الجمعة ١٤ أيار (مايو) ٢٠١٠
فلسطينيو المنفى هويتهم

الثوب الكنعاني المطرز

رشا عبدالله سلامة

بينما كان الثوب الفلسطيني الأطول في العالم يتماوج في مدينة الخليل قبل أيام بخيوطه الحريرية وتطريزه الكنعاني، كانت الخمسينية وفاء جلبي تعاند دمعة فرت من عينها «لحال شعب مكلوم تسرب وطنه بتفاصيله كلها حتى لباسه التراثي من بين أنامله، فهرع لما تبقى منه، كمن يتمسك بالورقة الأخيرة»، بحسبها.

تعود بذاكرتها لتلك الأيام.. حين كانت والدتها تناولها قطع الحلوى التي خبّأتها لها
في "ردن" ثوبها، حين كانت تمشي وإياها في أزقة البلدة القديمة في مدينة القدس..

في الوقت الذي كانت تتلقف فيه وفاء «حلاوة الردن» مثلما ظلّت تسميها منذ ذلك الحين، كانت والدتها تسرد لها عن اصطفاف النسوة الريفيات بأثوابهن الفلاحية في البلدة القديمة في مدينة القدس وتحديدا عند باب العامود؛ لبيع منتوجاتهن من الألبان والثمار، ليغدو المشهد أقرب للوحة زخرفية من الألوان الزاهية وثيمات التطريز الدالّة على قرية أو
بلدة "لبّاسة" الثوب.

الأربعيني أبو عاهد لا يفتأ يتأمل لوحات الفن التشكيلي الفلسطيني التي خلّدت كثيراً منها نقشات الثوب الكنعاني، ومنها لوحات تمام الأكحل وسليمان منصور وإسماعيل شموط وغيرهم كثر ممن رافقو بريشاتهم الثوب ومُرتَدِيَاتِه في الحقل.. كما في البيت والحاكورة وفي مواجهة جنود الاحتلال الإسرائيلي.

يقول «ما زال شغفي بالثوب الفلسطيني طازجا كما كان؛ فمنذ وعيت ارتبطت في ذهني تفاصيل الوطن بنقشاته وألوانه".
استياء بالغ يعتري أبو عاهد حين يرى» من يتجارون باسم التراث في هذه الأيام ليستدرّوا مبالغا طائلة، مع تفريط كبير في صورة الثوب الأصلي ونقشاته بداعي التحديث عليه".

يتساءل «من طالبهم بتحديث الثوب الفلسطيني؟ و لماذا نجنح نحو تحديثه فيما الإسرائيليون يسرقون تطريزه ونقشاته الفلسطينية وينسبونها لأنفسهم؟».

بِحُرقةٍ يقول: «فلتتحرر فلسطين في البداية ومن ثم فليحدّث هؤلاء على الفولكلور كما شاؤوا».

على الطرف المقابل، تقول الشقيقتان ناهد ومنال أبو زيد «ما من مجال للتشكيك بالدور الكبير الذي لعبته بيوت التطريز، التي انتشرت في الآونة الأخيرة، في إحياء التراث الفلاحي الفلسطيني»، مردفتان .. «أما الأثمان العالية فيستحقها الثوب الفلسطيني المطرز بعناية ودقة ومواد تستنزف الكثير من الجهد والوقت والتكاليف».

العشرينيتان ناهد ومنال اختارتا الثوب الفلسطيني زياً لهن في الاحتفالات العائلية والفعاليات الفلسطينية التي يرتدنها باستمرار، برغم ارتباط الثوب الفلسطيني لدى كثيرين بشريحة السيدات المتقدمات في العمر، بحسبهن، إلا إنهن وجدن فيه "خير ناطق باسم الهوية الفلسطينية المهددة بالضياع لدى الأجيال الفلسطينية الشابة".

وفي وقت تتيه فيه كل منهن برؤية التطريز الفلاحي على أثواب كثيرة وشالات و"جاكيتات" وأكياس وأغطية وسائد ومرايا وبراويز، وفي مراجع عدة منها الكتب والمنشورات والخرائط التراثية وحتى مجموعات "الفيس بوك"، فإنهن يختلجن ألماً على انتحال الإسرائيليين صبغة الثوب الفلاحي وتطريزه أمام العالم تحت مسمى "تراث إسرائيلي".

وكانت القائمة على "مركز التراث الفلسطيني في بيت لحم" مها السقا، ذكرت في أحد حواراتها السابقة بأن مضيفات طائرات "العال" الإسرائيلية لا ينتحلن الأثواب الفلسطينية فحسب، بل إن الإسرائيليين وضعوا ثوب العروس التلحمي في المجلد الرابع من الموسوعة العالمية كأحد أزياء التراث الإسرائيلي.

وتربط السقا، كما المراجع التراثية الفلسطينية، بين بيئة كل منطقة فلسطينية وخلفية أهلها التاريخية وبين نقشات ثوبها وألوانه، مهتدية لنتيجة أن "الثوب الفلسطيني في واقع الأمر هو أكثر من كونه ثوبا، إنه فن وثقافة وتراث. وشعب له مثل هذا التراث هو شعب باق لن يموت".

حلوة رزق، التي طاولت خبرتها في تطريز الأثواب الفلاحية ما يربو على الخمسة عشر عاما، تربط بين أصلها الفلاحي وارتداء والدتها وكل نسوة قريتها المقدسية للثوب الفلسطيني المطرز، وبين توجهها لمهنة تطريز الأثواب الفلسطينية من مناطق عدة منها بيت دجن وبيت لحم ورام الله والقدس وغزة وبئر السبع.

تقول "ثمة من يطلبن دمج تطريز أكثر من منطقة فلسطينية في ثوب واحد، وثمة من يطلبن ثوب الانتفاضة المطرز بالأعلام الفلسطينية والكوفية، وثمة من يُدخِلن عليه ألواناً وقصات جديدة أقرب للفساتين والجلاّبيات، وثمة عرائس كثيرات بتن يطلبن ثوب العروس الفلسطينية المطرز وخصوصا التلحمي"، بيد أن القاسم المشترك بينهن جميعا، من وجهة نظرها، هو الرغبة العارمة في تخليد الهوية الفلسطينية والتي يقف الثوب المطرز على رأس هرمها.

الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا كان من بين أولئك الذين فُتِنوا بالتطريز الفلاحي الفلسطيني، قائلا عنه "إنه بمجموعهِ يمثل فرحاً بالحياة، وإقبالاً عليها، وتجاوباً، حتى ليكاد يبدو إنه وليد طقوس هي طقوس الخصب ورفض الموت والتهليل لقوى الانبعاث في الإنسان كما في الزرع والضرع".

يضيف بشجن "المرأة الفلسطينية ما نقشت وطرزت ثوباً لنفسها أو لغيرها إلا وهي تحتدم حساً بروعة الوجود وغزارته. إن هذا التطريز فن أبدعه حب عارم لكل ما هو حي".

رشا عبدالله سلامة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى