الاثنين ١٦ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم أحمد الخميسي

أمير زكي وقصصه الجميلة

كثيرا ما أتذكر بالتقدير والمحبة عبد الفتاح الجمل (1923- 1992) الكاتب والصحفي ودوره في الستينات . حينذاك كان الملحق الأدبي بالأهرام منبرا للكبار الراسخين أما الصفحة الثقافية التي أشرف عليها الجمل في جريدة المساء فكانت على العكس منبرا لمن لم يسمع أحد عنهم من قبل . قدم الجمل أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي ويحيي الطاهر عبد الله ومحمد البساطي وكثيرين ممن صاروا أعلاما . أتذكر الجمل كلما التقيت بشاب موهوب حقا لكنه لا يعرف طريقا للنشر . الآن أقدم هنا قصة "لاكي" لكاتب أنتظر منه الكثير هو أمير زكي . يمكنك أن تتأمل موهبة القصاص الكبيرة في الجملة الأخيرة من القصة "فقد يتلاشى الليل في أية لحظة"!

"كنت أسير بجانب المسرح القومى وفوجئت بلافتة تقول أن مسرحية فى انتظار جودو تُعرض الآن ، لم أر المسرحية مشخّصة من قبل ، لذلك لم أضيّع الفرصة وقررت اللحاق بالعرض. وجدت منفذ التذاكر مغلقاً، بل وكانت ساحة المسرح كلها خالية، فلم يكن هناك رجال أمن أو عاملين ، ولم يوقفنى أحد ليسألنى عن تذكرتى حتى دخلت قاعة العرض.

فى القاعة كان عدد الجمهور لا بأس به، وكلهم كانوا مأخوذين بأحداث المسرحية، نظرت إلى الممثلين على الخشبة، وعرفت أن الفصل الأول قد تجاوز منتصفه، حسب تسلسل الأحداث الذى قرأته فى الكتب، فقد كان لاكى ينهى مونولوجه المفكك وفلاديمير واستراجون يحاولان إسكاته، وما لفت نظرى هو الممثل الذى يقوم بدور لاكى فقد كان قوى البنية وطويل طولاً ملحوظاً، بما لا يتناسب مع لاكى، أمعنت النظر فيه فإذا به صمويل بيكيت نفسه.

إلى جانب دهشتى كانت فرحتى غامرة، ها أنا أشاهد مسرحية فى انتظار جودو وبيكيت بنفسه يمثل فيها، وسريعاً تحسست طريقى فى الظلام وجلست على أحد المقاعد. فيما بين الفصلين سألت الرجل الجالس على المقعد المجاور: - أستاذ، هل تعرف الممثلين؟

فنظر إلىّ نظرة باردة ولم يُجب، فسألت بوضوح أكثر: - هذا الذى يمثّل دور لاكى. هل هو صمويل بيكيت حقاً؟. فظل الرجل على نظرته وصمته. بالطبع شعرت بالإهانة، فالرجل لا يحترمنى إذ لا يرد على سؤالى، لكنى لم أدع هذا الشعور يطغى علىّ و يعكر صفو هذه الليلة الرائعة. فى الفصل الثانى بدأت الأحداث تمر كما قرأتها فى الكتب، وكنت مستمتعاً إلى أقصى حد ومأخوذاً بهذا الجو المسرحى الرائع، ولكنى أيضاً كنت أنتظر ظهور لاكى لأشاهد بيكيت مرة أخرى، ولكن عندما حانت لحظة دخوله على خشبة المسرح لم يظهر، وما حدث أن بوزو دخل المسرح وحده وبدأ يؤدى دوره، بالطبع امتعضت جداً من هذا التسيب لدرجة أننى صرخت: - أين لاكى ؟ لقد أفسدتم المسرحية؟!

تململ الجمهور من صراخى وطالبنى بالصمت، كنت أشعر بالمسئولية لذلك حاولت إقناعهم بأن لاكى يدخل مع بوزو فى الفصل الثانى كما حدث فى الفصل الأول، وأثار استيائى أن الممثلين كانوا يؤدون عملهم كأن شيئاً لا يحدث، صرخت فيهم مرة أخرى: - هذا تحريف للنص الأصلى، كيف يقبل بيكيت بهذا؟. وهنا أوشك الممثلون على التوقف ، وأوشك الجمهور على الإقتناع ، ولكن رجال الأمن تدخلوا لإسكاتى وطردى، أنا لا أعرف من أين جاءوا فلم أر أياً منهم عند دخولى، والمؤسف أننى لم أجرؤ على ردهم عن إهانتى وطردى لأننى بلا تذكرة تخوّل لى الدخول. قلت لهم : - دعونى أتفاهم مع صمويل بيكيت، أنه هذا الذى قام بدور لاكى وظهر فى الفصل الأول. ولكنهم لم يفهمونى، فهم لا يعرفون الفارق بين لاكى وبوزو وفلاديمير واستراجون . بعدما طردونى خارجا، وقف اثنان منهم على بوابة المسرح لمنعى من التسلل، ولم يبق أمامى سوى حل واحد، هو أن أنتظر بيكيت حتى يخرج، وتمنيت أن لا يكون قد خرج بعد انتهاء الفصل الأول، وأثناء انتظارى كنت أفكر: هل قبل بيكيت بأن يدخل بوزو بدون لاكى، أم أنهم قد منعوه من الدخول لغرض ما ، ووراء أفكارى كان شكى يتردد: هل من رأيته فى المسرحية كان بيكيت حقاً؟ ووراء أفكارى وشكى كان خوفى يلازمنى، فقد يتلاشى الليل فى أى لحظة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى