الأحد ١٦ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

أشباح لاند

حدثني أبو ضياء؛ قال:

أبو جنان ـ أستاذي ـ مُقتّر في الكلام لعلمه أن جُله مضيعة للوقت. والنصح عنده بضع كلمات؛ إذ لا فائدة من الثرثرة إذا كان طالب النصح من فقراء العقل والنفس. وهو لا يسديه إلا لمن يطلبه. ولا أكرهَ لديه من "القيل والقال والإسناد والعنعنة". ينصح من يريد. في جملة أو جملتين، ثم يغلق عنه الباب لكي يتدبرَ أمرَه. "أنا لستُ نبيا" يقول. وحتى الأنبياء لم يكونوا ليثرثروا في تابعيهم. مشكل التخمة من القول، سببها هواية زخرفته وتزييفه ل"غرض في نفس يعقوب". واسمح لي إذا كنتُ أطنبت؛ فأنا ما زلتُ في التلمذة. واسمع هذه الحكاية وتفكر: دققتُ بابه في ليل بهيم. وكان هو في ضوء شمع، وكنتُ أراه، وقال لي:"هل تراني؟". ففهمتُ أنه عرف بعلمه الخفي إقدامي على زيارة "أشباحلاند". وقلتُ له:"إني لا أراك" فتبسَّم وردّ:"على كلّ غُرْباتي حقيق أن يتحمّل مسؤوليةَ وحدانيته وعزلته." وأطفأ الشمعة. فكان عليَّ أن أقطع نصف محيط المعمور عبر البحرين الأول والثاني لأن "أشباحلاند" توجد في القطب الشمالي الغربي المقابل لموقع جزيرة " غرباتيا"؛ بلدي. ونحن على مقربة من بلدان "تاوْزْغا" و"تيفيزْيا" و"والو ـ والو". آلاف العقد البحرية طويت بالعزيمة والصبر. حتى برزت عظامي، وغارت محاجرُ عينيَّ. فبلغ بي الفُلكُ بحر بلاد "الساسان" المتلاطم الأمواج، الخطير بتياراته المتناقضة، ولُجَجِهِ السَّحيقة، وحُجَجِهِ اللامنطقية، وفي ثنايا إحدى هذه الأمواج؛ خُيِّلَ لي أني رأيتُ رجلاً على ظهر حوت أبيض يصارعه بخُطّاف. وقد شبِّهَ لي أستاذي أبو جنان. وغطس الحوت بالرجل حتى قلتُ "هلك" وعادا للظهور. والرجل يضرب الحوت بقوة وبطش وحقد. والحوت يزفر ألمَه في شكل نفثٍ أبيض. وهكذا سارا في المحيط حتى صار الرجل كنملة فوق قطعة سكر. فما لبتا أن ذابا في الأفق في اللحظة التي اصطدم فلكي بساحل البلد المرام. وما كدتُ أرسو بساحله، حتى جاءتني ركوة ماء، فأُشربتُ منها قليلا وأنا على حدود فقدان الوعي، ثم جاءتني سمكة مشوية فأكلتها دون السأل عن مصدرها. فالجوع سيد المنطق في بعض الحالات. ثم جاءني الكساء وشيء من المال، ولم أكن أرى إنسيا يحسن إلي. فقلت في نفسي:"هذا البلد لا يخلو من أناس أخيار". وحزَّ في نفسي أني لم أستطع رؤية وجه الشخص الذي يحسن إلي. وها هي خطى تنطبع على الرمل وتقودني إلى برّاكة على تلة رملية.
وتُنيمني لكي أستريح. فاستفقت عند الفجر، ورأيت من كوة البرّاكة خيالات رجال ونساء يجدبون مراكب الصيد ويفرغونها من السمك ولكن ؛ ما إن أطلتِ خيوط الضوء الأولى حتى اختفت تلك الخيالات مع أن آثار أعمالها سارت مسترسلة. فهل رأيت لغزا أكثر تحييرا من هذا الذي رأيت؟ وكيف لي أن أحُلَّه فأعرف السر؟... وخرجت إلى المدينة؛ شوارع ومقاهي وإدارات كلها خالية من الناس ومع ذالك، رأيتُ ما يدل على حركة المرور والقهاوى تسكب في أفواه غير مرئية، والمكاتب مفتوحة لخدمة أناس غير مرئيين. وللتأكّد، وقفت بباب مكتب إداري، فإذا بي أنجر إلى الخلف وأسمع لأول مرة كلمة نابية تقول "شدْ مْعانا الصف!" وصرخ في وجهي معطف موضوع على كرسي :"شدْ الصف مْعَ الناس!" وتجرَّع جرعة من قهوة "إكسبرس" ونفث في وجهي دخان "مارل بورو". فخرجتُ لأجوب أزقة البلد، فبانت لي بناية تشبه مدرسة وسمعتُ فيها أصوات أطفال تردِّدُ نشيدا يقول:"مدرستي الحلوة... فيها تربينا..." ولم أر في الحجرات لا أطفالا ولا مدرسين؛ كلهم أشباح في أشباح. فانتهى إلى علمي معنى اسم البلد "أشْباحْلاند". فهل أخبرتك أني كنتُ في عاصمته؛ ولما تكركبتُ إلى أشهر شارع شعبي فيها واسمه "الجزاء"، دلفتُ إلى مطعم يقدم الحريرة طعاما للفقراء وطعمتُ منه، ولم يكن في المطعم إلا أنا، ولم يعد في مقدوري طرح أي سؤال عن الأشباح. وعندما هممتُ بالخروج منه، استوقفتني يدٌ خفية وقال لي صوتٌ:"هاتِ الفلوس!" فضربتُ يدي إلى جيبي فما وجدتُ فيه درهما. فما كان من الكائن الخفي إلا أن انتزع من عنقي قلادة ذهبية كانت أهدتني إياها صديقتي "وفاء" بمناسبة إتمامها لكتاب كانت تشتغل فيه ليلة إقدامي على الرحلة إلى "أشْباحْلاند" وكانت إحدى الأيادي الخفية قد سرقت المال مني. ولم أدر بذلك. وفي ليل العاصمة، اشتعلت الأضواء مختلفة الألوان ومحدثة لكل بهجة، وصدحتِ الموسيقات، وعمَّ الرقص الخفي، وكنتُ أسمع قرع القناني، وكانت تنفذ إلى منخاريَّ، العطور النسائية وأدخنة السجائر ولم أكن أرى أحدا. وجاءت فرشاة دهان لتدهن حذائي عند باب مقهى يسمى "المنتهى" ولم أكن لأرى ذلك "السيرور". وكلمتني عاهرة ـ عرفتُ أنها عرجاء من لكنتهاـ وقالت لي:"لي طفلة مقلوبة عليَّ مداواتها" فأعطيتها بعضا من الأوراق المالية . فهل لا أجود على طفلة قلبها وحياتها في خطر؟. وهكذا سرتُ من زقاق إلى زقاق، ولم أر الناس، ولكنني رأيتُ الفقر والغش والسرقة. فقررتُ أن أعتلي الأحياء الراقية في تلك العاصمة وهناك؛ هناك رأيتُ الناس: ساكنين في فيلات وراكبين السيّارات الرباعية الدّفع، ولابسين الملابس الغالية الثمن، والدماليج وال" السلاسل اليدوية الذهبية، والخواتم الماسية، ومدارس بمدرسين من لحم ودم، وإداريين يخدمونهم بالقول والفعل، ومشروبات "جوني والكر" يشربونها بأفواه حقيقية، وأطعمة صينية وإفرنجية يأكلونها بأضراس من عاج، وعطور يضعونها خلف الأذن، للذي يريد قبلة أن يشمَّ رائحة الجنة. وعليهم حراس يحرسونهم بالهراوة وسلاح النار. وكلاب مرئية حقيقية أنيابها حادَّة بيضاء سليمة، بيد أنها قادرة على نهش الأشباح. ... قال أبو ضياء... ولما عدتُ للساحل؛ إلى ذلك الكوخ الذي آواني، استدرجتني خطى رقيقة إلى كوخ آخر؛ وفيه غنى لي شبح نسائي أغنية الحب والألم، فأصختُ لها السمع بصدق وحنان. صدَّقتني حيث أني صدَّقتها فتجلَّتْ لي امرأة شابة في مثل جمال الحور العين ولكن ليس هناك من يقدر على رؤيتها؛ ففي بلاد "أشباحلاند" لا تُرى إلا النساء الغليظات الفظات. وبقينا معا في جو من الشعر الشعبي حتى مطلع الفجر.

كان اسمها "سهام". و كانت امرأة ساحرة فقط.

فها أنا في أمواج البحر الثاني المتلاطمة بالقرب من بحر " السّاسان " حيث رأيتُ ذلك الرجل يقاتل ذلك الحوت. وكأنه يلعب معه لا غير. ثم ها أنا ذا في محيط البحر الأول مارّا بالقرب من البلدان التي خبرتها: جوجبا، قُبْقُبْلانْد، زقزقستان, كورسيكا, بيطاليا، والوـ والو؛ وأخيرا بلدي؛ غرباتيا. الجزيرة التي فيها الناس ناس، ولا أحد يخفى عن الأبصار.

وبعد أسبوع من الراحة قلتُ لأستاذي:"أضن أني رأيتك تقاتل الحوت الأبيض في خضم البحر الثاني" فقال لي:"أنت تتوهم".

ــ هل صحيح أنني واهم؟... أجب أيها القارئ!...

كان ذلك في سنة 840... من سنوات الأشباح...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى