الأربعاء ٢ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
قراءة في مجموعة يحيى السماوي

لماذا تأخرِت دهرا؟

القسم الاول

كريم الثوري
( تصبحُ الكتابة لمن لم يَعُد عندهُ وطنٌ مكاناً للعيشِ) [1]

لـماذا تـأخَّـرت ِ دهـرا ً علـيّـا؟
وكنت ِ على بُـعـدِ (حاءٍ) من (الباءِ)
نـامـا عـلى تـخـت ِ سـطـر ٍ سَـوِيّـا!!
لـمـاذا تـركـتُ الـسـمـاوة َ خـلـفـي
ويَـمَّـمْـتُ نـحـوَ المـقـاديـر ِ خـطـوي
فـكـنتُ الـشـقـيّـا ؟
أمـا كان لـيْ
أنْ أُخـبِّـئـنـي لـيـلـة ً في (الـصـريـفـة ِ) ..
أو لـيـلـتـيـن ِ بـسـرداب ِ قـبـر ٍ
وعـامـا ً بـبَـرِيَّـة ٍ
نصـفَ عِـقـد ٍ بـ (هـور الـجـبـايـش ِ)
عِـقـدا ً مـع الـلـوز ِ والـجـوز ِ في غـابـة ٍ في الشـمـال ِ
وعـامـا ً بـكـهـف ٍ أُلـمْـلِـمُ بـعـضـي إلـيّـا ؟

يطالعنا صدرالغلاف الخارجي ، لمجموعة الشاعر العراقي يحيى السماوي ( لماذا تأخرتِ دهراً ) بلوحة يطغى عليها اللون الرمادي وقد مُزجت بطريقة هي أقرب إلى محاكاة الماضي وكأننا في كهف كهنوت ٍ عارف ٍ يقرأ لنا فنجان الانتظار بعد تأخير دام طويلا. كذلك هو ظهر الغلاف ، ففي الجهة اليمنى صورة صغيرة للشاعر ترقد بسلام في البعيد ، يعتريها الحزن الشفاف ، جهة مقطع مُجتزإ من قصيدة في رثاء الاستثنائي- في العودة والحضوروالرحيل المتوقع - لشهيد العراق الحُر : كامل شياع .. وحينما نباشر بالدخول إلى عالم التشكيل والتلوين تباشرنا الصفحة الاولى بإهدائها الخاص وقد تجمّلتْ بأسماء العائلة الكريمة وبها تحتضن أم الشيماء أكبادها الثلاثة . والملاحظ في الإهداء تكورهُ بين أم الشيماء وقد وصفها السماوي - قلبا لقلبي - وبين علي ولقبه - نسغا ونبضا - وتوسطت الشيماء ونجد وسارة ، بنات الشاعِر. السؤال : ما علاقة كل ذلك بالمجموعة الشعرية من جهة الشاعِر؟

والجواب كما نراه من خلال العنوان – لماذا تاخرتِ دهرا عليّا – يغلب عليه طابع النواح لدرجة ، نتحسس من خلال درجة الندم الكبير، ما يتوجسه ابن الستين وقد جزع وسئم الإنتظار الممل دون بشارة ، وها هو يلتفت إلى أم الشيماء وعلي من دون أن يوقظ بناته الثلاث بكلمة وكأنه يوصي وصيته الأخيرة في حضرة الغياب ، لكنه من جهة آخرى نرى المخصوص بالتأخير كما نراه موزعا بين أنثى الحياة وأنثى الغياب مناصفة ، أي أن السماوي هو طرف في المعادلة ولكنه ليس السماوي الآن بل سماوي الأمس الذي توزع بين الهم الثقاسياسي ، والرحيل المتواصل وهو بين الإختفاء والظهور يتأبّط كشكول الوطن ، كأب ٍ يحتضن إبنه الوحيد تاركا عائلته تنوح خلفه ، حتى خروجه إلى بقعة آمنة في أهوار العراق ومن ثم في معسكر رفحاء فجدّة فأستراليا وهذا ما سوف نتكلم عنه في مناسبة آخرى.

كذلك نلاحظ ، تأثره بكامل شياع وقد توِّجت القصيدة والإهداء بإسمه ، من باب الغيرة المشروعة فما بين العودة المُتقدمة والعودة المُتأخرة مسافة كما نعلم ، من هنا تحوّل كامل شياع إلى كعبة لكل المُتأخرين عن تلبية نداء التشبّث بتراب العودة سريعا في أقرب فرصة، ( ولِم لا ، ونحن نستهل بركاتنا جميعا من إطلالة الذاهبين بِإراداتهم بعد أن خطوا آجالَهم وقرروا العودة لتجسيد حلم الحقيقة مُلبين نداء الارض . )

كامل /
النعشُ هودَجُهُ
لقد عقد القِرانَ على الشهادة ِ
قلبُهُ كان المُقدَمَ
والموخَرُ؟
لا مؤخَرَ..
إنَ ( كاملَ ) لا يُفكّـِرُ بالطلاقِ
ولا بِآجـِلْ
للحُبِّ في فقهِ الفتى العربيِّ ( كامل ْ )
فرضُ الوجوب ِ
وليس فرضُ المُسْتَحَبَّ
أو النوافِلْ

كامل شياع الذي اختار هودجه بطريقة – المُنتجَبين - وإن كانت في حضورنا كنعش حملناه بِأيدينا ، أما باقي تفاصيل زواجه فقد عرفّنا بها الشاعر بطريقة التجلي المعنوي. / فقلبه كان المقدم والمؤخر ، إن كامل لا يفكر بالطلاق ، للحب في فرض الفتى العربي كامل، فرض الوجوب..... / . هذه المقاربات المختلفة في تنوعها تبعا لعائدية الشاعر المحارِب على جبهات متعددة ، وهو ينظر اليوم إلى أمسهِ ، وقد عاد إليه بعد تغيّر النظام الدكتاتوري ، كان يتمنى في مراجعة امتزج فيها العاطفي بالعقلي ، لو أنه تباطأ هنا وتسارع هناك ، تأخر هناك ، وتسارع هنا ، وكل ذلك لا يعدو كونهُ ، امنيات نتقلقل في خضمّها نحن جميعا ، وهي لا تعدو اكثر من بُكائية لا يمكن وصفها داخل دائرة السرد ، نراها تتجلى في الشعري ، لعلها تُدركه ؟!
المجموعة الشعرية /

ضمت المجموعة 16 لوحة شعرية تراوحت بين العمودي والتفعيلي ، بدأها السماوي ببكائية / كامل / وأنهاها بـ / عتّقت أشواقي/ ، وقد تراوحت بقية القصائد في أنينها ولوعتها تنحو ذات الغرض .. تتخطى الحواجز .. تنهل من تبعات الذكريات المؤلمة لتشق طريقها .. تتوجس المحطات محطة محطة كاشفة عن لوعة لم تغادر أفق صاحبها المشدود بها ، والمُعَـلق بِها كأفق سابح شارد ، لم يجد في الحياة المتبقية غير مساحة الإفصاح ، كشهادة تاريخية ، وليمنح روحه المتبقية فسحة إعادة مجريات ثقيلة الهضم ، لا يمكن شطبها أو مغادرتها بسهولة المتوقع ، تلك الحكاية وذلك الجواد .
إلى روح كامل شياع /
شكل مقتل - المُغَيّب – كامل شياع مفترق طرق لجيله المعاصر من جهات متعددة لا يمكن حصرها بنقطة ارتكاز محددة لأسباب بعضها يمكن تلمّسه والبعض الآخر لا يمكن إدراكه فهو بمثابة الزاوية الحرجة ، لا يمكن حصرها إلا بلقاء يجمع الشادي والآثر من خلال بعث الروح ثانية في هيئة جسد توارى في التراب ، لذلك غدا التشبّث بالأنين الوسيلة الممكنة ، لمجاراة الممكن ، من خلال استدعاءات تجلّت لوفاء يخترق المدى لإيصال رسالة مبتورة.
رحيل كامل لجنس جيله ومُعاصريه يبعث في الروح أسئلة لا حصر لها لحضور عنصر التشابه بقوة الإصرار ، ومن هنا ربما تتقمص روحه وذكرياته مع مُثلائه في النضال والمواجهة تحديا للموت في محطات لا يمكن حصرها . وجه التشابه والمُقاربة من حيلولة روح كامل في أجساد اصدقائه ومحبيه ، وتلك وسيلة فيها من اللذة التعذيبية ما يوفي بواجب المواساة في أقرب صورة ممكنة .
لا ندري بل لا يدري الراوي على طريقته الشعرية، وهو يرى نفسه – في كامل شياع - مُسجّىً بدمه بإطلاقات أشباح الظلام الذي اتخذ اشكالا ً والوانا ً لا يمكن حصرها وربما مات كامل بإطلاقة ثورية ، كانت زمنا ً تتصدى للدكتاتورية في معسكرات القتال في شمال العراق وبعد غياب العدو الإفتراضي في جوِ يبدو للوهلة الاولى مهيأ لنمو جنين الديمقراطية وحرية الكلمة ، ليُطرح سؤاله المنطلق بعفوية الخبرة من هو العدو حقا :
قد كان يعلمُ
أنَ ( هولاكو ) الجديدَ
أتى
ليَحرثَ حقلَ دجلةَ بالقنابلْ
جوابية هذا الإصرار العارف كغريزة طفل من بين الأمهات يستدل على حليب الرضاعة من ثدي أُمه ، تعيدنا إلى المربع الأول ، ليزيد الشاعر في البحث عن أسباب الهزيمة ليس بعيدا عن – هولاكو – بِأنساخه وتسلسلاته المحلية والأجنبية.
نهاوند :
الماءُ أودعها سَريرتَه
وأوْدعَت الطفولةُ جيدها
عِقدَ البراءةِ..
والأمومةُ؟
أودَعَتها رِقَةَ القلبِ الجليلْ
والروضُ ؟
أودَعَ ثغرَها
وَهَجَ القرنفلِ في الأصيلْ
والليلُ ؟
أودَع شامَتّيها
جفنَ
مُقلتِهِ الكحيلْ
وأنا ؟
أنا أودعتُ كوثر نَهرها
جُثمانَ بُستاني القتيلْ
في الطريق إلى كامل شياع //

ماوجه الشبه بين كامل شياع والنعمان بن مقرن المزني، الذي مات شهيداً في معركة نهاوند الشهيرة سنة 29 هجرية ، بعد أن تحقق الفتح الإسلامي على يديه في مدينة الحرير والسجاد الأعجمي ؟
بل ما العلاقة بين السماوي ورموز قصيدته التي جاءت تحمل عنوان نهاوند ؟

بدأت الانطلاقة قوية تستند إلى أصل الحياة ، يوم خلق الله الماء وجعل منه كُلَ شيء حَيْ - الماءُ أودعها سَريرتَه - وعلى هذا الأساس بُنيت وتدرجت مواصفات جمال نهاوند في مسألة الوديعة تسير بشكل تناغمي في حركة وفاقية بين العطاء والمقابل الأجمل حتى ننتهي عند وديعة الشاعر وهنا مفصل أو ضربة النص . فقد فاجأنا السماوي ـ وتلك تُحسب له لا عليه ـ بِإيداعٍ ثقيل التركة : جُثمانَ بُستاني القتيل .. فكيف يكون البرتقال رجالَ أمنٍ يقتلون البرتقال ؟ . تفسيرنا لهذه النقلة الشعرية ، تصب في ذلك الطريق الوعر، الذي لا يوجد غيره ، لكنه مُكلف وقاس ٍ ، فمن أجل الحفاظ على كوثر النهر – نهاوند - كان جثمانه سيلا من الأشجار الخضراء المشهود لها بالعطاء ، وعودة على الماء كبداية للقصيدة ، أنهى مقطعه الاول بالنهر ، وبتلك الإشارة كان الماء هو الحاضن لبداية ونهاية تشكيلة ٍ بدت منسجمة بتلقائية التجانس الطبيعي وانتهت بنقلة النذور الإستحقاقية من أجل الحفاظ على نقاء التجانس ، ذلك هو طريق الشهادة – جثمان بستاني القتيل .
تقولُ التي صَيّرتْـني أنـيـسـا ً
وكـنتُ الـعَـنـيـدَ ..
الـغَـضـوبَ ..
الـعَـصِـيّـا :

أما مِـنْ إيـاب ٍ
إلى حيث ُ كان النخـيـل ُ
مـآذِنَـك َ الـبـاسِـقـات ..
وكان الـحَـمـامُ " بِـلالا ً " ..
وكان الـهَـديـل ُ الأذان َ الـشـجـيّـا ؟

وأنتَ عـلـى السّـطـح ِ : طـفـل ٌ
يُـغـازِلُ عـنـد َ المـسـاء ِ الـنجـوم َ
ويـغـفـو يُـغـطِّـيـه ِ ضوءُ الـثُـرَيّـا ؟

لـقـد عـدتُ لـو كان سَـعْـفُ النخيل ِ
كـمـا الأمس ِ ..
لـو أنَّ لـيْ سـطـحَ دار ٍ ..
وأنَّ الـحَـمـامَ يُـجـيـدُ الـهـديـل َ ..
ولـكـنَّـه ُ الـقـحْـط ُ :
لا الخـبْـزُ في الـصَّـحْـن ..
لا الـتَّـمْـرُ في الـعِـذقِ ..
والمـاءُ في الـنهـر ِ لمَـا يَـعُـدْ
يـمـلأ الكـأسَ رِيّـا
الغائب الشعري محطات في الذاكرة /
لاتسعنا الإحاطة بمعالم التراجيدية التي انتزعت ساكِب الألم الكبير ـ يحيى السماوي ـ من دون الرجوع لتاريخه الشخصي فيما يخص تلك المحطات لكثافة الشَرر المتقافز ، وهو يستدرجنا من خلال نفحات روحه وهي تعيد تكرار ذات المحطات وقد ترانا نشترك معها بخيوط المراجعة المُعاشة ، باعتبارنا جميعا شهود عيان على مرحلة دامية مرت على الشعب العراقي ، فنحن ضحاياها المقربون .
اتسمت قصيدته الطويلة ذات النفس الواحد - لماذا تأخرتِ دهراً عليّا – بغليان الذاكرة وقد أطلعنا مشكوراً ،على بعض التفاصيل الموحية ، وقد شكلت نقطة ارتكاز مهمة حين عرفنا وقت كتابتها،وذلك حين عودته للمرة الاولى لأرض العراق بعد نفيِ قسري دام أكثر من عقدين من الزمن .
ابتدأت القصيدة على لسان ذات الشاعر في شطره الآخر، رفيقة دربه الذي ما انفك يمده ُبحزام الصبر والاستشارة والمُحاكاة :
تقولُ التي صَيّرتْـني أنـيـسـا ً
وكـنتُ الـعَـنـيـدَ ..
الـغَـضـوبَ ..
الـعَـصِـيّـا :
ثم يتدرج هذا التواصل في المحاكاة ، مطلقا لها من جهة الاستدراج في محاولة ذكية منها أو منه ، وقد وهبها لسان حاله من حيث يعرفها وتعرفه ، وتلك خاصية نتميز بها جميعا مع ربات بيوتنا العراقيات تحديدا ً، لميزة إخراج ما لا يمكن إخراجه ، إلا من قبل مُتمرس عارف .
الاستعارات والتشبيهات
المرأة في الأساطير القديمة وفي بعض المذاهب والأديان الدنيوية معبودة باستحاق كونها المرموز إلى الحاضن وباعث الحياة في الأجنة ، من جهة الأرحام ، وفي مقاربات تُلقب ببنت الطبيعة البِكر ، وتناصاً مع النص وعلى لسانها – تقول : صيرتني ... – فهي تمسك زمام إرجاع الفروع إلى أصولها وهكذا نرى إشارتها– ألا من إياب – محاولات ليست إلآ لثني شطرها المنزوعة من ضلعه – الشاعر – لخلق نفس العودة بالحث . ولو راجعنا :
النخيل – مآذنك الباسقات / الحمام - بِلالاً / الهديل – الآذان الشجيا / أنت على السطح / طفل ٌ ......الخ
لسوف نصل بعد هذا المقطع أعلاه إلى نجاح عنصر الطبيعة – الزوجة - في استدراج الشاعر وخاصة في أوقات محددة تمهد لذلك ، لكن ذلك لم يأت بطريقة عادية بل جاء بصيغة العتاب المُر ، وكأنه يلوم نفسه اللوامة فيها .
للموضوع صلة

صالة العرض


[1ثيودور أدورونو


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى