السبت ٣١ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم محمد أسعد قانصو

أحلامهم الفقيرة .. 

لم يتنظرني القلم كعادته منسرحاً على الأوراق فوق طاولتي المستطيلة، وما طاب له البوح إلا بينهم هذه المرة، هم المنسيون في عالم متخمٍ بالمعرفة، وهم المعارف حقاً في زمن المنكرات!.. 

سابقني إلى بيوتهم الفقيرة، ودخلنا معاً نتصفح الوجوه والقلوب، نسترق السمع إلى همس أحلامهم ونطبق الجفون على صور من ذاكرةٍ بعيدة.. 

منهكاً يبدو وعلى محياه ترتسم تعرّجات السخط، يبتدئ الكلام موجعاً، متمرداً، يشرح لك معاناته لكنه رغم السخط لا يطلب المستحيل، جلّ مطلبه أن يعيش بكرامة، ويكسب من عرق الجبين قوتاً يعود به عند المساء إلى العيون الجائعة، هو’ أبو إبراهيم’ ومحله في الإعراب الطبقيّ نكرة غير مقصودة بالنداء، وعلى إيقاعه الثوري المستمر تقفز من عيني التفاتة نحو الشارع لتقف على صورة زعيم وقد خطّت فوقها وعود وورود!.. ولا أخفي إبتسامة هازئة طفرت من شفتيّ المرتجفتين الناقمتين !.. تشبه إلى حدٍ خطين متاوزيين.. 
 
وفي شارع يضيق بأهله تحاصره أبنية متراكمة رُكّبت فوق بعضها يكتمل المشهد بؤسا، وتسارع نحونا طفلة في السابعة تمطرني بوابلٍ من الدعوات المرصوصة، تنتهي الكلمات وتتكلم عينان جميلتان زرعتا في وجه هو أشبه بحقلٍ متعطشٍ لماء الحياة.. 

وتعود الدعوات ثانية ممزوجة بابتسامة الرضا بعد انقباض الكفّ الصغير على معدن زهيد، لم يعبر اللقاء سريعاً دون أن يترك بصمات إستفهام أشبعها القلم حدة ووضوحا! 

هدأة التأمل يقطعها ’أنيس’ برشقات من اللعنة تخطأ أهدافها حتماً فتصيب أذني المرهفتين لسماع أنّاتهم أنيس هذا يا أحبتي لا يريد أكثر من كهرباء مقننة، خسارته مستمرة وزبائنه لا يتفهّمون.. وموظفو الجباية لا يتفهّمون أيضا.. 

وندخل بيت ’آمال’علنا ننهي القطيعة بينها وبين ’ فؤاد ’، فتبادرنا بدموع عينيها باحتواء ذكي ويتسمّر فؤاد في مقعده لائذا بالصمت، لتبدأ آمال مرافعتها مطالبة زوجها بمعاملة لطيفة واعتراف بمشاعرها، مستشهدة بالعاشق التركي الذي لم يبخل على حبيبته بإحدى كليتيه، وهي حتماً لا تريد كلية وإنما تريد كلاما.. و يتخلى فؤاد عن صمته ليصبّ جام غضبه على واقع الحال، فهو موظف بسيط يضيق ذرعاً بأعباء الحياة، وتكاد تنوء به الهموم لتجعل ربيع قلبه معشوشباً بالهم، فلا يقوى القلب على النبض، ولا يفصح اللسان عن حبّ يستوطن الأعماق.. 

نكمل جولتنا ونتعثر بنداء ’أم عدنان’ تلتقط انفاسها وتقبض بيدها على صدرها ناحية القلب، نقف ويطول الوقوف وأم عدنان مسترسلة بحكاية حلم البارحة الطويل،فهي قد قطعت ودياناً ثم رفعها الطير إلى الفضاء، ولا تنسى أنها أكلت تفاحة وبعضاً من لذيذ طعام، وشاهدت نوراً وو.. 
 
وفي النهاية تصمت بخشوعٍ كمن ينتظر صدور الحكم من قوس القضاء.. 
نلملم وريقاتنا الموشّاة بأحلامهم ونعود عند المساء، نسترجع كل الكلمات، نتأمل كل النظرات.. 

يا أحبائي الفقراء طوبى لأحلامكم الفقيرة.. طوبى لعين تحلم برغيف.. 

طوبى لأذن تشتاق كلمة الحب.. لرجل يحلم بالكهرباء.. 

طوبى لطفلة تغمض عينيها الجميلتين على فرح الدخول إلى الدكان.. 

طوبى لأم عدنان وأحلامها التي تتجاوز الدنيا طمعا بالآخرة.. 

لكنني يا أم عدنان لست ممن يبيعون للمعترين أمتاراً في الجنة.. 

أنا أؤمن بجنّة الأرض قبل جنّة السماء !.. 

أؤمن بأن للحالمين صوتاً وصفحةً ودواة.. 

وأرى الأفق متسعاً لأحلامكم الجميلة وأحلام تكبر وتكبر حتى حدود المستحيل.. 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى