الثلاثاء ١١ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم مي محمد أسامة

حقيبة سفر

فركَ يديهِ بعدَ أن ألقى بقايّا لفائفِ الطّعامِ في سلّةٍ قربَ الرصيف، تابعَ سيره ببطءٍ كما بدأهُ، في يدهِ بعضُ حقائبِ التسوّق، و في رأسهِ ضجيجٌ عالٍ من تصادمِ أفكار لم يعِ أيّها له الأولويّة بعد.

صخب السيّاراتِ و البشرِ المتدافعة من حوله لا يَصلُ أذنيه، يُصمّه حالهُ،يكاد يُعميه،لا يخفى تخبّطه عمّن يراه.

يسيرُ دون غايةٍ أو وِجهة، يعلمُ يقيناً أنّه عائدٌ إلى مكانِ إقامته لكنّ تبيّن الوجهات الآنيّة، أمرٌ لم يعد يشغلهُ أكثر، لعّله سيصل.

اقتربت الإجازة، و عليه أن يعود إلى أسرته. تداعبه صورة طفليه الصغيرين، ليث و لؤيّ، كم يفتقدهما، يحادثهما يوميّا، يطلبان منه تقريبا كلّ شيء.

يحدّثانه أحياناً عن الروضة، أطفال الجيران و الألعاب الجديدة. يقولان أنّهما يفتقدانه بشوق كبير، في فؤاده أيضاً يرتع كمّ هائل من الشوق لهما، لكنّه، و بعد عمرٍ مديد الوحدة في بلاد الغربة، اعتاد صداقة وحدته حدّ الألفة.

سيعودُ الآن إلى بيته، إلى زوجتهِ التي لم يخترها إلّا بدافع النصيب، لكن، و للإنصاف،يعترف أنّها امرأة جيّدة، فيها كلّ مواصفات الزوجة – المثال.

صحيحٌ أنّها لم تحاولِ الولوجَ لحظةً إلى عقله أو قلبه أو حتّى التفكّر بسؤال ما يدعى " ماذا تحبّ أو تشعر". معاملته كإنسان قبل أن يكون رجلاً – زوجاً – أباً.

إلّا أنها ارتضته رغم علمها بسفره الطويل و غيابه المتكرر عنها، وقبلت أيضاً بالعيش مع والدته و شقيقاته في منزل واحد، و ليس ذلك لضيق ذات اليدّ، إنّما لأنّه رجل البيت بعد وفاة والده و هجرة أخيه الأكبر نهائيّا عن البلد.

وقف أمام واجهةٍ برّاقة، يظنّ من يطالعه، أنّه يرهقها تنقيباً، لكنّ عينيه تعملان في مكان، و دماغه في مكان آخر منفصلٌ تماماً.

بعد غدٍ تبدأ الإجازة، الكلّ من حوله سعداء يتسوّقون ، يختارون الهدايا الأفضل للتعبير عن شوقهم للأهل و الأحباب، للتعويض عن طول مدّة الغياب،لإيجاد مكان في قلوبهم بعد أن تعفّرت صور وجوههم بغبار النسيان.

و إنّه لسعيدٌ أيضا، لكنّ شغاف قلبه تنبض بغرابة لم يعهدها ،القلق استحلّ المساحة العُظمى من قلبه..

سيعود إلى بيته. حيث ليس بإمكانه ممارسة وحدته أكثر، حيث لن يحظى بمساحة تنتمي له وحده، فكلّ أمكنته هناك، مستباحة، حتّى سريره، هنالك من يشاركه فيه.

لا مكان لأشيائه كي تحظى بحرّيتها، و حرّيته هوَ في الكشف عنها أو إبقائها طيّ الخفاء.

أوراقه و القصاصات الكثيرة، كتبه، اسطوانات موسيقاه، أفلامه المفضّلة، ملفّات بحوثه و ألبومات صوره، كلّها هنا تحظى بمكانٍ لائق، مرتّب منظّم، ليس مشاعاً لأحد و لا حتّى لزميله في السكن.

كلّها، بأماكنها تنتمي له، "ملكه " للأعماق لا يطّلع عليها إلّاه.

و حين السفر، يصطحب من متعلّقاته الشخصيّة ما يحتاج، يضعها في حقيبة جلديّة منفصلة عن حقائب الملابس و بقيّة حقائب الهدايا، تأخذه الحيرة حين وصوله في كيفيّة إخفاءها عن المترصّدين.

فالدواليب في غرفته مشتَركةٌ مع زوجته، و مشترَكة كلمة جيّدة إذا ما جاء لواقع أنّ دولابه، وبحكم غيابه شبه الدائم،محتلّ من قبلها –زوجته- و من أطفاله أيضا.

لذا دائما ما يبقي الحقيبة – الذات، مغلقةٌ بقفلٍ أو كلمة سرّ، يضعها كما هي إمّا داخل خزانة، أو على الأرض قريباً من السرير.

و غالباً ما تخيّل أنّ ذاته، و وجوده هناك في بيته الخاصّ، كامنٌ في تلك الحقيبة، و أنّها مصيره. سيغلقها يوما – بعد انتهاء فترة مشاعيّته – و يعود بها إلى حيث ينتمي- تنتمي.

و كأنّ انتماءه أصلاً لم يكن هناك مطلقاً. كأنّه لم ينتمِ يوماً إلّا لذاته القابعة داخل الحقيبة!

قهقهةٌ مدويّة تدهمه فجأة، و كأنّها تصدر عن غيره، تباغته. تدير رؤوس الناس من حوله إليه..

ما أتفه الإنسان، أينَما حلّ أو ارتحل،لا يسكن حقّا إلّا نفسه، يتعلّق بها لدرجة الجنون ثمّ، يتحدّث عن الإيثار و المشاركة..

أيّ مشاركةٍ و هو الحريص كلّ الحرص على ذاته، من أن تنالها و لو قليلاً، عيونُ الآخر و إن كان من لحمه و دمه ؟

أيّ مشاركةٍ و المحورُ في داخله، لا يدور إلّا من حوله دون أن يشعر ؟

على أيّ معنى و بناءً على ماذا يطلق اسم "شريك حياة " ؟

بماذا يشاركك ؟

بعدّ أيام الحياة المنقضية تباعا،و إطلاق أسماء عليها و حصرها في تواريخ قد لا يعنيك قدومها أو رحيلها و تكرارها ؟

بأفعالٍ تراها بعينك و يراها بعينه، و لها في الذاكرة سجلّات مختلفة؟

أم بإشغالك حتّى الملل بطعامٍ و شراب و زيارات و مصاريف ؟

أهكذا هي المشاركة ؟

أهذه هي الحياة..؟

ماذا تقرب هذه الحياة لإنسانيّتك؟

؟

ربّما – قال لنفسه – كان الخطأ فيّ، فأنا عشت غريباً طوال عمري، تارة بين أهلي و طوراً أعيش معنى الغربة الحقيقيّ، لذا تعلّمت أن لا أبوح بفكرة واتتني أو حزن غمرني، أو حتّى إظهار مشاعري لغير مرآتي..

أنا إنسان ضنين بالمشاركة، فلم ألوم الغير؟

رمق ببصره المسافة أمامه، مليئة كانت بالبشر، تخايلهم أشباحاً، وجوها سيراها في عمره مرّة تمرّ من أمامه دون أثر..ولكنّهم..حقّاً بشر!

عاود انغلاقه و ترتيل أفكاره..

الإنسان منّا لغزٌ مضحك، سرّ عصيّ يستتر خلف حوائط لا تشبهه، أمانٍ يناظرها لتعطيه قيمة أمام غيره. بينما يرقد هو ذاته في جلده، يقيس الدنيا على هواه و يرتضيها أو.. يأمل فيعلنها!

تابع سيره بنفس البطء، بخطى أثقلتها هلوسات أحاديثه الأخيرة..

أنا و ذاتي في حقيبة، جميلة هذه الفكرة، هل حيث أرحل تذهب الحقيبة أم العكس كما يبدو أصحّ ؟

هل قيمتي تكمن في أشيائي التي أحبّها، تعنيني كجزء من ذاتي، أم أنّ قيمتها تكمن في حبّي لها ؟

ما هي هذه الأشياء أصلاً حتّى حازت محبّتي ؟

هل هي صنعتني أم أنا من صنعها ؟

أم لأنّها "ملكي" ؟

و أصلا.. من أنا ؟

ما هي هذي الحياة كلّها بأحمالها وذاكرتها و سجلّاتها و حتّى أشيائنا الأثيرة ؟

هزّ رأسه كمن وقع في شرك أسئلة لا منجى لها.. لا جواب لها ، و لا نهاية أيضاً..أحسّ بثقل ما يحمله في يده..و كأنّه تذكّر للتوّ..فروحه تلبّست فجأة بحملٍ غريب..

وضع الحقائب من يده على الرصيف، مسح براحتيه بقايا دمع تغرغر في مقلتيه، لا حزنا كما أقنع ذاته، إنّما من القهقهة التي كادت تخنقه.

عاود حمل ما ترك و أسرع خطاه هذه المرّة، ليبلغ البيت، لم يعد أمامه متّسع من الزمن، أزف الوقت و عليه أن يجهّز الحقيبة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى