السبت ١٥ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

سردينة تبحث عن الاختلاف

قالت سردينة مكتئبة:

ــ في هذه الحياة الزّفت، لا وجود إلا للرّتابة. أنا نفسي رتيبة مملّة. ولي من الأشباه ثلاثون مليونا؛ فأي سبب للعيش بقي لي إذا كنت مجرد نسخة مكرّرة مبتذلة؟

إن حيواتنا تتكرر إلى ما لا نهاية. وسأكون مخطئة إذا قلت إنني "أنا"؛ فقد أكون أنا أو أية سردينة أخرى لفرط ما نتشابه: فلنا نفس الشكل، ونفس الألوان الزرقاء الداكنة، ونفس السلوكات المحنطة. ولا يقدر أي واحد أن يميز بيني وبين أخرى، ويتعرّفني ما بين سواد السرادين. فهل يمكن لي أن أسمي حياة النسخ هذه حياةً؟ أنا أريد أن أكون مختلفة عن بنات عشيرتي. أريد ـ مثلا ـ أن يكون لي شعر يكسو جلدي بدل هذه الحراشف المقيتة. أن يكون لي صوت أتكلم به بدل لغة الجسد البكماء التي أخاطبكم بها. أن تكون لي صورة تعرفونني بها من بين الملايين وتفتخرون بها. أريد ـ إذا ما مِتُّ ـ أن تدفنوني في تابوت في أرض مزهرة، بدل هذا القبر المائي الرهيب. إذا ما مِتُّ سوف يأكلني السمك. وقد يأكلني البعض منكن أيتها الصديقات المخلصات. لهذا أريدكم أن تدفنوني في صندوق خشبي في روضة على الأرض، بجوار كبار المخلوقات. أريد أن أتزوج بحلمي وأن لا أعيش فقط على الأكل والنوم والفرار من التون المفترس...

فقطعت خطابَها سردينة حكيمة:

ــ لا يمكنك يا أختي أن تعتبري نفسك شبيهة بنا. فلا شيء في الكون شبيه بأي شيء في الكون. هذا الماء الذي نعيش فيه لا يشبه بأي حال من الأحوال الماء الذي عشنا فيه البارحة؛ فكل شيء مختلف، وكل شيء يتبدَّل. كما أن مصادرنا ومصائرنا مختلفة. وإن تدققي النظر، سوف ترين أن ألواننا مختلفة، كما هي مختلفة أشكالنا على الرغم من التشابه الظاهري بينها. ما تقولينه ليس إلا كلاما ناتجا عن حالة سخط على صعوبة العيش التي نحياها، أو حالة اكتئاب شوشت عليك التفكير، فصرتِ تريَْن ما لا نراه نحن السرادين الأسوياء.

فصاحت السردينة الباحثة عن الاختلاف:

ــ هراء! نحن نسخ متكرر عن بعضنا. ولا نفكر إلا في الأكل والنوم والخوف. أنا خجلة بسبب هذا. وإني لو أقدر على تغيير خلقتي لأتميّز عنكم لفعلت. ولكني محكومة بأن أكون مجرد شبيهة، وهذا الواقع لا يسعدني. ثم انظروا إلى أفواهنا! أفواهُنا مفتوحة دوما على ثرثرة بكماء، ولا أحد يسمعنا. قد نبكي، نتألم، نعبِّر عن حياة الفقر التي نحياها، ولا أحد يسمعنا.

ارتبكت السرادين، وحارت في أمرها، فتقدمت من سردينتنا واحدة معروفٌ عنها أنّها حكيمة، فقالت لها:

ــ أتعبتِنا أيتها المغرورة، فإذا كنتِ صادقة فيما تقولين، فإننا نمنحكِ شهرا كاملا لأن تأتينا بسردينة واحدة تشبهك تماما، فيكون لكلامك معنى، ونصدِّقك.

فقالت:

ــ لا أحتاج لكل هذا الوقت. الآن وفي هذه الدقيقة أقدم لك واحدة من شبيهاتي.

فجرَّت من الجمع واحدة، وقالت :

ــ ها هي ذي واحدة تشبهني تماما وتؤكد قولي.

فاندهشت سردينتنا لمّا رأت السردينة الأكثر حكمة تخاطبُ "الشبيهة" قائلة لها:

ــ معكِ حقٌّ أيتها الصديقة، فهذه شبيهتك إلى أبعد الحدود، ونحن نعتذر لك لكوننا لم نفهمكِ، ومنذ الآن سوف نقدِّركِ ونحترم قولك، ونساعدُك على التميّز.

فصاحت المغرورة:

ــ ماذا تفعلون يا حمقى؟ هذه ليست أنا. لماذا تخصّونها بالتقدير الاحترام، وأنا التي جلبتها لكم من بين مجتمع السرادين؟

فردَّتِ الحكيمة:

ــ لماذا تصرخين في وجهنا أيتها الحمقاء؟ فإذا كان كلامك صحيحا، فما العيب أن لا نميّز بينك و بين غيرك؟

هزَّتِ السردينة المغرورة رأسها، وقد فهمت، وقالت:

ــ معكم الحق؛ فإذا كنا أشباه بعض فما الحياة إلا مثل بعرة. وإذا فُقدت واحدة منا، فلن يكون لأسفنا على فقدانها معنى. ثم إني أحب سردينا ذكرا قد غاب عنّي، فلماذا لم أستطع تعويضه بأي سردين آخر. ولقد كنتُ أنا من خاطبكم في هذا الليل المائي، ولم يخاطبكم غيري، هذا الأمر لوحدِه دليل على التفرُّد؟ ولي ندبة في خاصرتي أحدثها فيّ سمك تن ولم يحدثها في غيري. ولي كتاب من سجيل خفي أدوّنُ فيه مغامراتي البحرية، ولا واحد من السرادين له مثله، ولي أحلام واستيهامات دفينة ما هي لغيري. الحق معك أيتها السردينة الأكثر حكمة، فلو كنتُ مجرد شبيهة، لكنتُ زائدة في هذا الوجود. لهذا أنا أعتذر لكم عن ثورتي، وأقول لكم؛ من المستحيل ـ حقا ـ أن نكون شبه بعض.وكل فرد منا له حياته المثيرة،ويستحق أن يحيا حياة المميَّزين، وأن يموت ميتة العظماء، فسامحوني!

لغة سليمة جدا
فكرة مرضيّة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى