الثلاثاء ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم محمد محمد علي جنيدي

المعركة الكبرى

الحلقة الأُولى


أهداها لي صديقي الحميم قائلاً: لا تستهين بهديَّتي، ستعرف قيمتها بعد حين.

اصطحبتها معي إلى منزلي، فسعدوا بها جميع أهلِّ الدَّار، كانت حينئذ صغيرة.. بيضاء.. دافئة.. يشعُّ الذَّكاء من عينيها.. لا تحرم أحداً من حنينها حتَّى أنَّها كانت تنام في الليلة الواحدة على صدورنا جميعاً، تلك هي قِطَّتي الصَّغيرة.
كَبُرتْ في رحاب دارنا القديم والَّذي كان يشاركنا السَّكن في مناوره حفنة من الحشرات والزَّواحف الطَّيِّبة حتَّى جاء يومها الكبير، ذلك اليوم عندما طالعتُ بأعلى سقف الصَّالة - بُرصاً - كاد أن يكون من فرط كبره تمساحاً صغيراً، أحضرتُ السُّلَّم وحاولتُ الصُّعود إليه لأنال منه - الغريب - وأنا أحاول الفتك به لا أراه يجري أو يبرح مكانه .. عنيد .. لا يخاف أبداً, ويَمُرُّ الوقت بطيئاً وأنا واقف بأعلى الدَّرج بالسُّلَّم محتضن الحائط مخافة السُّقوط، وهنا إذا بقطَّتي تخرج من باب غرفة والدي ناظرة إلى البرص شزراً وما إن انتهتْ من صرختها الأولى نحوه إلّا ووقع البرص على ظهري، حتَّى أنَّني كدتُ أسقط مع سقوطه لولا أنَّني تماسكتُ بقدرة الله - وهنا دارتْ المعركة - وهي بحقٍّ معركة لم أشهدها قط بحياتي، حتَّى أنَّني تمنيتُ أن يكون بحوزتي أثناءها ( كاميرة فيديو ) لتسجِّل مشاهد القتال المُشَوِّقة بينهما، لكانت الآن طريفة الطَّرائف وغريبة الغرائب.

أخذ البرص يصرخ كتمساحٍ في وجه قطَّتي، وهي تدور حوله مسرعة ويدور معها رافعاً رأسه نحوها لا يعطيها فرصة الانقضاض عليه - هكذا- بدأ القتال ثمَّ إذا به يتوقَّف ثمَّ يطول توقُّفه حتَّى ظننتُ بأنَّهما اتَّفقا على وقفٍ لإطلاق النَّار ثمَّ وفي استراتيجيَّة جديدة لقطَّتي - فاجأته - تقفز أعلاه ومِنْ كُلِّ اتِّجاه مع ضرب مؤخِّرته مرَّة تلو الأُخرى ، فأفقدته في هذا التَّكتيك الجديد توازنه تماماً ، وقبل أن يرتدَّ إلَيَّ طرفي انقضَّتْ على رأسه في ضربة خاطفة فأسقطته صريعاً لا حراك فيه - وهنا - تشمَّمتُّه أنفة ثمَّ تركته غير مأسوفٍ عليه!.

الحلقة الثانية

وذات يومٍ.. حينما كنت عائداً من صلاة الفجر فسمعت صريراً للماء، وكلَّما اقتربت من دارنا كان الصَّوت يتَّضح أكثر، فتفاجأت بأنَّ الجزء الخاص بدورات المياه للدَّار المجاورة يقع، وهنا .. صعدتُ درج دارنا كلمح البصر وفي هدوءٍ أفاض الله به على قلبي أيقظت والدي قائلاً: استيقظ والدي، قال: ما الأمر؟! قلت: لا تقلق .. ربَّما يسقط الدَّار بنا ويجب أن ننزل جميعاً في هدوء.. وبالفعل وفي زمن قياسي كان جميعنا بالشَّارع نشاهد البنيان المجاور يسقط عن آخره مع أجزاء علويَّة من بنياننا، وشقتنا كما هي لم يعترها شيء إلّا ما يعتري الشَّيبُ صاحبه.

على كل حالٍ.. انطلقنا لدار المرحوم جدي ومُنِعْنَا من العودة لأن هناك قراراً بالإزالة بالطَّريق، وبعد حينٍ من الوقت تذكرتُ قطَّتي فاعتقدت بأنَّها هربت من الكارثة مثلنا، وتمرُّ الأيَّام ونحن نخاطب البلديَّة وسعادة المحافظ وجميع الجهات المسئولة عن توفير سكن لنا بغير استجابة سريعة لتشعب الإجراءات وترنُّح الرُّوتين ترنُّح السَّكارى.

وذات يومٍ.. أبصرت قطَّتي بأوَّل الشَّارع الكائن به دار جدي، انطلقتْ نحونا.. تُقَبِّلُ أقدامنا.. تبكي بكاء الصَّابرة
على أقدارها.. تحتضننا جميعاً حتَّى أبكتنا وأبكت من حضروا من أهل الحي، وكأنَّما أسمع في نحيبها رجاء العودة إلى دارنا القديم، حاولت الاستبقاء عليها معي فكانت تجري بعيداً ثمَّ تقف باكية، استنفذتُ كلَّ محاولاتي فلمَّا انصرفت طالبت ابن خالي أن يتتبَّع خطاها - فجاءني - بالخبر اليقين قائلاً: صغيرتك بدارك القديم يا عزيزي والَّذي سوف يُزيلونه صباحاً، وعند الشُّروق ذهبت لدارنا محاولاً استردادها ولكنَّني وأنا أسمع نحيبها، لم أستطع الصعود إليها أو أن أفعل شيئاً لها سوى أن أُطالب عمَّال الهدم بإحضارها لي بأي ثمن، ولكنَّها كانت تجري هاربة منهم حتَّى وقع عليها حَجَر أرداها قتيلة، فانفرط عقد بكائي عليها وأغار الحزن على قلبي حتَّى أتاني بها المهندس المشرف، وبالطَّبع كرهت أن أراها غارقة في دمائها، فقال لي مواسياً وأنا أهُمُّ بالرَّحيل: عزيزي - إن من الوفاء ما قتل - فجاوبته: صدقت وأين نحن منها، فوالله لو يحاسبها ربُّنا لنالت أجر الشَّهادة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى