهي أبدا ليست غريبة عليه، فمن المؤكد أنها رائحة زوجته.. إذ أنه من اليسير عليه معرفة رائحة عطرها جيدا كما يعرفه أيضا جميع العاملين لديه. فأسرع سلطان في الحال هلعا كالهارب من حقيقته.. في خفة جلس خلف طاولة مكتبه الأنيق الواسع.. في أبهة أكابر المسئولين راح يقلب ما التقطته يده بعشوائية من أوراق وملفات.. فانهمر عليها بصره في غزارة وهو ينظر دون أن ينظر.. ويقرأ حيث لا يقرأ. ثم في هدوء كبير عبس.. كان عبوسه أقرب إلى الجد المليء بصرامة جنرال انتصر لتوه في حرب ضروس.. ولا يشي عبوسه من قريب أو بعيد إلى حزن أو نكد أو ألم.. ولكنه لم يكن يرغب أن يلمس الحمامة أي أحد سواه.. حتى لو كانت زوجته.. ومن المؤكد أنها حضرت لهذا الغرض المحرج الفتاك.. فهو يعتبر الحمامة كأنها عضو من أعضائه.

مسرعة تسابق عطرها الأخاذ وصلت زوجته بخطواتها الواثقة ودفعت الباب بلا استئذان، وراحت تغنج بعدما اندفعت إلى الداخل، وأيضا كانت تتقصع وتتمايل بجسدها المستنفر بأقصى أنوثة فيه، وأمامه قرب القفص وقفت. فاشرأبت رقبة الرجل واستطالت حين نظر إليها من بين الملفات التي ما فتئت تتثنى حوافها وتطقطق بين يديه.. وبطرف ابتسامة خجولة مصطنعة بزغت في الحال وهو يرحب بقدومها أومأ إليها أن تجلس.. لكن المدام لم تجلس، وفي الوقت نفسه لم تسكت.. إنما هجمت على ذراعه وجذبتها وسط ضجة صغيرة أحدثها لسانها المراوغ، وطلبت منه أن يفّرجها على الطائر الرائع المسجون.. الحمامة البيضاء التي كثيرا ما حدثها سلطان في أمسيات الخميس عن روعتها، ودعتها، واستكانتها.. حتى أعجبت زوجته. ومن يدري.. قد تكون أحبتها بالفعل وصارت تموت فيها قبل أن تشاهدها.. وهذا ليس ببعيد عليها وأيضا ليس بغريب.. وربما في صميم صميمها صارت المرأة تحس أنها هي التي ذات يوم باضت تلك البيضة التي فقست منها هذه الحمامة الوديعة الضعيفة المسالمة القانعة الراضية الصامتة. 

عبر غنجها المتقن الرفيع، ظلت المرأة تطلب من سلطان، وتأمره بأسلوب ناعم يشبه الرجاء المبطن وهي تدفعه في دلال نحو القفص، أن يفتح لها بابه بحذر.. ويعطيها الحمامة لوقت قليل كي تمسكها.. وتقبلّها من رقبتها ثم تقبل منقارها.. وتتفرج عليها حتى تشبع عينيها وتغذي فضولها النهم الذي على الدوام في قلبها كان يفيض، والى الآن لا يزال ينمنمه.

صار السيد سلطان يقدم رجلا ويؤخر رجلا.. لكنه بعد دقائق من الأخذ والرد استسلم لغنج زوجته، وزحف بيدين مرتعدتين إلى باب القفص الحديدي الموصد بزرفيل جديد متين، وتجهم وجهه المستدير وتقبض من جميع الجهات ثم انكمش حتى فقد تناسقه إذ تشعبت زواياه وصار مثل أوراق الدوالي المسلوقة، ورشحت صلعته بعرق غزير وقد تخضبت حمرتها فجأة خلال لحظة واحدة، وظلت تحمر حتى غمقت واختفى بياضها تماما وانطفأ فيها البريق.. وفي أقصى حذر ممكن فتح الباب.. وفي أقصى ارتباك أيضا مدّ يده.

في تلك اللحظة لم يستطع سلطان أن يسيطر على ارتعاش يديه.. فطارت الحمامة.. وفي لمح البصر عبرت النافذة المشرعة مثل البرق في عزّ شهر كانون.. ووقفت على غصن شجرة عالية في المزرعة الكبيرة التي يحوزها السيد سلطان.. والتي فيها أشجار تصل إلى عنانين السماء.

ظلت الحمامة هكذا واقفة مندهشة، يسود دهشتها حيرة ملؤها قلق عميق وريبة، وانتابها خوف عظيم لم تستطع أن تدرك كنهه.. وأضحت كأنها لا محالة تحس نفسها لأول مرة في حياتها محبوسة في سجن ضيق لم تعتد عليه.. لا تعرف ماذا تفعل ولا تدري أين تطير، ولا تدري كيف تأكل.. وأحست وتألمت حين شعرت بكل المساحات الشاسعة حولها والفضاء المترامي جلّه على رحابته.. إنما هذا كله سجن وقيود بلا فائدة ترجى.. وبلا أمل.. وبلا حرية.. فلا يصلح أبدا للحياة. واستغربت، وحدثت نفسها المتوجسة حين هزّت رأسها مستنكرة وعوجت منقارها في ارتياب، كيف تعيش في هذا الفضاء الطيور؟

وبينما كانت زوجة السيد سلطان في تلك اللحظة تعاتبه على خطئه الجسيم الذي أدى إلى انفلات الحمامة، وحصولها على حريتها.. أمر السيد سلطان جميع العاملين في المزرعة أن يلاحقونها ويجلبونها له حتى لو كانت مختبئة في سابع أرض أو معلقة في عنان سابع سماء. والتمتع صف أسنانه العلوية بأكمله، وكادت أن تقطع شفته حين كزّ وطلب منهم أن يأتوه بها حية أو ميتة.. وأكد عليهم وكان ما يزال يكزّ وقد علت نبرة صوته أكثر حين أكد، حتى كاد أن يطق له عرق، على ضرورة أن تكون مكبلة الساقين.. ومربوطة الجناحين.. وأمرهم أيضا والعفاريت لم تتوقف ولو للحظة عن التقافز في وجهه أن ينتفوا ريشها.. وأن يمعطوه من جذوره حتى يصير منظرها قبيحا مثل الأرنب المسلوخ.. فتصير عبرة لمن يعتبر.

بالفعل.. ما هي سوى لحظات قليلات محمومات.. حتى نبتت في المزرعة فجأة غابة من البنادق المسعورة، وراحت كلها في آن واحد تطلق وابل رصاصها المجنون إلى كل الاتجاهات.. وظلت تلاحق الحمامة من شجرة إلى أخرى، ومن غصن إلى غصن. فأدركت الحمامة وتيقنت أنها واقعة في خطر كبير محدق، فوقف ريش رأسها من الخوف، وريش بدنها أيضا وقف.. وعرفت أنها لا محالة سوف تموت.. حتى إنها ارتبكت وهي تجيل بصرها الزائغ لا تدري كيف وإلى أين تهرب.. وفهمت أنها وقعت في مصيدة ضيقة.. بل هي في غاية الضيق.. وصار المكان من حواليها كله ينكمش ويصغر حول جسدها المرعوش، وقد بدأ يتحول إلى جحر صغير مظلم.. بل دامس، حتى لم تعد قادرة على رؤية مخالبها.

وبينما السيد سلطان وزوجته لا يزالا يتلاومان، ويحمّل كل منهما المسؤولية ويدفعها على الآخر.. تفاجآ بعودة الحمامة إلى القفص، كي تستجير به.. وقد عاد إليها حبورها وبهجتها وأمنها وأمانها.. ومن يرها مستأنسة ستبدو له كأنما ردت إليها الروح.. وصارت تنقنق بشهية مفتوحة إلى الطعام.. وعاد الهدوء لريشها الجميل فانسدل في أبهة على جسمها الجميل البض الذي بدأ يرتخي.. وينتعش.

فعانق السيد سلطان زوجته وقبّلها من فمها قبلة طويلة آلمت شفتيها. ثم تذكرت زوجته حين أبعدت فمها عن فمه لتريح شفتيها قليلا استعدادا للقبلة التالية.. حينئذ تذكرت أن باب القفص ظل مفتوحا، فارتعشت، وهتفت.. وطلبت منه في قلق أن يغلق باب القفص. لكن سلطان لم يتجه إلى القفص إلا بعد إلحاح زوجته الشديد، ثم في تثاقل وبطء مدّ يده.. وهو يقول: يعني هي بعد الآن راح تتجرأ وتهرب.. وبعد كل هذا الذي ذاقته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى