الجمعة ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم حسين أبو سعود

الدور السياسي للمرجعية الدينية في العراق الحديث

ورد في الاثر ما نصه: (فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم) و هذه الرواية المنسوبة للامام المهدي عليه السلام تستمد منها المرجعية الدينية الشيعية شرعيتها، بالاضافة الى صريح الآية المباركة في وجوب العودة الى أهل العلم في حالة اللاعلم كما في قوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، إذن المرجعية هي نيابة عامة عن المعصوم وبالتحديد عن الامام المهدي عليه السلام، وهي مؤسسة حقيقية عريقة كانت وما تزال لها دور مباشر في حياة الناس الاجتماعية والسياسية، وقد تميزت مرجعية السيد علي السيستاني في زمننا هذا باشتهارها ليس على الصعيد الأقليمي فحسب بل على الصعيد العالمي أيضاً وصار ذكره على كل لسان.

أصبحت المرجعية الدينية موضوعاً مهما للبحث والدراسة والمتابعة من قبل الدوائر العالمية والمؤسسات الأكاديمية، فكتبت فيها بحوث جامعية عديدة، ، وقد اعد الباحث عباس جعفر الامامي دراسة قيمة في هذا المجال نال بها شهادة ماجستير فلسفة من الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية في لندن، معتمداً على ما يقرب من مئة مصدر ذكرها جميعاً في نهاية البحث، وقد أشرف على الرسالة أحد الوجوه العلمية المعروفة وهو الدكتور السيد فاضل الميلاني.

وجاءت الدراسة في مئتي صفحة من القطع الكبير، وزعت على ثلاثة أبواب، ويحتوي كل باب على فصول ومباحث ومطالب، غطّى الباحث من خلالها كل ما يتعلق بالدور السياسي والرقابي للمرجعية في الفترة من 1914 ـ 2009م ، وقد ألحق بالكتاب بيانات ووثائق وفتاوى ورسائل صادرة من مكاتب المرجعية تتعلق كلها بموضوع البحث، مما أدى الى زيادة التوثيق وتعزيز المصداقية، فجاء البحث محكماً مكتملاً مؤدياً للغرض.

وقد تم تخصيص الباب الأول لشرح الظروف المحيطة بتأسيس الدولة العراقية عام 1920م وموقف المرجعية من ترشيح فيصل الأول لتولي العرش في العراق، وكان موقف المرجعية آنذاك وطنياً خالصاً، حيث سعت لأن يستلم العراقيون مقاليد السلطة بأيديهم ليحققوا السيادة الوطنية لبلادهم، وتحملت في سبيل هذا الهدف الشرعي والوطني الكثير من المحن كالتهجير والسجن وحرمان أتباعها من كثير من الحقوق العامة كالتعيين في دوائر الدولة ومناصبها المختلفة، وفوق ذلك يجزم الباحث بأن المرجعية كانت دوماً الحصن الواقي للأمة من الانحراف والتشرذم، ولم تخلُ حياة مرجع واحد من مواقف مبدئية ازاء قضايا الأمة العادلة بل تعدى ذلك الى دعم حركات التحرر في العالم الاسلامي وعلى رأسها القضية الفلسطينية ، وقد افتى الكثير من مراجع الدين الشيعة بجواز دفع الحقوق الشرعية للقضية الفلسطينية ولفقراء فلسطين، فصار من الطبيعي أن يتفرع من هذا الاهتمام بشؤون الأمة القيام بواجب أخر حيوي وهو الدعوة الى الوحدة الاسلامية والتقريب بين المذاهب، وللمرجعية في ذلك مواقف ثابتة وواضحة لاعتقادها الراسخ بضرورة لم شمل المسلمين لمواجهة الأخطار والتحديات، وقد لخَّصت المرجعية تصورها للوحدة والتقريب بانه ليس على حساب أي مذهب من المذاهب، بل يتمسك كل طرف بمذهبه والتوحد بالمشتركات التي لا يمكن إحصاؤها من كثرتها، وعلى أن يدافع بعضهم عن الآخر في سبيل مصلحة الاسلام والمسلمين.

وأشار الباحث الى جهود المرجعية الدينية في موضوع الوحدة الاسلامية والتقريب بين المذاهب معتبراً أن الوحدة الحقيقية ليست في أن يتحول الشيعي الى سني أو بالعكس، بل يتعبَّدُ اللهَ كلُّ بمذهبه مع التعاون في النقاط المشتركة، والظاهر من كتابات الباحث أنه يتصور بأن هذه المصالح تأخذ مساحة واسعة من المفاهيم الاسلامية في الأحكام والعقائد وقسم منها إجتهادات العلماء والفقهاء والمفكرين والتي لاضير فيها، وقد إستنتج الباحث أن التضخيم في الخلاف بين المذاهب منشئه المصالح الذاتية للسياسيين والحكام الذين يريدون تحقيق أهدافٍ معينة من خلال إيقاع الفتنة وتوسيع الفجوة بين المسلمين.

وقد إتَّسمَ ظاهر المرجعية الدينية بالابتعاد عن العمل السياسي المباشر، وذلك لاختلاف مفهوم السياسة من عالم الى آخر، ومن هنا نأت المرجعية بنفسها طيلة عقود طويلة عن السلطة والتصارع عليها لحفظ إستقلالية الحوزات العلمية وعدم البقاء تحت هيمنة الحكام خاصة، وإن تدخل المرجعية في السياسة مسألة معقدة أثيرت حولها إشكالات كثيرة تناولها الباحث وفنَّدَ معظمها باسلوب علمي واضح، وهذا لايعني مطلقاً أن المرجعية لم يكن لها رأيٌ في الأمور السياسية وتشكيل الأحزاب، ولبعض العلماء دور واضح في تشكيل أحزاب سياسية اسلامية كان لها تأثير على الساحة، علماُ بأن الباحث أشار بشكل كافٍ الى معظم الأحزاب السياسية التي تشكلت في العراق بعد الحرب العالمية الأولى الى يومنا هذا.

ويدعي الباحث بأن المرجعية تؤمن بأن العمل الحزبي في سبيل خدمة الاسلام له أثر كبير في نشر الفكر الاسلامي وعامل مهم في تأصُّلِ الالتزام الديني في وسط المجتمع من ناحية، ومن ناحية ثانية حماية المجتمع من الافكار المستوردة الغازية .

وقد قدم الباحث مبحثاً طريفاً يخص عمل رجال الدين في دوائر الدولة، ويبدو أنه يعارض عمل رجال الدين كموظفين في دوائر الدولة ، ما عدا المواقع القيادية والتشريعية والقضائية في موارد الضرورة القصوى، لأن العمل في الدرجات الوظيفية المختلفة ليس من شأن رجل الدين لخروج ذلك من إختصاصه و لانحصار عمله في إرشاد الناس الى أحكام الدين ونشر الفضيلة والثقافة الاسلامية.

وقد وجدتُ ان الباب الثالث المخصص للدور الرقابي للمرجعية هو الأهم في البحث حيث وزع الباب المذكور على ثلاثة فصول تناول فيها مراقبة المرجعية على ذاتها ووكلائها وشرح معنى المراقبة وأنواعها وأهميتها وآثارها على الوضع السياسي وعلى حركة الأمة وعلى الوجود الأجنبي وعلى المنظمات الأجنبية، وموقف المرجعية من سياسة سلطة الاحتلال في العراق.

ويبدو لي أن الباحث قد ابدع في تناول هذا الباب حيث لم يشر الباحثون من قبلُ الى مثل هذا الأمر، وقد شاهد العالم أجمع مراقبة المرجعية لتصرفات السياسيين وعملهم وحرص هؤلاء على لقاء المرجعية والاستنارة بآرائها وتوجيهاتها الحكيمة.

كما تحدث الباحث عن نظام الاتصال بالجماهير عن طريق الوكالات التي تصدر من المرجعية الى الوكلاء في المناطق المختلفة وتكاد لا توجد منطقة تخلو من وكيل للمرجعية ينظم علاقة الناس بالمرجع وقد لاقى هذا النظام القبول التام في الوسط الاجتماعي.

وقد خلصت من خلال قراءتي للكتاب الى أن الباحث قد وضع أصبعه على الجراح الحقيقية للمجتمع العراقي والخلل الواقع في تأسيس بنية الدولة العراقية، مما نتج عنه مشاكل سياسية معقدة تواجهها البلاد حاليا، ولم يغفل الباحث باعتباره تركماني الأصل تاريخ التهميش السياسي لتركمان العراق فأرَّخ ذلك سياسياً بصورة موثقة.

ومن الجدير بالذكر إن الباحث لم يسلط الضوء على جميع مراجع الدين معللا ذلك بقوله أنه ركز على الفقهاء الذين عاشوا الحدث، وأثروا فيه بشكل مباشر بعد عام 1914م الى يومنا الحاضر.

ولا شك بأن المرجعية كانت صلبة في مواجهة الانحرافات واستبداد الحكومات، وقدمت في هذا السبيل الكثير من الضحايا وتميزت في مواقفها إزاء الأحداث بالصبر والأناة والحكمة، لا اثر فيها للتسرع واتباع الهوى.

وقد أختلف مع الباحث في بعض الأمور التي اثارها وهذا أمر طبيعي، غير إني وددت أن اثبت مخالفتي له في تصوره بأن كلمة المرجعية تقابل ( Religious Authority ) أو ( Supreme guardian ) لأن الترجمة العربية لهاتين الكلمتين لا تعني المرجعية بنظري، فالأولى تعني السلطة الدينية، والمرجعية لا سلطة لها على الأجساد وانما سلطتها على القلوب وهو معنى مجازي، وأما الكلمة الأخرى تعني الراعي الأعلى، حيث تقترب في معناها من (ولاية الفقيه) التي لا يؤمن بها مراجع العراق بالمعنى الواسع للمصطلح حسب فهمي .

ويتمنى الباحث في نهاية بحثه أن يكون قد وُفِّقَ في دراسته وبحثه بقوله: وقد توخيت الموضوعية جهد الامكان متجنبا كل ما من شأنه إثارة الجدل الذي لا طائل منه.

وقد علمت بأن هذا البحث سيصار الى الطبع لذا أنصح المهتمين بترقب صدروه في كتاب ومطالعته بعناية والاستفادة من الأفكار المطروحة فيه بغية التوصل الى حلول ناجعة للمشاكل العالقة ومعرفة المزيد من التفاصيل عن المرجعية الدينية في العراق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى