السبت ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٥
بقلم سها جلال جودت

حبيبة السماء

إلى الطفلة الرضيعة " إيمان حجو " التي لم
يتركوها تعرف ما معنى طعم الحليب !.

لم يوافق والدي على الهجرة --- شدّ الرحال بنا نحو جهة يعرفها ولا يعرفونها .
طالبنا أن نكون متجلدين غير عابئين بمظاليم " شارون " ، ومن سبقه من أمثاله ، من ذئاب الارهاب ونحن نُرغم نأمة الصوت أن تستقر في الحناجر بلا تمردٍ أو جنوح ٍ .
كتمت ارتجافاتي وعضضت على شفتي وأنا أغرس أصابعي في صيحة من أنين ٍ مكبوت ٍ حتى خرجت من رحم السكون إلى رحم الوجع والقهر.

ارتبط عمر جدتك بعام النكبة ، وتحدد يوم ميلادي بعام النكسة فكان يوم ميلادك يوم ميلاد خلود محمد الدرة .

نظرت إليك ولوعة القلب الحسير تشكو وجدها --- إلى متى وأرق العيون لا يعرف الإغماضة من انهمارات صوت الأزيز ووقع الخطوات الفولاذية .
حين توقف صراخك لفتك جدتك بقماط ٍ قصته من طرف ثوبها الفضفاض الطويل ، وأودعتك حضني ، والبرد القارس ينقل زمجرة الريح نحو الشرق والغرب .
رنوت إليك بعيني البليلتين المخضلتين لكأني أعرف أني سأودع وضاءة وجهك المعفر بعبق ٍ من رحيق المسافرين إلى قوافل الخالدين في سدرة المنتهى .

أيتها الرضيعة الحلوة لمَ لا تفتحين فمك وترضعين ؟.
  هل طالبت الملائكة أن تكتب في دفترها أنك لن ترضعي الحليب وفي الأرض عدوٌ بغيضٌ ؟!.
ولماذا كتب علينا أن نبلل أصابعنا بكل هذا الصبر ونحن نصنع من المقاليع زوادة من سلاح ٍ لايعرف الانطفاء ؟!.

تعلمين أو ربما لاتعلمين أننا نودع كلّ يوم ٍ شهيدا ً --- شهيدين --- ثلاثة --- سبعة --- عشرة --- اثني عشر --- لتتوالى مواكب الفرسان ،ونحن هاهنا نصنع من الصلصال حجرا ً أخضر يورق عند مصلى كل أم ٍ ولودٍ ، فقاتلنا وحشٌ أمرد جاء من شعاب الشمال يسعى فينا .

قال جدك لأجل الإيمان اسمها إيمان . وحبلك السري لم يتمرد بين أصابع جدتك وهي تفصله عن مشيمة الخلاص .
رأته في الحلم يتحول إلى أرجوحةٍ تهزك على نغم التسابيح .

صمتك أدهشني ، ورفضك الحليب أجفل خواطري السابحة في ظلال من الخوف المستجير ، لكن أمي - أي جدتك - طمأنت وجيب قلبي المرتعب قائلة : - عليك بالماء والسكر .

وقرأت : إنما نرسل الأحياء إلى الدنيا الباقية من الدنيا الفانية .

لأجلك صرخت : آه ٍ من العودة والرجوع وصوت ذئابٍ مبددة من أشواك الليل تعوي --- آه ٍ من السكن في العراء --- وآه ٍمن الرحيل والضياع !.

بعد جهدٍ عصي ٍ تدبر جدك أمر إقامتنا في أحد البساتين البعيدة داخل غرفةٍ تؤوينا ، وكنا سبعة عشر فرداً ، وكان علينا ألا نغفل عن جمع العيدان السميكة الصلبة كي نصنع المقاليع حتى لقب جدك بشيخ المقاليع.

في المساء لاتنفك أحاديث جدتك عن راحاب الزانية ودير ياسين تعرف للصمت مكانا ً وللخوف زمانا ً، يشاركها جدك بفصاحة لاتقل عن فصاحتها وحفها وسردها ، وحين يتوقف عند عام /1920 يقشعر بدني وأشعر بدوارٍ مخيف ٍ.

فروسيا حين يقترب عيد فصح اليهود تعمل الدولة على إجلاء الأطفال المسيحين من مناطق الاحتفال خشية على حياتهم من فتك اليهود.
وما حصل في فرنسا عام / 1921 وهذا ما ذكرته جريدة " نانت " يؤكد على دونية أفعالهم ، لأن الصحيفة في ذلك التاريخ تحدثت عن جثة طفل وجد يوما ً تحت أكواز شجرة ٍ على ضفاف نهر " اللوار " وكان الدم مسحوبا ً من شرايينه .

أحاديث لايصدقها العقل رغم مصداقيتها ، جعلتني أقف على شباك وجع الأحزان ألقي بالتساؤلات المحرضة علها تحرك الضمير.
أمن جلدٍ أصفر تكور رحمٌ مسكونا ً برقص جني أرعن ؟!.

ما قصة الدهاليز الضيقة التي تترنح بين جدرانها المسورة كؤوس من دم ٍ أحمر؟.

أحقا ً ماتذكره كتب التاريخ عن مقتل الأب " توما الكبوشي " ؟.

أيعجن خبز " الأزيم " بدم مسيحي أعزل؟.

وأم عيسى بنت عمران يوم ولدته خاطبها الوحي قائلا ً : * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا ً جنيا ً *.

هل أرحام النسوة عندكن متخشبة لا تعرف مامعنى الأمومة ولا حتى آلام المخاض ؟.
وأنتِ ياامرأة " شارون " ألا تعرفين ما معنى أن تكون المرأة أما ً ؟.
ألا تعرفون سوى ، اشبعوا من سفك الدماء --- لاشيء يزودنا بالقوة قوة الشر--- ويغسل أرحامنا من وجع المخاض سوى كأس خمرٍ ممزوج ٍ بدم إنسان ٍ أعزل !! ، فالدم هو القوة وهو الحياة .

وأنا أحاورك قرأت على جبينك الامتعاض والرفض فسألت أمي :
  لماذا ترفض إيمان أن ترضع الحليب ؟.

صاحت جدتك : - قم صلاح الدين كبر باسم الله والشهيد--- أنّا من الفتح جئنا ولأجل الفتح نموت صائمين .
بإصرارٍ قررتُ عرضك على طبيب ٍ--- عارضوني --- ولأني مصرة ---- رافقوني .

وبدأت أبحث عن إنسان يدرك فداحة ماتعانين وأنا أدمدم :

- ياقدس يا مدينة الصلاة أصلي --- .

وما إن أصبحت وسط الطريق --- طاق --- بوم --- ووقعت الطلقات في أعمدة صدري لأتهاوى مثل جسرٍ عتيق ٍ وعنيدٍ وأنتِ تبسمين في وجهي بابتسامة من وجه شهيد .

صحت : - إيمان عودي .

شدتني جدتك من ذراعي ووبخت ضعفي ودموعي ، وانكب والدك على سرير الأرض يعانق وجهك المزركش بقطرات ٍ من دم ٍ دافىءٍ وقان ٍ، وقطرات دموعه تتحول --- تتحورإلى حجرٍ --- ليصرخ جدك :

  الله أكبر --- حي على الصلاة يا حبيبة السماء .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى