الجمعة ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم صبحي فحماوي

«شهوة الصمت» وأمينة زيدان

شاهدت رسماً كاريكاتيرياً في أحدى الصحف المصرية لشخصين مكبوتين يجلسان على مقهى، ويسأل أحدهما الآخر:( تقدر تقول «بم»؟ فيقول الآخر متحدياً الصمت: «بم!»)..انتهى الخروج على الصمت.. وإذا اعتبرنا أن «شهوة» هي الوطن، وأن الصمت على ما يجري يكاد يقتل شهوة ويكتم أنفاسها، استطعنا أن نفهم رواية أمينة زيدان «شهوة الصمت»، والتي حازت روايتها الثانية «نبيذ أحمر» على «جائزة نجيب محفوظ» ، من الجامعة الأمريكية في القاهرة، وكانت الرواية الأولى هي «إنهم يعبثون».

و«شهوة الصمت» التي تستهلها الروائية بمقولة الفرنسي شارل ديجول:«لا شيء يقوي السلطة، بقدر ما يقويها الصمت.» وجاءت في 246 صفحة من القطع الوسط، هي الرواية الثالثة لأمينة زيدان، ليست لها قصة أو حكاية أو حدوثة نوجزها ، كي نفهم علاقات الشخصيات، والدراما التي تدفعها للتوجه إلى الخلاص..ولكن قارىء هذه الرواية التي يتم تصوير واقعها المأساوي بصمت، إذا أراد فهمها، فهو مضطر ليقوم بدور الغراب المتنقل بين الجيف المتحللة، والأجساد المترامية هنا وهناك، ليجمع بمشقة بالغة وجبة طعام، ويشرب من الندى المعدوم في صيف الصحراء نقطة ماء، فلا يبقى غير ماء البحر الذي سيفيض على الدلتا، ويغمر الأرض الزراعية، ليشربوه! إذ تقول الرواية ص 17: « لقد صرحوا بأن الماء سيتمدد، وأن الأرض ستغرق في غضون نصف قرن، وأن المدينة ستختنق وتتحول إلى مجتمع بذيء من عصابات وقطاع طرق، جهلاء مستضعفين، بغايا وقوادين، فقراء ومرضى، قتلة ومتسولين، حتى تضيق الأرض وتنتقل البشرية إلى زمن آخر!»

قبل ميلادها بعقد من الزمان في مدينة السويس، كانوا قد حققوا انتصارات كثيرة ، منها تأميم قناة السويس، ذلك الحدث الذي هز التاريخ.. فكان من المقرر أن تولد أمينة زيدان طفلة سعيدة في عالم من المسرات والانتصارات ..يوم كانت أم كلثوم تشدو بكبرياء : « وطني حبيبى، الوطن الاكبر! يوم ورا يوم أمجاده بتكبر!.. وانتصاراته، مالية حياته!» ، وهي أصلاً لم تكن قد ولدت عام النكسة 1967م لتشاهد كيف تتقدم الجحافل العسكرية الناصرية إلى بلدها (السويس) فصحراء سيناء، ولم تفهم كيف عاد من بقي من الجنود المنكسرين في ساحة الحرب الصحراوية تائهين مبددين، ربما لم يعودوا أبداً، إذ يُجفف الحر اللاهب ريقهم ، وتذيب شمس الصحراء أجسادهم، وتخفي آثارهم انتقامات الذئاب الشرسة المتكاثرة حولهم .

أمينة زيدان كانت أمينةً في سرد روايتها ، موفقة في التعبير الصادق عن «ألم الصمت على المرارة».

وأنت تستطيع أن تقرأ عنوان الرواية على شكل «شهوة» الصمت..أو «الصمت المطبق على البلاوي السوداء التي تحاك ضد شهوت».. إذ تقول الرواية: « توجّب على الجد أن يُخرج شهوت من البيت بعد موت زوجها يوسف بأسابيع، ورأى الجميع ذلك حسناً، حتى اضطروا إلى طردها، أو هربت منهم، لا يتذكر أحد النهاية».. وعلى الغلاف تقرأ عنوان «شهوة»، وفي الداخل تقرأ: «شهوت»، مثل اسم «عزة» واسم «عزت».

لا أريد أن أتحدث في هذه العجالة عن الفكر الفلسفي للموت الذي يتسرب من خلال الصفحة 98: «الموت شيء واحد لا منته، فلماذا لا نعبده؟» ولا سطور تكفي للحديث عن الجماليات الشعرية في الرواية:صفحة 11 « وسار مثقلاً بالرياح والأمطار والرمال..مشوار طويل أطارد فيه الموت وأسأله الدعم..أسير وكأنني رجل من رمل تعانده الريح..ثقلت يداي، وتيبست شفتاي، والتهب بالجروح اللسان..» ولا أريد أن أتحدث عن عدم اعترافها بما يسمى: «الأدب النسوي»، ذلك لأنها في هذه الرواية تعبر بدقة مُعذِّبة عن أحاسيس بقايا الجنود المهزومين في رمال الصحاري الخاوية من الماء والناس، وصمت الذكور من أهل شهوت، المهزومين والمكبوتين أينما كانوا في مواقعهم، رغم أنهم كلهم يحبون «شهوت» والتي هي «الوطن الأم»، ولكنهم يصمتون على ما يحصل لها من موت زوجها، أو اختفائه في الصحراء، ولذلك اقترن حبهم لشهوت، مقترناً بالصمت على الدمار الذي يجري فيه، إثر النكسات المتلاحقة التي تنخر عظم «شهوت».إذ تقول:

«..سار تحت الشمس من مقابر إلى مقابر ليتلو تلاوته.. القادة هربوا، ومعهم الخرائط وأجهزة الاتصال.. تبعت مراداً وتبعني الآخرون.. الجد اعتاد أن يجمع الثعابين، وعبد الهادي اعتاد أن يشرف على دفن الموتى. ذلك كان مصدر رزقهما.»

وشخصيات الرواية ليست من عائلة واحدة، ولا من عدة عائلات، بل هي صور مختلفة لشخصيات عربية القلب واليد واللسان، وذلك أينما اتجهت فوق الرمال العربية، الممهورة بختم الهزائم المتلاحقة، منذ النكبة، والنكسة، والوكسة، والفكسة، والعكسة، التي تجعل أمتنا العربية الغنية بثرواتها وعقول مفكريها، وسواعد فنييها وعمالها، تسير بعكس التاريخ .. والرواية تصور نفسيات الإنسان العربي المشتت والمهزوم والمقتول والنازف خروجاً من أتون هزائم مرة ..وهي تغص بهذه العبارات التي لا أول لها ولا آخر، والتي تجعل القارىء يتوه مع الساردة أو السارد المتعدد الأوجه والشخصيات، ويغرق في أتون عالم ملتهب ، نذكر نماذج منه:

«.....لو بصيت من خرم ضيق حتشوف الزحمة والمصايب اللي عمالة ترف عالبلد...نروح فين يعني لو حنسيبها؟..هذا الزمن الذي يطلق القتلة المخدرين ورائي...أسير في الشوارع خائفاً، من حولي المشانق، تتدلى منها الرؤوس، ومن فوقي تنتفخ السحب بالماء، فتبدو كموجة معلقة!..أقول كل هذا للفرح، لا للحزن الذي تنطوي عليه الحكاية... طبعاً يا دود الأرض حتتشقلب، واللي تحت حيبقى فوق!.. تسلل إلى غرفتها وهي تزور نفيسة ليدس جهاز تنصت.. كلهم أولاد كلب.. لم يعد لنا القدرة على العيش بين أسوار قاتمة.. لعنة وحطت على العائلة..شفت جمال عبد الناصر في الحلم بيزحف على يديه ورجليه.. !» وهنا نلاحظ أن العائلة هي الناس كلهم، وليست العائلة العادية التي نعرفها.

الراوية تدخل القارىء في أحلام كابوسية، لا يستطيع الفكاك من روحها الواقعية السحرية، فيجد نفسه مختفياً في غبار رمال الصحاري الجافة، ولا يشاهد سوى الألوان الكالحة المالحة، الممزوجة بالأحمر الدموي والأسود المخيف، الذي كان يصبغ غلاف روايتها الثانية «نبيذ أحمر»، فيحس بطعم «شهوة» الصمت القريبة من الموت، الذي سيطر على أغلبية النص المعبر عنه بغلاف موشح بالأسود والأبيض، بينما بقيت شهوت حمراء نازفة..إذ يقول التائه: «نوبات القيء التي كانت تنتابنا بسبب قلة الهواء في داخل الخنادق، جعلت أدمغتنا تدور ونحن نواجه الحلم!»

إن صعوبة السرد الفوضوي الكابوسي المذهل والمُعذِّب في هذه الرواية ، وليس المدهش فقط، بما يشوب سطورها من غموض، يعمل على إنماء روح الخيال لدى القارئ، ويوسع إدراكه، ويحفزه ليبذل مزيداً من الجهد لفهم أسلوب أمينة زيدان، الخاص بتعبيراته الغامضة، ولكنها تجعلك وأنت تقرأ، تشعر وكأنك تحدق في عين الشمس، وأنت وحيد تائه في صحراء لانهائية الأبعاد، فلا تستطيع أن تستمر في القراءة وقد جف ريقك، فتطوي الصفحة، وتنتظر إلى أن تعود بعد شحن بطارية أعصابك لتتحمل القراءة!

وهذه الفوضى المأساوية التي رسمتها الروائية، لا تتعارض مع قدرتها العالية على التعبير عن روح الهزيمة، وليست النكسة التي ظللنا نردد عبارتها، حتى صارت أسطوانة مشروخة فقدت معناها، بعد أن لم تتح الفرصة للقائد، أن يسترد أنفاسه، ويعيد الكرامة لأمته بحرب الاستنزاف، التي لم يكتب لها أن تستمر، فتحولت النكسة إلى هزيمة محققة!

وإن عدم وجود مرجعيات ومتابعات دراماتيكية لشخصيات الرواية ، دون الإشارة إلى حقيقتهم وطبيعة علاقتهم مع شخصية الرواية الصامتة «شهوت»، يؤكد على فوضوية مدروسة للسرد الروائي ، لدى روائية متمكنة من أدواتها، فتجدها تمارس التجريب لتصوير "الفوضى المنظمة" التي تسيطر على المكان، ببصمات أمينة زيدان ، التي لا تختلف في هذه الرواية - وسابقتيها - عن لون البصمات الزرقاء، التي يخضعوننا لها عند الحدود وأماكن الشبهة، ومحاكم الجنايات.. لم تتحدث أمينة عن بلدها «السويس»، ولا عن مصر وحدها، بل كانت روائح الرواية المتعفنة تفوح من جنبات الصحاري والرمال العربية أينما اتجهت. وهو ما اتضح تماماً في السرديات المندغمة، والتي أشعرت القارئ بدوامات من الهلوسات المؤلمة، والأحاسيس المدوخة!

لا أعتقد أن روائياً عربياً استطاع أن يعبر عن الواقع المر الذي تعيشه أمته اليوم ، جراء الهزائم المتلاحقة التي منينا بها بعد حزيران 1967، مثلما استطاعت الروائية الفذة أمينة بتلك اللوحات المأساوية أن تكون أمينة على روح العصر الذي نعيش! فقامت بتصوير هذه المشاهد المبعثرة من الخراب والدمار والألم في كل مكان.

إن استخدام الروائية لهذا الأسلوب الغامض والمراوغ في الكتابة، قد أدى إلى التصرف لتوضيح ما يحس به المواطن العربي الذي يقضي على الحدود مع العدو، فيواجه عذابات الموت، وحتى إذا خرج حياً من حفل الموت، فسوف تتبعه عذابات الموت الصامت طيلة حياته، وذلك هو أشد البلاء!
إن الفجائع الكبرى بما نحس ونشاهد من هزائم على مستوى الوطن العربي الكبير، ونحن لا نستطيع التعبير عن مشاعرنا، تحت مقولات: " مقتل الرجل بين فكيه" و" إذا كان الحديث من فضة، فالسكوت من ذهب" و"لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك"، وأحياناً كان المعلم يقول لي: " سد حلقك!" ولكن المعلم الآخر لم يكن يقول: "سد حلقك"، بل كان يقول لي: "إخرس!" وقال محمد الماغوط في كتابه" سأخون وطني" إن الأبوين يقضيان سنتين في تعليم طفلهما النطق، وبعدما يفرحون بنطقه، تجدهم يرهبونه مطالبينه بالصمت إلى الأبد !" كل هذه التربيات والتعاليم تدفعنا إلى الصمت، حتى أن كُتّابنا ومفكرينا توقفوا عن النقد، وصاروا يحاربون كل من ينقدهم، مطالبين إياه بالصمت، أو محاولين إسكاته بكل السبل!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى