السبت ٣١ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم أوس داوود يعقوب

«تموز الفلسطيني».. كم أنت قاسٍ

بين ذاكرة الدم الفلسطيني المغدور وشهري نيسان وتموز حكاية، ليست ككل الحكايات، حكاية مبتدؤها الدم، ومنتهاها الدم، دمٌ طاهر مغدور سفح فوق أرض فلسطين وفي بلدان الشتات والمنافي المتناثرة، وكأن الله أراد أن يوزع دم الفلسطينيين في أصقاع الأرض ليذكر البشرية أن دمنا المسفوح، إنما هو امتداد لدماء الأنبياء والأطفال الذين قتلوا على أيدي اليهود منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، ففي "نيسان الفلسطيني".. ودعنا على مرِّ سنوات نضالنا ضد العدو الصهيوني القادة الكبار عبد القادر الحسيني والكمالين ناصر وعدوان وأبو يوسف النجار وأبو جهاد الوزير، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وغيرهم الكثير.

ناهيك عن سلسلة المجازر التي ارتكبها السفاحون الصهاينة بحق الفلسطينيين بدءاً بمجازر "دير ياسين" و"القسطل"، مروراً باجتياح بلدوزر الإرهاب الصهيوني آرئيل شارون في نيسان (2002م) للضفة الغربية المحتلة بعملية اسماها "السور الواقي"، مرتكباً فيها المزيد من المجازر بحق الإنسانية، وصولاً إلى معركة مخيم جنين البطولية.

"تموز الفلسطيني"

وما أن يرحل عنا "نيسان الفلسطيني" حتى يأتي ـ مثل كل عام ـ شهر تموز حاملاً في جعبته ذكريات وأحداث لم ولن ينساها يوماً شعبنا الفلسطيني، جاء تموز والفلسطينيون يذكرونه يوماً بيوم... فالكثير من أيام هذا الشهر مؤلمة وقاسية..
ففيه أُخذَّ منَّا أعظم وأغلى رجالات فلسطين، ففي يوم الرابع منه عام 1974م غادرنا مفتي القدس الحاج محمد أمين الحسيني، وفي الخامس منه عام 1994م رحل دون استئذان النصراوي المناضل توفيق زيّاد، وفي الثامن منه عام 1972 رحل أجمل كتابنا وأكثرهم وداعة، رحل غسان كنفاني آخذاً معه إلى جنة الخلد إن شاء الله ابنة شقيقته الطفلة "لميس"، وفي الثالث عشر منه عام 1948م ترجل فارس الكلمة الحرة الشهيد عبد الرحيم محمود، وفي الثاني والعشرين منه عام 1987م وجهت رصاصات غدر قاتلة نحو رأس ناجي العلي في لندن، لكنه بقيَّ في غيبوبة استمرت نحو الشهر، وفي السادس والعشرين منه عام 1979م رحل المناضل الكبير زهير محسن، وفي السادس والعشرين أيضاً عام 1984م ودعنا المجاهد والمؤرخ محمد عزة دروزة، وفي الواحد والثلاثين منه يصر تموز على أن لا يفارقنا دون أن يثقل ذاكرة الدم الفلسطيني باستشهاد الجمالين منصور وسليم عام 2001م.

هو ذاك تموز يأخذ منا الرجال الذين نحبهم رجلاً اثر رجل، دون أن يدرك أن الفلسطينيين اعتادوا على تحويل مصائبهم إلى أيام عزة، يُكَّرِمُ فيها الوطن أحبته.. فرسانه الذين قضوا نحبهم في سبيل مجد فلسطين، وأياً كانت قسوة تموز علينا، فإننا سنبقى مع كل تموز يأتي مصرين على الاحتفاء بشهداء فلسطين وقادتها.

احتفاء بذاكرة الدم الفلسطيني

في الرابع من تموز 1974 توفي في بيروت الحاج محمد أمين الحسيني(1895-1974م)، وقد كان الحسيني أشهر من تولى منصب الإفتاء في فلسطين وكان في الوقت نفسه رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ورئيس هيئة العلماء، وكان القوة الدافعة للحركة الوطنية، ومركز الثقل في المقاومة الفلسطينية. وقد عقبت الصحف البريطانية على وفاة الحاج الحسيني بهذه الكلمات (مات عدو الصهيونية والإمبراطورية البريطانية).

وفي الخامس من تموز 1994م رحل توفيق زياد، ابن الناصرة المحتلة الذي قال ذات يوم: " كأنّنا عشرون مستحيل..في اللّد، والرملة، والجليل..هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار..وفي حلوقكم،كقطعة الزجاج، كالصَبّار،وفي عيونكم، زوبعةً من نار..هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار.." .

وفي الثامن من تموز 1972م استشهد غسان كنفاني (1936-1972)، بعد انفجار لغم في سيارته حيث قتل ومعه ابنة شقيقته " لميس نجم ". ولقد تميز (غسان) بتفكيره الثوري ونضاله في سبيل وطنه المغصوب. وهو مفكر مناضل وأديب وفنان على درجة عالية من الوعي بوسائله الإبداعية والفنية.

وفي الثالث عشر من تموز 1948م استشهد عبد الرحيم محمود (1913ـ1948م) شاعر الثورة وشهيد فلسطين في معركة الشجرة ، الذي كتب قصائده بدمه وجاد بروحه دفاعاً عن أنبل قضية وظل شعلة متوقدة ومتألقة في الشعر الفلسطيني المقاوم ، وقد عاش شاعرنا مقاتلاً بالكلمة والرصاصة، ومضى في درب النضال حتى استشهد في سبيل وطنه، ومن روائع شعره قصيدته الشهيرة "الشهيد" يقول فيها:

"سأحمل روحي على راحتي
وألقي بهافي مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى"

وفي 22 تموز 1987م تعرض ناجي العلي لمحاولة اغتيال في لندن، وبعد غيبوبة استمرت أكثر من شهر أسلم الروح إلى خالقها في 29 آب 1987م. وقد اختار ناجي موقعه بين الفدائيين والفقراء في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، فعبر عن كل مواقع الألم والصمود، وتميزت مواضيع رسومه بانتقاد الأخطاء المتلاحقة في البيت الفلسطيني والعربي على السواء، وكان يردد دائماً " فلسطين عندي الأرض التي حدودها من المحيط إلى الخليج؛ لا ضفة غربية، ولا غزة ولا الجليل ولا حيفا".

وفي السادس والعشرين من تموز 1979م اغتيل في "كان" جنوبي فرنسا، الشهيد المناضل زهير محسن (1936-1979م)، عضو القيادة القومية لحزب البعث، وأمين سر منظمة طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس الدائرة العسكرية فيها، وقد ترك محسن وراءه عدداً من المقالات والدراسات السياسية، ومن مصنفاته المطبوعة: "الثورة الفلسطينية بين الفكر والممارسة".

وفي السادس والعشرين من تموز أيضاً عام 1984م توفي في دمشق المجاهد والوطني البارز محمد عزة دروزة (1887 -1984م)، وهو مؤرخ مرموق، بدأ نشاطه في الكتابة والتأليف في سن مبكرة عقب إعلان الدستور العثماني 1908م، وتعتبر مذكرات دروزة ـ خمسة وتسعون عاماً في الحياة (1888 ـ 1982م) ـ من أغنى الوثائق الفلسطينية العربية بمادتها السياسية والتاريخية.

وفي الواحد والثلاثين من تموز 2001م استهدفت طائرة صهيونية (أميركية الصنع) مكتباً كان يجلس فيه الشيخان المجاهدان جمال منصور وجمال سليم فاستشهدا على الفور ومعهما صحفيان وطفلان.

ويأبى تموز أن لا يترك في سجل ذاكرتنا هذا العام ألماً، فكان الموعد هذه المرة يوم الثاني منه مع واحدٍ من رجالات فلسطين الذين ساهموا في بدايات مرحلة الكفاح المسلح الفلسطيني محمد داوود عودة (أبو داوود) الذي غادرنا عن عمر يناهز الـ 73 عاماً، وكأن بتموز يقول لنا: سيبقى بيني وبينكم في كل عام ذكرى مؤلمة، آه يا "تموز الفلسطيني" كم أنت قاسٍ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى