الأحد ٦ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

الماغوط – لستَ وحيداً، والحِبرُ لم يجفّ

في الحقيقة، علقت على مقال كُتب في "سيريا بوست" عن الشاعر والأديب الكبير محمد الماغوط، لكني خجلت من نفسي، وفكرت مليّا: كيف لي أن أكتب تعليقا بسيطا، عدة كلمات عن علم كمحمد الماغوط... فقررت أن أكتب ماأكتبه الآن، لكن بذات الوقت شعرت بشيء من الرهبة والخوف، كيف بإمكاني الإحاطة بذلك البحر بمقال، يمر من خلال قنطرة محرر، ويحذف منه مايحذف.

 قال الماغوط ذات مرة بكلمات مختصرة كاد يلخص بها اسلوب حياته وونتاجه الأدبي الجمّ: "بدأت وحيدا، وانتهيت وحيدا، كتبت كإنسان جريح وليس كصاحب تيار او مدرسة".‏ لكن كل من عرف الماغوط وقرأ له يعرف بأنه لم ينته وحيدا،حيث مازالت كلماته تهطل كوابل من الرصاص على كل من حاول قهر الإنسان وامتهان انسانيته،وتكون كالثلج والبَرَد على قلوب كل اولئك المسحوقين والمغبونين على امتداد رقعة الوطن. 

وقال أيضا:" أليس من العار بعد كل هذا التطور العلمي والحضاري الذي حققته البشرية وبعد مئات الجامعات وآلاف المدارس التربوية والفنية والأدبية والمسرحية والفندقية التي تغطي أرض الوطن العربي أن تظل لغة الحوار الوحيدة بين السلطة والمواطن هي الرفس واللبط وشد الشعر؟". رحل الماغوط وكان هذا هاجسه الذي يسكنه أبدا.

كما يقـُال:المعرف لايعُرّف، لكن من باب الاستزادة،محمد الماغوط شاعر وأديب سوري، ولد في سلمية التي تتبع لمحافظة حماة عام 1934. تلقى تعليمه في سلمية وحماة، وعمل في حقل الصحافة. توفي في دمشق في 3 أبريل 2006.عشق دمشق لكن بقي مسكونا بحبه لـ"سلمية "،تلك المدينة التي تقع على تخوم البادية السورية،ومنها انتقل الى دمشق ؛مدينة العشق والياسمين،وأصبح "حضريا"، لكن "سلمية " بقيت تختبيء تحت فروته البدوية،فجاز القول عنه " البدوي الحضري".

ربما تعرّف البعض،أو السواد الأعظم من الناس على الماغوط كاتبا مسرحيا، من خلال ماقـُدم من مسرحياته من قبل الفنان دريد لحام، لكن الماغوط بحر يزخر بشتى أنواع النفائس، وليس ذاك إلا النزر اليسير مما قدم، فهو شاعر كبير،جاد، ساخر،غاضب، ثائر، يتجاوز المألوف، ويجعلك تقرأ ماكتب عدة مرات لتفهم مايرمي إليه،وفي كل قراءة تكتشفه اكتشافا جديدا، وهذا سر تميزه،لأنه دائم الإدهاش والإبتكار، ليقدم للقاريء صورا من عالم تفرد هو به. 

 غادر الماغوط تاركا إرثا عظيما في مجال الشعر، والمسرح، والنثر، في لغته نقمة على الفساد والبؤس والاضطهاد والقهر الانساني بكل معانيه وأشكاله.. لغته ألسنة من اللهب تلسع قارئها، ترجّه بعنف لتوقظ فيه أحاسيس شتـّى، فيقف قارئ الماغوط أمام نفسه، ناقداً، حزينا، باكياً، ناقما – ربما-،و ضاحكاً، مسكوناً بالقلق والأسئلة.‏

 ينظر إلى نفسه في المرآة فيحار:أهو الكاتب، أم المروي عنه، أهو البطل ، أهو القاريء المتابع لكلمات ذلك العملاق، كطفل شقي ، ييتبع أسراب القطا في سلمية.

سأقف فقط عند إحدى شذرات الماغوط ؛ روايته "الأرجوحة"، التي اقتنيتها حال صدورها، على الرغم من ضيق ذات اليد آن ذاك ، لكن هوسي بذلك الصرح ، يجعلني أفعل أي شيء، كنت ألتهم تلك الرواية على الرغم كوني في أتون الإمتحانات الجامعية للسنة الثانية،في جامعة حلب.هزتني روايته بعنف،وجعلتني أشعر بالغثيان والخوف في بعض الأحيان، لكن جعلتني في أحايين أخرى أقف مسندا ظهري إلى جدار مستمتعا بشمس وطني، وأستنشق هواءه بعمق. "الأرجوحة" رواية طريقها غير معبدّة، لابد لك أن تفتح عينيك جيدا وتقطع أنفاسك وأنت تمسك المقود، حتى ولو كنت سائقا محترفا، فالرواية تزخر بالعديد من المواقف والمفاجآت،وربما تكتشف أحيانا بأنك سلكت (wrong way )،أو الطريق الخاطيء، وعليك العودة إذا:( رغم أنك ربما تكون مسجوناً بين حيطان أربع مع الكثير من المجرمين وسفاكي الدماء إلا أن رغبتك في تأليف الروايات والقصص لكي: تجمع الآخرين حولك أو لتنفي تهماً من حولك أو حقيقةً تكره الإعتراف بها لا تنضب ولا تنتهي وكذلك هو العجوز الذي قال بأنه سُجن لأنه دافع عن شرف عائلته وزوجته وهو لا يملك زوجاً أبداً ). كما رأينا يتفاجىء القاريء بأشياء شتى أثناء قراءة الرواية، يقول على لسان بطله في الرواية: "العين بامكانها أن تجابه لا مخرزاً واحداً فحسب بل عشرين مخرز إذا كانت العين لا يهمها على الإطلاق أن تبصر الاشياء المحيطة بها بعد هذه النتيحة التي لا تقبل الجدل صمم الفهد على المجابهة بعينين لا تعرفان الرحمة وقرر عدم الصراخ".

يعتقل (فهد) ويسجن ويعذب، يتذكر حبه لـ(غيمة) والتي أراد لها الماغوط أن تكون ديمة تهطل مطرا. يصور حزن المسجنونين على شعورهم عند قصها، ويسأل لماذا يحزن الانسان عند قص شعره في تلك الظروف مع أنه يعرف أن الشعرسينبت مجددا، وأن الانسان مآله إلى الأرض كله.في النهاية يطلق سراح (فهد)، ليجد أمامه جملة موظف السجن:" لا تكن متفوقاً في عالم منحط لأنك ستكون بقعة عسل في عالم من ذباب " تجعله هذه العبارة يهيم على وجهه من جديد.. ليجد عالما من الذباب، لكنه ذباب مختلف.

وصف الأديب والروائي الكبير حنا مينه الراحل الكبير محمد الماغوط بأنه:" كان شاعرا كبيرا ومسرحيا كبيرا وعبقريا له في جنون العبقرية غزل مجنون وانه في المبضع الاصيل الجارح كان يفقأ الدمامل للذين لايعملون لمصلحة الوطن والشعب اللذين نفديهما بنور العيون".‏‏

بقي أن نقول: إن كان للكتابة سحر، فالماغوط هو الكاتب بلامنازع، وإن كان الشعر جمال واحاسيس فالماغوط هو الشاعر، وإن كان للمسرح جاذبية ورونق فالماغوط هو الكاتب المسرحي بلا صنو...

كلما سافرت بسيارتي برا وأنا أجتاز سلمية وأرى قبابها القديمة وبيوتها العريقة، أتخيل كيف كانت طفولة ذلك العبقري!!!
 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى