الأحد ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

الحياة ليست رتيبة

رنّ جرس الهاتف في مكتبي، رفعتُ السمّاعة السوداء، كانت السيدة على الخط تتحدث الإنجليزية، فأحسستُ بأن قلبي يكاد يتوقف عن الخفقان، وأضحت السمّاعة في يدي ثقيلة، باردة. بادرتني المتحدثة بالتحية، فتيقنت أنها من المستشفى، وجزمتُ بأن الموضوع يتعلـّق بصديقي نبيل، الذي يرقد في المستشفى على السريرالأبيض منذ شهرين، كل ذلك كان خلال ثوان قليلة، ثم قالت:

السيد أسامة ؟

رددتُ:

نعم.

هل تستطيع أن تأتي إلى المستشفى؟

تلعثمتُ قليلا وسكتُ، لأن الوقت لم يكن وقت زيارة، فقلت في نفسي: الله يستر، بالتأكيد إنه لأمر جلل، هم الذين لم يكونوا يسمحوا لنا برؤيته خارج أوقات الزيارة.رددتُ قائلا:

سآتي، مسافة الطريق فقط.

أقفلتُ السمّاعة، وحدقتُ بالجدار المقابل، دون أن أتبين لونه في تلك اللحظة، تخيلتُ أنه كان رمادياً، مرّ شريط ذكرياتي مع نبيل سريعاً..كالمسبحة التي كنا نعملها أنا وهو من نوى الزيتون عندما كنا صغاراً، البدل خضراء اللون في السنة الأولى من الدراسة الإعدادية، وفرحَنا فيها، عند ارتدائها لأول مرة.. مروراً بفرحة النجاح في الثانوية العامة، ونجاحنا بتفوق.. زيارات نبيل لي، الشاي بالهيل، الذي كانت تعدّه لنا والدتي ونشربه في العصاري في فناء الحوش الصغير، ذي الغرفتين الصغيرتين، ببابيهما اللذين فقدا جزءا كبيراً من دهانهما فبديا كوجهي عجوزين يخطـّهما أثر السنين... إعجابه بندى ؛ تلك الفتاة السمراء النحيلة،ذات العينين الضيقتين والشعر القصير الأسود، والتي كثيراً ماكنتُ ألومه على إعجابه بها، فيردّ علي:

لولا إختلاف الأذواق لبارت السلع.

فأردّ عليه:

يبدو أن جميع الأذواق تتفق على كساد هذه السلعة وعدم رواجها، حتى بوجود تخفيضات.
تتبدى على وجهه حينها علامات تنمّ عن أحاسيس مختلفة، فأضحك وأدنو منه معتذراً، ونغير مجرى الحديث.

كان نبيل – رحمه الله – مثالاً للشخص المتزن، غزير العلم والثقافة،صاحب ذوق رفيع فيما يقرأ ويلبس، خفيف الظل، صاحب نكتة وضحكة من غير ابتذال، تبدو عليه الوسامة - أبو ربما يخيل لي ذلك لأنه أقرب الأصدقاء إلى روحي -، مستطيل الوجه قليلا، دقبق الأنف، شعره كثيف مسترسل، وبشرته حنطية، تنمّ ملامح وجهه الهاديء عما يتمتع به من نبل في الأخلاق، فتحسّ بأنك تعرفه عندما تقابله للمرة الأولى، يتعامل مع كل شيء بأناقة وذوق، حتى حين يطوي المنديل ويضعه في جيبه. أكثر ماكان يزعجه هو دقــّة ساقيه، نتيجة أصابته بشلل الأطفال في صغره، وعَرَج بالكاد تلحظه في مشيته.

حمل المشيعون نعش نبيل، تتعالى أصواتهم بالتكبير، وتلهج ألسنتهم بالدعاء، وددتُ أن أقترب منه واكشفُ عن وجهه لكي أرى إبتسامته فامتدت إليّ يد الشيخ تبعدني إلى الوراء، طالباً مني «أن أتقّ الله»... كانت لديّ الرغبة في إخراجه من ذلك الصندوق الخشبي، لأنني أحس بأنه يتنفس ومازال حياً.. أدنوه من الحفرة وأخرجوه من الصندوق، تناوله الشخص الذي يقف في القبر، كنتُ أرى في ملامح من حولي بعض من يحاولون إعتصار الدموع من عيونهم أو أستجداء البكاء.. أطبقوا على القبر الحجارة المسطحة، وهالوا فوقها التراب، ورشـّوا عليه بعض الماء.. كدتُ أقول لهم: ضعوا الكثير من الماء أيضاً ليبترد في مرقده، لولا أن خفت أن يشكـّون في قدراتي العقلية، أو معتقدي..

ذهب الجميع وبقيتُ بجانب القبر، جثة داخل التراب وجثة فوقه، كانت فرصتي لكي أطلق العنان لدموعي، أحسّها كالنار في عيوني، وعبرة أكابدها عبثاً، تخنقني كحبل متين.. نظرتُ إلى التراب وشممتُ رائحته، فتذكرتُ خـَلقنا الأول، فتساءلتُ: ياترى من أي تراب كانت طينتنا؟؟؟ أقتربتُ من مثواه، فأحسستُ بأن يده تمتد إلي مصافحاً، وهو يقول:

 الحياة ليست رتيبة وإليك الدليل ؛ رجل يقتله الجبن وآخر تقتله الشجاعة، رجل يقتله الهجر وآخر يقتله الوصال، رجل يقتله الهمّ وآخر يقتله الفراغ، رجل يقتله الطموح وآخر يقتله اليأس.. ومن قال أن الحياة رتيبة قتله الجنون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى