الجمعة ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٥
بقلم محمد نديم علي

الانتــقــام الرهــــيـــب

عندما كنا صغارا، كان أبوه لا يتركه يهنأ باللعب معنا، فحين يحتدم اللعب وتحلو الصحبة، كان أبوه يتسلل بيننا فى هدوء ساحبا إياه إلى المنزل وحين كنا نركض خلف الحنطور، كان أسرعنا إليه فيحجل كأبى فصادة ويقفز ملتصقا بخلفية العربة كقرادة فى رأس عجوز، ولأنه ضعيف البنية ولا يقوى على الصراع سرعان ما كنا ندفعه بعيدا ليسقط فوق إسفلت الشارع ونأخذ مكانه -تلك اللحظات التى لا أنساها.. يجلس القرفصاء مغيظا مقهورا منتفخ الوجه احمر العينين تدمدم داخله رغبة حارقة فى الانتقام فلا يجد بدا من الهتاف على الحوذى

: كرباج ورا يا أسطى.. كرباج ورا يا أسطى

فيلسعنا الكرباج على وجوهنا ومؤخراتنا فيشعر بالسرور ويركض خائفا منا إلى بيته فنركض خلفه نشكوه لأبيه الذى كان يوسعه ضربا.

  يا آسطى عيب.. هكذا عقل العيال
  ده ولد نكدى و زربون وبوز فقر.
  حرام عليك.. لعب عيال..هو حصل إيه يعنى.

* * *

هذه الفوضى ألا نهاية لها؟
مصلحة العمل فوق كل اعتبار من لا يعرف عمله جيدا فليجلس فى بيت أمه وأبيه.
كاد غضب المسئول أن يفتك بصاحبنا.
لم يدافع عن نفسه مكتفيا بابتسامته المقهورة، أومأ برأسه موافقا على توجيهات مسئوله فى العمل رغم قسوتها.

لم يكن قادرا على مجرد الدخول فى مناقشة أو جدل للحصول على حق له.
لماذا يفعل معك هذا المتسلط ما فعل؟ كل الموظفين يقرأون الصحف بمكاتبهم؟
كان كثير الانطواء ينزوى عند اشتعال الموقف مكتفيا بإيماءة من رأسه ثم يلوذ بالصمت.
غير أنى كنت ألحظ نفس الحالة التى كانت تعتريه وهو صغير عندما كان يشعر بالحنق والعجز عن الانتقام.

  هذا هو حظى.
  لا تكمل. إنها إرادة الله. أنت أبنه الوحيد كيف يعاملك هكذا؟
  أنا الوليد المنكود الذى كان سببا فى موت أمه لحظة ولادته.

 أبى يقول كذلك لذا فهو يعاملنى معاملة سيئة خاصة بعد أن تزوج بامرأة سليطة اللسان تسرق ماله ولا تتركه يهنأ بهدوء العيش فى شقته الصغيرة.

كان أبوه يضربه ضربا مبرحا لأقل هفوة تصدر منه. يجبره على العمل معه فى ورشته لإصلاح السيارات. وذاك عمل لا يحبه صاحبنا مما يضطر أبيه إلى عقابه بربطه إلى عمود حديدى وينهال عليه ضربا بسلك معدنى.
ضربه وهو طفل.. ضربه وهو صبى.. ضربه وهو شاب أمام أقرانه فتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه.. لكنه دائما لا يرد ولا يعترض.. كان وجهه ينتفخ بحنق يعبر عما يجيش فى صدره من ألم وقهر.. ثم يلوذ بالصمت وينزوى عاكفا على قراءة كتاب متهرئ أو جزء من صحيفة متسخة.
أوقعه حظه فى زوجة لا تقل قسوة عن أبيه. إذ حصل على شهادة التجارة المتوسطة بالكاد.

  الولد متفوق حرام عليك يا حاج !!
  ليس عندى مصاريف لجامعة او كلية.. شهادة متوسطة يعنى شهادة متوسطة.
  لآ هو ابنى ولا أعرفه إن التحق بالجامعة.

.. ولخلافه المستمر مع أبيه طرده فاستأجر غرفة فوق سطح أحد المنازل فى حى شعبى عتيق. وراودته ابنه صاحبة الدار عن نفسها فكان أن تزوجها فى ظروف لم يخطط لها.
وتحولت حياته إلى جحيم مقيم لفقره وعجزه عن تحسين ظروفه المادية.

كان رئيسه فى العمل صورة أيضا من أبيه لا تقع الأخطاء إلا فى الأوراق التى يدونها صاحبى.. ولا يكشفها إلا ذلك المسئول المتسلط فيهينه بلا هوادة ويلومه بعنف وبلا تسامح.

ضاقت عليه الأرض بما رحبت. فلا راحة فى البيت أو العمل أو فى علاقته بأبيه الذى يطالبه بزيادة ما يسهم به معه فى مصروف البيت إذ أقعده المرض لعصبيته الزائدة فاغلق الورشة وترك زوجته تعمل فى الدلالة..

صار يأتى إلى العمل على غير عادته متأخرا.. ناشرا أمامه صحيفة الصباح فى تحد للسيد المدير.. يلتهمها من الغلاف إلى الغلاف منتفخ الأوداج لا يرد تحية أو يلقى سلاما. يدخن بشراهة ولم يكن من المدخنين!!

علمت منه إذ حدثنى باقتضاب انه لم ينم طوال شهر سوى ساعات قليلة ينغص نومه فيها كوابيس مزعجة.

فجأة دخل علينا السيد المدير قاصدا أن يضبط صاحبنا متلبسا بالجرم المشهود
أختطف من يد الجريدة فى حنق بالغ لاعنا أسلاف أبيه مهددا برفته من المصلحة.

  وقال فى هدوء كمن أحبط مؤامرة خطيرة : هذا عمل يا روح أمك مش مقهى.
وسمع صاحبنا هذه الكلمات فانتفخت أوداجه واحمر وجهه وجحظت عيناه.
(هو هو صاحبى الذى يجلس القرفصاء على أرض الشارع مغيظا مقهورا)

واقترب فى بطء وخشيت أن يفتك بالسيد المدير أو يقتله. إلا أنه دفعه بهدوء بعيدا عن طريقه..
ولدهشتنا جميعا انطلق راكضا فى بهو المصلحة الحكومية العتيقة ودموعه على وجنتيه وهو يصيح بصوت متهدج:
كرباج ورا يا أسطى كرباج ورا يا أسطي

القاهرة 1994


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى