الاثنين ٣ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم محمد نادر زعيتر

الألم محنة أم منحة

بلغت السبعين من العمر، وأنا لا أعرف الشعور بالألم، المعنوي أو الجسمي. فلما اعتراني عارض آلمني، أوحى لي ما أكابده بأن خطر لي أن أعايش هذه الحالة، وأنا في خضمِّها، فكان هذا البوح الصادق عن الألم الذي يداهم من يشاء الله، مذكراً بالآية الكريمة:"ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" (الملك/2)، وحين يرد الألم يتوارد الصبر كأهم مقابل ومتصدٍّ للألم الذي ينازع الإنسان في سلامته وسعادته.

لكم كان الألم مهمازاّ في التعبير فكانت الاستجابة شعراً رائعاً، (من الشعور تُنضَح الأشعارُ)، كما هو تعبير الشاعر الفيلسوف المتنبي عندما اجتاحه المرض، وتشتت عنه الأصحاب، فكان أن توجه للألم يحاوره ويصدعه، وقد فضل السهاد على المبيت تحت الرجام (في البيتين الأخيرين):

ملومكـــما يجــل عـن المــــلامِ

 
ووقــع فعـاله فـوق الكــــلام

 
ذرانــي والفــلاة بـلا دليـــــــل

 
ووجــهي والهجــير بلا لثــام

 
فإنــي أســــتريح بـذا وهــــــذا

 
وأتعــب بالإناحــــة والمقـــام

 
وملنــي الفــراش وكان جنبـي

 
يمــل لقــاءه فـي كل عــــــام

 
قليـل عائــدي ســـقم فــــؤادي

 
كثير حاسدي صعب مرامي

 
وزائـــرتي كأن بهـا حيــــاءً

 
فلــيس تـزور إلا فـي الظلام

بذلـت لها المطارف والمطايا

 
فعـافتها وباتت في عظــامي

يضيق الجلد عن نفسي وعنها

 
فتوســـعه بأنــواع الســـــقام

وكان الصبح يطردها فتجري

 
مدامعهــا بأربعــة ســـــجام

أراقب وقتها من غير شـــوق

 
مراقبــة المشــوق المسـتهام

ويصدق وعدها والصدق شـر

 
إذا ألقـاك في الكرب العظـام

 
فإن أمرض فما مرض اصطباري

 
وإن أحمم فما حـم اعتزامـي

وإن أسـلم فما أبقى ولكن ســـلمت

 
من الحمــام إلى الحمـــــــام

 
تمتــع من ســـــــهاد أورقـــــــاد

 
ولا تأمل كرى تحت الرجـام

فإن لثــالث الحاليــن معنــى

 
ســوى معنى انتباهك والمنام


والألم له أنواع، أهمها نوعان:

الألم المعنوي: هو عندما لا يكون الإنسان واضحاً أو شفافاً، فإنه يعاني من القلق والأرق والوسواس ، سواء في حياته الاجتماعية أو المهنية. والقلق نوع من الألم النفسي المرهق،وكذلك الفشل واليأس.
أما أروع الألم فإنه الجوى (الحرقة وشدة الوجد) عند النوى عن الحبيب، النوى برحيل روحه، أو امتناع رؤيته، أوصدوده. بهذه الحالة تتصاعد كلمات (أبي العتاهية ) في (عتبة) وهو يشكو الجوى:

بالله يا حلوة العينين زورينــــــي

 
قبل الممات وإلا.. فاسـتزيريني

إن شئت موتاً، فأنت الدهر مالكةٌ

 
روحي، وإن شئت أن أحيا، فأحييني

إني لأعجب من حب يقربنــــي

 
مما يباعدني عنه، ويدنيني


يا أهل ودِّي.. إني قد لطفت بكم

 
في الحب - جهدي - ولكن لم تبالوني

 
وذاك شاعر، هو ابن النخاس يعبر عن الجوى:
ألام وعينــي لا تمـــل البـــــــكا

 
وقلبي بآلام الجوى يترشّــَقُ

وأواه، كم عاشق في الهوى قتلَ

 
وقلبي رهين كيف لا أتمــزّقُ


الألم الجسدي : حتى الآن لم أشك المرض، وذلك فضل من الله، والآن وأنا أهبط بهدوء على سفح الحياة، متحسباً من أن تزل بي الخطوات إلى الحضيض فأقضي على نحو مفاجئ، وقد شاع هذا المآل في هذه الأيام، صرت أتهيب ما هو قادم.
أما أن أسقط وأنا سائر على الرصيف، وأصاب بكسر في الكتف، بينا أنا سائر في ظروف عادية جداً، فهذا ما لم أحسب له يوماً حساباً، ولكنه حصل، فقد زلت قدمي، ربما أكون قد ظلمت رجلي، يقال (عثار الرجل إن عثرت / ولا يقال عثار المرء إن عثرا).
ليس المهم كبف حصل هذا، كانت النتيجة مؤلمة ألماً مبرحاً، يخف مع المسكنات، ولكنه حريص على أن يقاربني، لذا فكرت أن أدور حول الألم، وأن أحاوره، بعد أن خبرت أن ثمة للألم قرينة، لم تشأ أن تبارحه، إنها الآلام ذاتها تعالجني كما الحبيبة لحبيبها، اقول لها:

يا من نفت عني لذيذ رقادي


مالي ومالك قد أطلت سهادي


فبأي ذنب أم بأية حـــــــالة


أبعدتني، ولقد سـكنت فؤادي


تعطفي جوداً عليّ واتركــي


روحي وقلبي والحشا وقيادي


لقد تآلفت مع الألم، وكم خلصت إلى نفسي نجياً، فإذا بي أناجيه، أسامحه على وطأته الثقيلة أحياناً، وأظهر أياديه البيضاء عليّ:

قلت له: لا بأس، إنها مناسبة أن أشكر الله أن كانت إصابتي دون مَن تعرّضوا لحوادث أجسم. لكي تهون عليك مصيبتك، تذكر أن ثمة ما هو أفظع.

قلت له: شكراً لك أيها الألم، لولاك ما شعرنا بالمرض والخطر فنتداركهما، أليس في غياب الألم يكون أخبث المرض؟

بــخٍ بـــخٍ يا أيها الألــــــــــــمُ

 
بفضــــلك يُمَيّــَزُ الســـَقَمُ

وأخبثً الأمراض ليس يؤلــمُ

 
مثل شــــحمٍ إذ هوَ الورمُ

يا صـــاحبي اللدودَ لا عدمتكَ

 
فيك ابتلاءٌ واعتبارٌ أقــومُ

لو تلطفـنْ، لو ترأفـنْ بحـالـتي

 
إذ أنــك بحالـتــي أعــــلمُ


قلت له: وشكراً لك لأنك ألجأتني إلى الله ألتمس منه العفو والعافية، ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه" (الزمر/8). وألتمس الطمأنينة " ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد/28). وألتمس منه السكينة " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين" (الفتح/4).

قلت له: إنك تعني المدخل إلى القوة، أليس يقال: "الضربة التي لا تقصم الظهر تقويه" و" لعله بعد الصداع انتباهة العقل".

قلت له: أليس في وجودك الشعور بسعادة الصحة، التي لا نقدرها ونحن نتباهى بالسلامة دون أن نقدر عظمتها. الصحة تاج....

قلت له: ألست أيها الألم نوعاً من العبادة والتضحية، حين ألزم الله المؤمنين أن يتذوقوا ألم الجوع والعطش، فيما هو الصبر والبروالصيام؟

قلت له: شكراً لك، لأنك علمتني كيف أتكيف معك، فإذا طعامي مختلف، وسلوكي محدود، والدواء الذي أرغمت عليه سبيلاً للصحة والسعادة، (وصف الطبيب لي الدوا فوجدته /// مراً مذاقته كطعم الحنظل). لقد صيرتني في نوع من الحياة مستجد، فيه بعض الأسى والقسوة، او ليس في القسوة إفادة، "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار".(البقرة/74) . أو ليست المعاناة لازمة " اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم".
قلت له: بك أيها الطارئ، صرت أفهم معنى السؤال الشائع: كيف صحتك؟ يقولها بشكل تقليدي كل صديق لصديقه، وحين تتبدى أيها الألم، لا يكون الجواب تقليدياً على نفس السؤال.

قلت له: ولكن يا عزيزي، وقد اخترت أن تصاحبني، أرجوك أن تحفظ حق الصحبة، فتكون لطيفاً، فأنا أحب اللطفاء، أرجوك أن تكون خفيف الظل، وكن كمن ناجى حبيبته (قيس):

لم يطل ليلي ولكن لم أنـــمْ


ونفى عني الكرى طيف ألمْ


خففي يا قيس عني واعلمي


أنني با قيـــس من لحم ودمْ



أخيراً، أيها الألم العتيد، بك عرفت فضيلة "الصبر" :

عليك بحسن الصبر أن تكسب العلا


فما صـابر فيمـا يـروم بنــادم


إن الصبر مظهره التحدي والابتسام في وجه الخطوب: يروى أن عبد الله ابن عمر، أنه دفن ابناً له وابتسم عند دفنه، فقيل له: أتبتسم عند القبر؟ قال: أردت أن أرغم أنف الشيطان (الشيطان هو رمز الضرر والألم) /المستطرف للأبشيهي/.
وأنا في محنتي إذ أكابد الألم ليس لي ملاذ سوى الصبر مستذكراً قوله تعالى:"واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" (لقمان/17).
وأكثر من ذلك فالصبر مقرون بجميل القول في كتاب الله:"إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب" و"يجزون الغرفة /الجنة/ بما صبروا" و"إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" و"صبر جميل" والأصل هنا النصب على المصدر ونيابة عن الفعل، إلاأن الرفع أبلغ (عمدة الحفاظ).

ومما أثر عن الآخرين في قضية "الألم"


 إن الحياة تتطلب بذاتها النضال والاقتحام

يقول وليام جيمس: "فالإنسان لا يشعر بأنه يعيش فعلاً، إلا إذا ذاق الصراع حلوه ومره، فشقى بالهزيمة أو انتشى بالنصر. وإذا كان كل شيئ ميسراً ممهداً لقفدنا كل إحساس بالتوثب، ولافتقدنا بذلك ذاتيتنا، وعدمنا أحساسنا بشخصيتنا. ففي كل منا ذخائر من الطاقة لا يمكن أن تستثمرها حياة هادئة رتيبة، وإنما توقظها وتثيرها حياة متدفقة عارمة، حياة خارقة فذة، هنا في معمعة هذه الحياة نحس فعلاً أننا نعيش، ذلك لأنا خلقنا للنضال والتحدي، ومن أجل غاياتنا يشتعل حماسنا، ويضطرم نشاطنا. ولا يجب أن يعيقنا ما يعترينا من ألم عن متابعة الصعود.

 أما أفلاطون وغيره من الفلاسفة فيرون أن الألم أداة تطهير، وأنهم يعنون بذلك أن آلام الحياة هي الكفيلة بأن توجه بصرنا الروحي نحو الخيرات العليا والقيم السامية، فترتفع بيننا إلى مستوى الطهارة القلبية الحقة التي هي ينبوع السعادة الروحية العميقة.

 يقول جوته:" إن من فاته أن يتذوق خبزه في الألم، ومن لم يقض ساعات سوداء يترقب باكياً طلوع النهارالمتثاقل، إن مثل هذا الإنسان لا يعرفك أيتها القوى السماوية".

أخيراً، أيها الألم أليست فيك أبجديةالأمل؟

أوليس كما الألم محنة لعل فيه منحة، كما هو العنوان أعلاه؟

" ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون" (النسء/104).

أما عن فضيلة الصبر، يقال: الصبر مفتاح الفرج

وس يقولون بالفرنسيية:

‏Avec de la patience on arrive a tout

وبالإنكليزية:

With the patience we reach to all


مشاركة منتدى

  • الموضوع في غاية الروعه سلمت يداك
    أعجبني الألم الذي أعايشه و قد ألفته و ألفني و كما قلت تماما الحياة من دون ألم كيف تكون .... في أضعف لحظاتي أكتب ثم إذا ما فرجت ؛ و كل ألم معه أمله؛ أعود و أرى ما كتبت لإدهش من جمالية و عذوبة و صدق مشاعري في تلك اللحظة البائسه لأتفاجئ كم أصبحت أقوى بعدها و أكثر حلما

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى