الجمعة ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم منذر الحايك

ارتقاء الحضارة: الجمال والفن

يطلق اسم الشرق الأدنى القديم على البلاد الواقعة في جنوب غربي آسيا، بين القسم الغربي من إيران المتاخم لبلاد الرافدين ونهر دجلة في الشرق، والساحل السوري في الغرب، ومن كيليكيا وسفوح طوروس شمالاً إلى أطراف شبه الجزيرة العربية، ضاماً بلاد الرافدين، وسورية الكبرى، إضافة إلى بلاد وادي النيل.

وقد كانت هذه المناطق مهداًِ حقيقياً للحضارة الإنسانية، حيث امتلك فيها الإنسان أقدم معارفه التي مهدت لقيام كل الحضارات اللاحقة في العالم. وربما كان أهم إنجازاته وقتها هو اكتشاف الزراعة، التي امتلك الباحثون الأثريون دلائل على بعض أشكال منها تمت على ضفاف الأنهار الكبرى للمنطقة، وربما أهمها كان على الفرات الأوسط، فقلبت الزراعة حال الإنسان، وجعلته يعيش وفرة غذائية مكنته من الاستقرار، فأخذ يكتشف ويبدع ولم يتوقف حتى اليوم، وأفسحت له حيزاً من الوقت للتأمل، فأوجد الأفكار الدينية التي لا زالت تتطور وترتقي حتى الآن. وفي هذه المواقع الزراعية نشأت الأكواخ الأولى، ثم تحولت إلى بيوت طينية وحجرية، ومن ثم تطورت إلى قرى، ويعتقد الخبراء أن ذلك تم بين الألفين التاسع والسابع قبل الميلاد، وقد اكتشف بعضها في الجزيرة السورية.

لم يتوقف التطور الحضاري لإنسان الشرق العربي القديم عند الزراعة والسكن بل نراه سريعاً ما حقق انجازاً، ربما كان أهم انجازاته على الصعيد الحضاري الفكري، وهو اختراع الكتابة، الذي ظهر في منطقتين في آن معاً من الشرق القديم هما جنوب الرافدين ومصر، وأقدم الشواهد على هذه الكتابة ترقى إلى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وبسبب الكتابة عده المؤرخون الحد الفاصل بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية.

بدأ الإنسان الكتابة في مرحلتها الأولى: التصويرية – الهيروغليفية بمصر، والمقطعية المسمارية في بلاد الرافدين، وبعدها جاء دور الساحل السوري حيث حدثت المعجزة في أوغاريت باختراع الكتابة الأبجدية، وتم ذلك حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، حيث تحولت آلاف الصور أو آلاف المقاطع إلى بضعة حروف.

ومن أرض الشرق العربي القديم وعليها نشأت المقدمات الضرورية للحضارة، فشهدت المنطقة عملية انتقال الإنسان من الجماعات إلى المجتمعات، فازداد عدد السكان في القرى، ونشأت العادات والتقاليد، ثم قامت المؤسسات الإدارية، وظهرت المدينة ثم الدولة، وظهر الكهان والحكام، وتتحدث النقوش والرقم المكتشفة عن ذلك كله بالتفصيل، كما تظهر فيها تصورات أناس ذلك الزمن الدينية والفنية والعلمية.

وهناك نظرية تقول بأن حلول الجفاف في مناطق الشرق القديم دفع إلى حدوث هجرات نحو وديان الأنهار، التي أصبحت مواقع لنمو الحضارات القديمة. فالتغيرات المناخية والجفاف أدى إلى تجمع السكان وبالتالي ميلاد الحضارات القديمة الكبرى على ضفاف الأنهار. وبعد أن تمت عملية التبادل الحضاري، من خلال التأثير والتأثر بين الحضارات المختلفة، دفعت قدماً عملية التطور الحضري حتى وصلت إلى آفاق لم يكن يحلم بها الإنسان.

إن فهم أسباب قيام هذه الحضارات بشكل عام ساعدنا على معرفة الدوافع الحقيقية وراء قيام كل واحدة منها على حِده، وبمعرفة الدوافع الحضارية لكل شعب استطعنا أن ندرك مفاهيم وفلسفات كل عصر، وبالتالي تكونت لدينا النظريات التاريخية عن قيام الحضارات.

إن الحضارة بمفهوم شامل تعني كل ما يميز شعب عن شعب، من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة والقيم الدينية والأخلاقية، وبذلك يمكن تعريف الحضارة على أنها الميراث الثقافي والتاريخي، ومقدار التقدم العلمي والتقني الذي تمتع به شعب معين في حقبة معينة من التاريخ.

ولعلم الجمال علاقة وثيقة جداً بالحضارات، فهو أرقى إحساس بها، وأجمل مفهوم فيها، إذ يقوم موضوع علم الجمال على البحث عن مختلف أنواع الكفاياتِ الجمالية التي يطمح إليها الإنسان عبر حضاراته المتعاقبة. ودراسةَ علمِ الجمال لا تقف عند زيادة معرفتنا بعالم الجمال والفن بل تتيح أيضاََ تعميق معرفتنا بالإنسان ذاته، فالإنسان يعد المركز الأوحد للإحساس بالجمال والمدرك الوحيد له، فالكائنات الحية، غير الإنسان، ليس في مداركها ما يسمح لها بالتمتع بالجمال، لذلك فهي لا تكترث بالعلاقات الجمالية.

كما أن الإحساس بالجمال يقربنا من جوهرنا الإنساني أكثر، ويجعلنا أرقى اجتماعياً وأكثر نفعاً، ويقوي من إدراكنا للواقع المحيط بنا، ويمدنا بأدوات تمكننا من تفسير ماهية الحياة، بل وحتى أكثر من ذلك، فباعتباره إحدى أدوات المعرفة، يعطينا القدرة على لعب دور مؤثر في التحكم بآليات التغير. لذلك اتفق الناس على حب الجمال، ولكنهم اختلفوا في تعريفه، فقد قيل: إن الجمال هو العلم الذي يضع لكل موجود قيمة، بالإضافة إلى قيمته كموجود. ويقول أفلاطون:إن الجمال والخير والحق حقيقة واحدة. أما التعريف الكلاسيكي لعلم الجمال فيقول: أنه علم الأحكام التقويمية التي تميز بين الجميل والقبيح، أي أنه يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الشيء الجميل، ويضع معايير يمكن أن يقاس بها.

إن قدرة الإنسان على تأمل الطبيعة، واستخلاص القيم الجمالية التي تغمرها، أمر بالغ الأهمية ليس في تكوين الذوق الإنساني العام فقط، وإنما تسهم أيضاً في فهم القوانين التي تحكم عناصر الطبيعة وتكسبها جمالها الذاتي. وكذلك فإن الفن هو من الطرق المهمة للمعرفة. ولعالم الفن نظام خاص يعد ذو قيمة كبرى للإنسان، فهو يضارع عالم الفلسفة والعلوم، وإذا كان الإنسان الآن قد قطع أشواطاً بعيدة في عالم الفن فبداياته فيه كانت بسيطة جداً، وذلك عندما جعل من الفن تقليداً للطبيعة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى