الأربعاء ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم عادل سالم

الرسالة السرية

أمضى ناصر ليلة الأمس الخميس وهو ينسخ بخط يده رسالة سرية لإرسالها صباح اليوم الجمعة، من شهر نيسان عام 1984 إلى خارج سجن بئر السبع، تشرح للمسؤولين ظروف السجن، وأوضاعه الاعتقالية المتردية، واعتداءات الإدارة المتكررة على الأسرى المنقولين إلى سجون أخرى واعتزام الأسرى الإضراب عن الطعام لإجبار الإدارة على التسليم بمطالبهم، وقد تضمنت الرسالة البيان الاعتقالي الأول الصادر عن لجنة الأسرى، وساعة الصفر، وأسماء لجنة قيادة الإضراب. كانت الرسالة مهمة جدا لذا كان عليه أن ينسخها بشكل متأن وبخط صغير حتى يستطيع تهريبها.

مهمة تبادل الرسائل لم تكن سهلة فهي تخضع لعملية معقدة من النسخ واللف والنقل والتهريب. يبذل فيها الأسرى حرصا أمنيا زائدا حتى لا تقع في أيدي إدارة السجن لأنها تكشف خططهم وتعرضها للخطر.

نسخ الرسالة السرية لا يتم على ورق عادي بل يستخدم الأسرى ورق السجاير الذي يستخدم للف السجاير غير الجاهزة وهو عادة ورق شفاف صغير، في تلك الأيام كان من نوع «أوتمان» حيث كان يجري تهريبه إلى داخل السجن عبر نفس الطريقة. ولكي يكون الخط صغيرا وواضحا كان على الناسخ للرسالة أن يضع قطعة بلاستيك ناعمة مثل الزجاج أسفل الورقة، أما النسخ فعادة يبدأ مساء بعد أن تقوم الإدارة بعد السجناء للمرة الأخيرة، وذلك كي يتأكد الأسرى المكلفون بذلك أن حركة السجان قد تدنت وأصبح بالأمكان النسخ ببعض الراحة. الضوء خافت، والنسخ ليلا على قطعة بلاستيك ليس مريحا، فلا يوجد طاولات في السجن في تلك الأيام ولا كراسي، فهذا حال سجن الأسرى في بئر السبع ذلك الوقت. خلال النسخ يكون بعض الأسرى المكلفين بالأمن في حالة استنفار، يراقبون حركة السجان، ويعلنون حالة الخطر إذا شعروا أن إدارة السجن ستقتحم السجن للتفتيش المفاجئ، حينها يجب إتلاف الورقة ببلعها بما فيها.

ساعتان كاملتان من النسخ، شعر ناصر أن عينيه قد خرجتا من رأسه فقد تعب من النسخ بخط صغير وعلى ضوء خافت. قرأ الرسالة مرة أخرى تأكد أنها سليمة، كان عدد الأوراق عشرة أوراق. عليه الآن لفها ليسهل تهربيها. بخبرته الطويلة، لف الأوراق بشكل جيد مثل كبسولة الدواء، لكنها كبسولة كبيرة الحجم كان الله بعون من يبلعها ليهربها. بعد ذلك لفها بقطعة بلاستيك من أكياس البلاستيك التي يكون السكر معبأُ بها عند شرائه من محل السجن.

وفي نار السيجارة المشتعلة يعمل بحركة فنية على لصق الرسالة من جميع الأطراف حتى يتماسك البلاستيك ويتحد ليشكل قطعة واحدة لا يكون للماء منفذا إلى داخلها. هذه مهمة ليست سهلة، ولا يجيد كل شخص القيام بذلك؟

انتهى من كل شيء، الرسالة الآن جاهزة، في حالة الخطر يتم بلعها بسرعة. وعلى الأسير المكلف بحملها أن يكون خفيف الحركة سريعا في البلع بدون ماء لأن السجانين لهم خبرة أيضا في عملية إلقاء القبض على الرسائل. إنه عار على الأسير إن قبضوا على رسالة في جيبه، سيشعر بالخزي، وسيكون مثار تعليقات وإدانات حتى وإن صدرت تبرئته من تهمة تسليمها، لذلك يكون حامل الرسالة في حالة استنفار، جاهزا لكل الاحتمالات بما فيها التعارك مع السجان.

اليوم الجمعة صباحا يستعد الأسرى للزيارة، وهي مرة كل أسبوعين، مدتها نصف ساعة فقط، ما إن يسلم الأسير على زواره وبعض زوار رفاق دربه، ويقدم بعض حبات الملبس إلى بعض الأطفال والكبار أيضا حتى تكون وقت الزيارة قد انتهى. الوقت ضيق، يكاد يسمح بتبادل بعض الأخبار السريعة وليس كلها. في هذا اليوم يكون الأسرى قد هيأوا أنفسهم، حلقوا ذقونهم، استحموا صباحا، وبدأوا ينتظرون موعد زيارة الفوج الأول كأنهم في عرس حقيقي. الزيارة للأسير في قمة الأولويات، لأنها قليلة أولا ولأنها وسيلة الاتصال شبه الوحيدة مع العالم الخارجي فلم يكن في ذلك الزمان مسموحا للأسرى الراديو أو التلفزيون وكانت الرسائل شحيحة جدا وحسب نموذج معد من إدارة السجن على صفحة واحدة فقط، عائلية عادة وإلا فلن تصل الأسير. لذلك كان الأسرى الذين لا أحد يزورهم بسبب وجود أهلهم وأقاربهم خارج السجن يشعرون أنهم معزولون عن العالم وأنهم يدفعون ثمن نضالهم ضعفا مضاعفا عن الأسرى الآخرين.

نودي على اسم ناصر، سيكون في الفوج الأول. دائما يكون أهله في الفوج الأول رغم أنهم يصلون معا في نفس الباصات لكنهم يحرصون على الحضور مبكرا إلى موقف الباصات التي ستقلهم إلى سجن بئر السبع وعادة تكون بإشراف الهلال الأحمر، أو الصليب الأحمر فيحتلون المقعد الأمامي. وما أن يصل الباص إلى بوابة السجن يكونون أو النازلين لتسجيل أسمائهم كزوار.

هذه المرة ستزوره أمه وزوجته وابنه عمار ابن الثلاث سنوات، فرصة لرؤية زوجته فهو لم يرها منذ شهرين لأن أصدقاء وأقارب آخرين كانوا يتبادلون زيارته، فلايسمح بزيارة الأسير إلا من قبل ثلاثة أشخاص فقط. كل فوج حوالي عشرين أسيرا لكن من الجهة المقابلة من خمسين إلى ستين شخصا لذلك تكون قاعة الزيارة صاخبة والأصوات عالية والكل يعلي صوته ليسمعه الآخرون.

خرج ناصر يحمل الرسالة السرية التي نسخها بعد أن تم تكليفه بتهريبها للخارج، وبعض الأسرى من القسم الذي ينزل فيه، والتقى في الغرفة التي تسبق الزيارة بأسرى آخرين من الأقسام الأخرى فتعانقوا معا. إنها فرصتهم الوحيدة للالتقاء فإدارة السجن لا تسمح للأسرى بالتنقل بين الأقسام ولا بالزيارات. أسلوبها المعروف في إذلال الأسرى وتحويل فترة أسرهم إلى فترة انتقام منظم.

بدأ السجان ينادي واحدا واحدا يقوم بتفتيشه قبل دخوله غرفة الزيارة. هنا الامتحان الصعب عليه أن يكون حذرا في تهريب الرسالة من السجان، كان يريد وضعها في فمه تحت لسانه لكنه خاف أن يطلب منه السجان فتح فمه كما يفعل أحيانا فيضطر إلى بلعها. فهو لا يريد بلعها، لأن المهم الآن توصيلها، لذلك وضعها في كلسونه الضيق الذي لبسه خصيصا وقد حاول وضعها تحت القضيب مباشرة. كان يدعو الله أن تمر الساعة بسلام. قال للأسرى الذين معه سيكون وسطهم ليس الأول وليس الأخير وأنه يريد انتباهم، فأحيانا تحصل مشادات وعراك في تلك الحالة.

مر الأسير الأول، أشار لهم بيده من بعيد، أن كل شيء على ما يرام، عندما جاء دوره فتش السجان جيوبه، نظر فإذا بها بعض حبات الملبس ليقدمه لزواره، ما أجمل أن يشعر الأسير أنه يقدم شيئا لزواره، لا يكفي أنه قدم سنوات عمره لشعبه وأهله، بل يريد أن يقدم لهم حبات الملبس، إنه الشعور الدائم لديه بالعطاء لكأن العطاء والتضحية سعادته الحقيقية.

أما الأسير فلا يسمح له باستقبال أي شيء من الأهل بل يمنعون من إدخال الملبس معهم. والملبس كان الشيء الوحيد الذي يسمح لهم بشرائه لتقديمه لزوارهم من بين الشبك الحديدي الفاصل بينهم والذي يكاد يسمح بإصبع اليد للدخول منه لتتشابك مع أيدي الزوار، هكذا يتعانق الأحبة، بتشابك الأصابع وتبادل القبلات على شفاه يحجب الشبك الحديدي نصفها فتمتزج شفتا الأسير مع شفتي محبوبته والحديد بينهما فيكون لتلك القبلة طعمها الحديدي الخاص الذي لا يعرفه سوى الأسرى.

بعضهن يجهدن في تصغير شفاههن لإدخالها من الفتحة الصغيرة في شبك الحديد لتلتقي مع حبيب العمر خلف القضبان، لكن من أين لجميعهن تلك الشفاه الرفيعة والرقيقة، ومن منهن تقدم على ذلك أمام هذا الحشد من الناس؟ فالكثيرات يخجلن من ذلك. يخجلن أن يقال أنهن عاشقات، مع أنهن في قرارات أنفسهن يتمنين ذلك. كل واحدة منهن تتمنى لو أن الجميع يغمض عينيه في تلك الفترة فلا أحد يرى ما يجري من تبادل القبلات ما بين جانبي الشبك الحديدي.

إنها قبلات الأسرى لأحبتهم إنها تبادل الأشواق وتجديد البيعة، إنها دعوة إلى الصمود إنها غذاء روحي جسماني ضروري للتواصل.

استمر السجان في تفتيش جيوبه، طلب منه أن يبعد رجليه عن بعضهما، مدة يده يتفقد أعلى الفخذين، كادت يده تضرب بمكان الرسالة لكنه على ما يبدو تحاشى لمس القضيب، لو أن كل سجين ذاهب إلى الزيارة سيقوم السجان بتحسس قضيبه فهي كارثه للسجان الذي يتحاشاها أحيانا حتى لو كانت الأوامر كذلك. انتهى دور ناصر، أشار له السجان بيده أن يدخل. تنهد تنهيدة طويلة، دخل الغرفة كان السجناء الذين سبقوه قد أخذ كل منهم مكانه لم يكن أحد من الزوار قد دخل بعد لذلك، لم يكن أحد من السجانين قد أخذ موقعه وراءهم فأدخل يده في بنطلونه بحركة سريعة أخرج الرسالة ووضعها في فمه. لا وقت للتفكير، المهمة خطيرة، اكتمل عدد السجناء، فجأة فتح الباب ودخل الزوار من الاتجاه الآخر من الباب الحديدي، كان كل شخص وكل عائلة تبحث عن أسيرها، كأنه يوم الحساب وكل يبحث عن أهله، بدأت الأصابع تتشابك، والسلامات والتحيات وتبادل كلمات الشوق والفرح، كانت زوجته سعاد مع أمه وابنه الصغير. قدم له حبات الملبس، وقالت له زوجته:
 معي لك رسالة
 يا إلهي وأنا أحمل واحدة لك، يجب الانتباه الآن بحذر.
نظر خلفها فرأى السجان يراقب حركاتهما قال لها:
  حسنا اتركي الموضوع الآن حتى نرى الفرصة المناسبة. بدأ يسأل عن الأهل والأقارب وأخبار والده، واستدار إلى أمه يبث لها شوقه، ثم إلى ابنه يداعبه:
سأله ابنه:
 متى ستعود يا بابا؟
 قريبا، قريبا جدا سأكون معك.
فجأة تحرك السجان من خلفها إلى مكان آخر. سألها:
 هل يوجد خلفي سجان؟
أجابت:
 لا يوجد أحد.
فقال لها:
 هاتي الرسالة بسرعة؟ ادفعيها من الشبك من أسفل نقطة.
كان الشبك يبدأ فوق مستوى الأرض بمتر تقريبا والأسفل كله اسمنت مسلح وكانت يفصل بينه وبين الحائط بلاط من الرخام من الجهتين بمسافة قدم من كل جانب.

أدخلت الرسالة بسرعة حملها بيده ووضعها بفمه وحتى لا يحدث أي خطأ في الرسالتين فقد بلع الرسالة التي أحضرتها زوجته. أما رسالته فقد انتظر حتى اللحظات الأخيرة عندما أعلن السجانون انتهاء الزيارة، وقف جميع الأسرى والأهالي يسلمون على أقاربهم بأصابعهم المتحدة من بين قضبان الحديد. مد أصابعه من الأسفل يسلم على أمه وابنه ويقدم آخر قطعة ملبس لديه بينما كان فمه من الأعلى يطبع قبلة صغيرة ممزوجة بقضبان السجن ويمرر لها الرسالة من بين الشفاه، إنها الرسالة الأهم والقبلات الأرق. ما أجمل أن يمتزج الحب بالنضال إنه شعور لا يعرفه إلا الذين تشرفوا وقضوا أعمارهم خلف القضبان يدفعون ثمن حرية شعبهم.

سألها:
 هل وصلت القبلة؟
قالت بارتياح:
 وصلت، وكان طعمها لذيذا.
 لا تنسي عليك إيصالها اليوم.

سلم عليها وعلى الجميع مرة أخرى، وسلم على الأهالي الآخرين القريبين منه فعادة الأهالي التعرف على الأسرى الآخرين، عاد إلى الغرفة الداخلية ليخضع للتفتيش من جديد. كانت مفاجئة له أن السجانين هذه المرة، طالبوه بفتح فمه، فتشوه بدقة، دققوا بين رجليه ثم أعادوا الفوج الأول إلى أقسامهم ليدخلوا الفوج الثاني الذي كان ينتظر.

وصل ناصر إلى القسم، مر على مسؤول لجنة الإضراب، وهو في الطريق إلى غرفته، سلم عليه وهمس له:
 وصلت الرسالة، ومعي رسالة جديدة.
سأله:
 أين هي؟
 بلعتها، سأحاول إخراجها الآن لن أنتظر ليوم غد لتنزل بالبراز.

ذهب إلى الغرفة وبعد أن فتح له السجان الباب بحركة سريعة تعلمها. وضع إصبعه في حلقه، فأخرج ما بجوفه وكانت الرسالة هي المطلوبة.

غسلها ثم غسل يديه ونادى على عامل المردوان من الأسرى الذي يعمل على تقديم الماء الساخن للشاي وينقل الرسائل والتوجيهات بين الأسرى بخفية عن السجان. اقترب عامل المردوان.
نظر إليه فقال له ناصر بنظرة يعرفها عامل المردوان.
 هل الماء ساخن؟
فهم عامل المردوان قصده. نظر إلى السجان البعيد عنه فرآه ينظر للاتجاه الآخر، فقل له:
 هاتها بسرعة.
فمد له ناصر الرسالة، حملها مع كأس الشاي وقال لناصر:
  سأعود لك بالماء الساخن.
في الطريق إلى مكان الماء الساخن مر على غرفة المسؤول، سألهم،
 هل تريدون ماء ساخنا؟ وحرك يده، فورا.
وقف أحد الأسرى واستلم الرسالة منه وقدمها إلى المسؤول الذي كان جالسا على سريره.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى