الثلاثاء ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

الرّاعي والمِذْياع

كان يعْبُرُ بلدتَنا نهرٌ عظيم. و"محمدٌ" الطفلُ يرعى الغنم بجانبه. ولأنَّ بلدتَنا غنيّةٌ بالمناظر الطبيعية الجميلة؛ يأتيها السائحون.

الدّفقُ المائي اللُّجيْنُ، الجبالُ المكلّلةُ بالثلوج الربّانية، المُروجُ الخضراءُ المَمْهورةُ بشقائق النُّعْمان، السُّحُبُ التشْكيليةُ، الكاتِبةُ، الراويةُ قِصَصَ الأطفالِ على صفحة السماء، الفِجاجُ الضاربة في الأسرار... هي ذي طبيعةُ بلدتِنا الآسِرة.

و"محمّدٌ" (الخمّاسُ) سعيدٌ بمهنتِه التي ورثَها عن أبيه. والقطيعُ الذي بين يديْه، سعيدٌ هو الآخر. ف"مُحمّدٌ" يرْعاهُ بحبٍّ، ولا يضربُه أبدا بعصاه؛ وحتّى الكلبُ "حنْدَريسُ" الذي يساعِدُه، لا يعَضُّ الخِرفانَ "الضالّة" أبداً...

إلى أنْ جاءَ سائحٌ أبيضَ وأهدى "مُحمَّداً" مِذْياعاً صغيراً في حجْم اليدِ. وقال له:

ـ هذا الزرُّ للتّشغيل، وهذا لالتِقاط إذاعة العاصمة؛ وما عليك إنْ نفدت البطّارية سوى استبدالُها.

هل قايَضَ "محمّدٌ" السائحَ "جانْ بولْ" بخروف أو شاة؟ لستُ أدري... وحتّى إنْ فعل، فذلكَ من حقّه لأنّه "خمّاسٌ" وله الحقُّ في خُمُسِ الرّعية.

ولقد سعِدَ بالهدية؛ يرعى الغنمَ، ويستمعُ إلى الأخبار والأغاني، ومباريات كرة القدم وغيرها... كان لا يفهمُ الكثيرَ من أسْماءِ الأعيان؛ ولكنّه بدأ يفهم. وكان ما بدأ يفهمُه يُسعِدُه؛ فالآلةُ الصغيرةُ التي بين يديْه، والتي تجلب له الأخبار من العاصمة؛ استطاعتْ أنْ تُدخِله إلى عوالم الخيال؛ وبالأخصّ أسماء "شخصيات" لم يكن يعرف لها وُجود (وهي موجودةٌ من قديم الزمان)...

وعلى الرغم من سعادتِه؛ شعر القطيعُ بأنَّ الرّاعي، بدأَ يكسَلُ عن مُهِمّتِه، وقد أكلتِ الذئابُ عددا مُحترماً من النعاج. ولاحظ القطيعُ أن "مُحمّداً" لم يعُدْ يتأمّلُ النهر والجبال والمروج... صار لا يهتمُّ إلا بالأصواتِ الخُرافية المنبعثة من المذياع؛ حتّى أنّ بعض النِّعاج، أكلَها الكلبُ "حنْدَريسُ" الذي كان يحْميها...

ودامَ حالُه أربعين سنة... وجاءَ ابنُ ذلك السائح في مُهمّةٍ "حضارية"، ووجدَ النهرَ قد قتلتْه السدودُ، والجِبالَ قدْ طرحتْ تيجانَها البيضاءَ ونامتْ وأدمنت الخمور الرديئة، والسُّحُبَ قد كفّتْ عن حكيِ الأقاصيص، والمُروجَ قد طالَها نباتُ "الجُرْنيج" الشائك، والفِجاجَ قد أمستْ بلا أسْرار...

فقال السائحُ الفتيُّ ل"محمَّدٍ" الكهل:

ـ أ مازلتَ تحتفظ بالمذياع الذي أهْداك أبي؟...

ثمَّ أمْسكَه وقال:

ـ هل سبق لك أن استخدمتَ هذا الزرّ؟

فنظر إلى زرٍّ مخفيٍّ في ثقب.

ـ لا! قال برأسِه.

وعندما استخدمه له، سمع مئات الإذاعات بمئات الأصوات؛ وتركه...

ومنذ ذلك الحين؛ زادَ وعيُه بالأخبار، وفقد ثقتَه بالعاصمة، وأهمل قطيعَه، وفسَخ عقدة زواج كان سيلدُ له راعيَ غنم، "خمّاساً" في مثل جهْلِه أو أكثر...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى