الخميس ٢٥ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

فحولة عربيّة

 
 هالَ أم شريف ما رأته عندما فتحت خزانة - المرحوم شريف - لأول مرّة بعد موته، فقد نقل ملكية العمارة التي يمتلكها والمزرعة، والتي تمثل ثَـمن غربته وعَـرَقِه في غربته ؛ لقد كتبها باسم مطلقته (لطيفة (وابنتيه (شهد و نسمه)، صُـدمت بموت ولدها مرة أخرى بسبب تلك الفعلة من ابنها ؛ مدرس اللغة العربية، والذي كانت تفتخر به كثيراً، وتتكلم عنه بزهو وعن إنجازاته أمام جاراتها، حتى أنها كانت تحلف لهن بأنه ألمعي ويختلف عن إخوته الآخرين، لأنه مشى منذ بلوغه سبعة أشهر، وعندما استغربت إحدى الجارات وحاولت تكذيب الأمر وبأنها لم تسمع عن ولد مشى في ذلك السن ؛ ولكن يُـقال: أن النوابغ منهم يمشون خلال تسعة أشهر، تنازلت أم شريف بذلك عن شهرين بغير طيب خاطر فأصبح الرقم تسعة أشهر، يعني شريف منذ كان نطفة إلى أن مشى على أرض الحوش كان ذلك خلال ثمانية عشر شهراً، وقالت أيضاً: أنه حفظ معلّقة زهير بن أبي سُلمى وهو لم يبلغ الثالثة من عمره، كما كان يعرف أسماء جميع العواصم العربية والأجنبية، ويعرف حروف الأبجدية العربية والإنجليزية، مع أن أباه المدرس العتيد لا يحفظ الحروف العربية بالترتيب والله على ما أقول شهيد..
 
 المهم أم شريف كعادة العرب جميعاً حاولت ذكر محاسن ابنها وبالغت فيها ونسيت أنه عندما كان صغيراً قُـبِضَ عليه وهو يسرق البيض من خم دجاج أم عادل جارتها، ونسيت أيضاً بأنه كان يسرق الرمان من البائع المتجول الذي يجوب الحواري وعند سؤاله يُنكر ذلك، لكن آثار الرمان على ثيابه تثبت الفعلة بالقطع واليقين، فكانت أمه تدافع عنه وتقول: (بكره يتعدّل وسترون ذلك ).
 سافر شريف إلى دبي كمدرس متعاقد للغة العربية، فسكن مع مجموعة من المدرسين، لكي يوفر بدل السكن العائلي الذي تدفعه له المدرسة، وترك زوجته وابنتيه في موطنه.

انبهر شريف بتلك الأبنية المتطاولة على جانبي شارع الشيخ زايد، وفخامة الفنادق والأبنية على (خور دبي)، كما ثعجب بزحمة البشر في ساحة (عبد الناصر) في منطقة (ديرة) التي مثلت له التمازج الثقافي لهذا العالم لوجود كافة جنسيات البشر في هذا المكان، فأصبح يتردد كثيراً على هذا المكان، والأستاذ صالح زميله الذي أتى معه.
 
  أصبح يحاول تدخين (النارجيلة) وذلك عملاً بنصيحة الأستاذ صالح حتى يخفف الشعور بالغربة ووطأة الحنين إلى الوطن والزوجة والأبناء، خلال مدة وجيزة أصبح مدخناً من الطراز الأول مع أنه لم يدخن سيجارة في حياته، كما أصبح كل مساء يحتسي (صاحبة أبي نواس (، التي كان يقول عنها: (وداوني بالتي كانت هي الداء) أقنعه الأستاذ صالح بأنها بوابة الإبداع، وإلا لما كان أبو نواس من أكثر الشعراء إبداعاً.
 
 بعد ذلك أقنعه الأستاذ صالح، لا بأس أن تكون لك واحدة منهن رفيقة ؛ يلتقطها من تلك الساحة، حسب رغبته ومزاجه ومن أي جنسية يشاء، ويُفضل أن يُغيّر، لأن النساء كما يقول الأستاذ صالح: كالفاكهة لكل واحدة منهن طعم ولون ورائحة تختلف عن الأخرى... كان هذا ديدنه شبه اليومي، حتى أنه تعلّم فنون المساومة في ذلك (البازار)، فكان لا يذهب إلا قبيل انتهاء (معرض النسوة) فكان يلتقط إحداهن بربع الثمن، لأن العرض دائماً يكون أكثر من الطلب في ذلك الوقت، حتى أنه أصبح يفاخر أمام زملائه، وخصوصاً الأستاذ صالح ؛ بأنه أخذ إحداهن مقابل وجبة عشاء فقط، فيقول الأستاذ صالح: تلميذ نجيب تفوق على أستاذه، مثل تفوق أرسطو على أفلاطون، فيضحك الجميع ويكون هذا الشعور مبعث فخر في نفس شريف، لأنه يشعر بفحولته، كيف لا؟ والشعور بالفحولة أكثر هاجس يسكن هذه الأمة، فذلك الشعورهو الذي يجعلنا نحرّرالعراق من (براثن الغزاة (ونعيد لها وجهها المشرق وجميع ما سُرق من آثارها وثرواتها وما استنزف من دماء أبنائها، ذلك الشعور سيجعل التنقل بين الدول العربية بالهوية فقط دون الحاجة إلى جواز السفر، ويجعل للأمة شأن عظيم بين الأمم، وهو كذلك سيجعلنا نمتلك ألة الردع الفحولي ضد الذين يملكون آلة الردع النووي. إن هذه الأمة مسكونة على ما يبدو (بداء الفحولة) منذ زمن امرئ القيس حيث يفتخر بأن شِقّ تلك المرأة تحته وتميل على وليدها بشقها الثاني لترضعه.. وذاك الذي كان يسمو، وأبعد مايكون عن السمو، كحُباب الماء.. وآخرين لم يخُلد التاريخ فحولتهم .
 تفاجأت أم شريف بالتقرير الطبي المرفوع مع ورقة الوصية، لكن المفاجأة لم تدم طويلاً، حيث نادت إبنة الجيران المعلمة وقرأت لها بأن إبنها كان مصاباً بــ (مرض الإيدز)، فعرفت على الفور سبب تطليقه لزوجته لطيفة، رغم توسل المسكينة ورغم دموعهاووعدها له بأنها ستكون طوع بنانه وأم بناته، وعصاه التي لا تعصاه ؛ بل حلفت بأنها ستدرس ليلاً ونهاراً لتكمل تعليمها لتحصل على شهادة جامعية تليق بها كزوجة الأستاذ الكبير.
 
 منذ ذلك اليوم لم يعد بوسع أم شريف أن تتباهى أمام جاراتها، لأن جارتها المعلمة نقلت الخبر إلى أهلها... ومن ثم انتشر في كل البلدان التي تمجد داء الفحولة.
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى