الخميس ١٣ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم زياد الجيوسي

الأسيرة ووادي النطوف

صحوت مبكراً صباح أمس كالعادة رغم أن السبت عطلة أسبوعية، ففي مساء أول أمس، فاجأتني الصديقة الطيبة هالة كيله وهي عضو بالهيئة الإدارية لجمعية الروزنا في بيرزيت، بدعوة لرحلة سيكون معظمها سيراً على الأقدام، وهي بعض من فعاليات مهرجان الربيع من برامج جمعية الروزنا، في رحلة تجوال في بعض المناطق القريبة من بيرزيت للتعرف إلى الوطن والطبيعة ومعانقة التاريخ. هذه الجمعية المهتمة بتطوير التراث المعماري والحرفي في بيرزيت، جمعية أهلية غير ربحية، بدأت فكرتها تتمحور في العام 2006 من خلال مجموعة من أبناء بيرزيت من أصحاب البيوت والأحواش في البلدة، إضافة إلى أصحاب خبرات في مجالات مختلفة ومهتمين بتنمية البلدة القديمة بشكل خاص والريف الفلسطيني بشكل عام. لإحداث تراكم تنموي للريف من خلال دراسات وفعاليات ونشاطات لإعادة تأهيل وإحياء التراث المعماري والحرفي، بهدف المحافظة على ميراثنا الثقافي والمعماري الذي هو هويتنا وحضارتنا، وتحويل البلدة القديمة في بيرزيت إلى جسم نابض حي، وذلك من خلال التنمية الريفية السياحية، وضخ الحياة في الأحواش والبيوت والعليات والساحات، لإعادة جذب السكان وتشجيع التنمية والاستثمار في البلدة، ومن ثم إكسابها مكانه دائمة على خريطة فلسطين السياحية.

احتسيت قهوتي وسرت في دروب رام الله أستنشق الياسمين متجهاً إلى بلدة بيرزيت. قبّلت رام الله مودعاً، ولكن روحها رافقتني، وفي بيرزيت هذه البلدة العريقة تجولت قليلاً والتقطت بعض الصور، فقد وصلت مبكراً وشدتني العراقة فيها، هامساً لها: أيا بيرزيت سيكون لي معك جولة خاصة في رحابك ودروبك وعبق تاريخك الجميل، لأصل نقطة التجمع وألتقي مع منظمي الرحلة والحضور الذين سيشاركوننا الرحلة. احتسينا القهوة وصعدت إلى الحافلة الأولى التي ستكون مقدمة المسيرة من بين أربع حافلات ستشارك في برنامج اليوم، ولكل حافلة قائد يشرح عن أماكن التحرك ويعطي التعليمات، وكان قائد رحلتنا السيدة تيدي وهي امرأة في غاية اللطف وخفة الروح، فأضفت على أجواء المسير طابع لطيف وطيب.

تحركت بنا الحافلة لتعبر جسر عطارة إلى حديقة مقام القطرواني، ومن هناك كنا نطل على الساحل في البعيد، تداعبنا النسمات الغربية وعبق البحر السليب، فتجولنا في الحديقة والمقام وبقايا آثار لكنيسة كاترينا البيزنطية التي لم يبق منها إلا بقايا أعمدة، ثم إلى موقع مقام الأسيرة مقابل بلدة بيتللو، وهو بيت قديم مهدم، تقول الأسطورة إن امرأة عشقت رجلاً في تلك المنطقة، فحبسها أهلها حتى ماتت، ونبتت الأشجار كثيفة تلتف حول المكان، وراجت أسطورة أخرى أن من يكسر غصناً من تلك الأشجار يصاب بلعنة الأسيرة، فرأيت جذع شجرة ممتداً على سطح الأرض ضخماً سميكاً ضارباً في العمر والتاريخ، وفي الأسطورة أيضاً أنه كان منتصباً، لكنه حزناً على العاشقة الأسيرة نام أرضاً وبقي هناك يتألم وينـزف قطرات الصمغ وكأنها دموع على شهيدة الحب.

تحركنا إلى بلدة بيتللو التي تقع إلى الشمال الغربي من رام الله، ويعتقد أن اسمها تحريف لكلمة بيت إيلو بمعنى بيت الله، وذكرت في العهد الروماني باسم (اللون)، ودعاها الفرنجة في العصور الوسطى باسم (بيت الله)، وتحيط بها أراضي قرى كوبر، المزرعة القبلية، عابود، دير عمار. تحتوي القرية على محاجر ومدافن في الكهوف، وفيها خربتان أثريتان هما: خربة كفر فيديا وكفر صوم، تضمان جدران أبنية مهدمة، ومنها إلى دير عمار الملتصقة بها، وتحيط بها أراضي: جمالا، وخربثا المصباح، ورأس كركر، والمزرعة القبلية، والجانية، وكفر نعمه. يقع إلى الجنوب منها خربة الميدان، وتحتوي على جدران متهدمة وأساسات وصهاريج منقورة في الصخر، كما يجاورها قرى خربة الشونة، وخربة الدكاكين، حيث نزلنا من الحافلات في دير عمار كي نلتقيها بعد الظهر في عيون الزرقاء، وبدأنا في العاشرة والنصف صباحاً رحلتنا سيراً على الأقدام لنتسلق طريقاً زراعية صعوداً إلى جبل النبي غيث أو جبل الأرواح كما تسميه الأساطير، حيث مقام غيث بين الأشجار الصنوبرية على رأس الجبل، والمقام قديم وأعتقد أن عمره حوالي خمسة قرون، وهو نسبة لرجل متعبد سكن قمة الجبل وزرع بعض الأشجار الصنوبرية، وبعد وفاته أصبح مكان إقامته مقاماً يزوره الناس تبرّكاً حتى أطلقوا عليه اسم النبي غيث، وفي فترة ما بعد النكبة والوحدة مع الأردن قام الجيش بتشجير قمة الجبل، لكن الأهالي احتجوا على زرع الجبل بأكمله خوفاً على أراضيهم الزراعية، وبقيت القمة مشجرة بأشجار جديدة حول القديمة، واستغلت أسطورة مقام الأسيرة، وأُشيع أن من يمس الأشجار يغضب عليه النبي غيث، فنمت الأشجار وأصبحت غابة على قمة الجبل الأجرد الحواف وكأنها قبعة خضراء.

ثم هبطنا من هناك في الاتجاه المعاكس لصعودنا الجبل إلى وادي النطوف لنتجه حوالي سبعة كيلومترات باتجاه عيون الزرقاء، في واد ساحر الطبيعة والجمال، كل أشجاره وصخوره تتحدث عن عبق التاريخ، فهذا الوادي الذي يمتد مسافة طويلة يحمل اسمه نسبة إلى الحضارة النطوفية في العصر الحجري الأوسط والتي تمتد ما بين ثمانية ألآف إلى أربعة عشر ألف عام قبل الميلاد، وهي الحضارة التي انتقلت من مرحلة الصيد إلى مرحلة الزراعة والاستقرار، وقد اكتشفت آثار هذه الحضارة العام 1928 على يد المنقبة دوروثي غارود في الكهف المعروف باسم (مغارة شقبا)، وتعتبر هذه الحضارة الخطوة الأولى في مرحلة بناء المجتمعات الزراعية في بلاد الشام، وأثناء سيرنا هذه المسافة كنت أرى في المزارعين أبناء المنطقة تاريخ المنطقة وروح الوطن، وأنظر إلى جنبات الوادي وصخوره الهائلة والكهوف المتناثرة فيه، وأشعر بأرواح الأجداد تجوله. تنظر إلينا وتهمس: الأرض لنا ونحن من حفرنا الصخور وزرعنا الأشجار ونثرنا بذار القمح والشعير، فواصلوا المسيرة، فهي أرضنا نحن وليست للغرباء.

من العاشرة والنصف حتى بعد الثانية عصراً واصلنا المسيرة في حالة تناغم مع الطبيعة والجمال، بقايا أثارات قديمة، وعيون ماء منعشة، وبرك ماء تستخدم للزراعة (لكن المؤسف له أن من مروا من هناك لم يهتموا بالنظافة، فوجدت في كل موقع بقايا الأطعمة والورق وعلب فارغة، فهل من يمر لا يفكر أن هذه الأرض لنا جميعاً وأن عليه المحافظة على نظافتها؟) حتى وصلنا إلى عيون الزرقاء لنرتاح، ويتناول من يرغب الطعام من مأكولات تقليدية وشعبية أعدها بعض من أبناء المنطقة بأسعار معقولة، ونتحدث ونستمع إلى عزف العود لأحد الشباب الذين رافقونا المسير قبل أن تغادر مجموعتنا المكان عائدين إلى بير زيت في الثالثة عصراً، فأنظر إلى بقايا سيل الماء بعد استيلاء الاحتلال على عيونه وأهمس لنفسي: لا بد من أن تعود عيون الماء قوية من جديد كما كانت عبر التاريخ.

وها أنا في هذا الصباح الجميل، أقف إلى نافذتي وحوض النعناع وأحتسي القهوة بعد أن تجولت بين عشرات الصور لهذه الرحلة بعدستي، أستمع وطيفي لفيروز وهي تنشد: (تبقى بلدنا بالحمام مسيجة، ويضحك عهالعلوات غيم بنفسجي، ولما على بنياتها يهب الهوى، يصير الهوى عأبوابهن يروح ويجي)، وأحلم بغد أجمل وصباح أجمل، وأهمس بيني وبين نفسي: شكراً للروزنا، كم رائع أنت يا وطن!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى