الأربعاء ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

فنجان القهوة السوداء

في شرفة منزله المطل على النهر، يرمي بنفسه في حضن كرسيه الهزاز، الذي رافق هدهدته طوال فترة القلق التي كثيرا ما تنتابه، صاحبه الشيب أيضا بعد أن لطخ شعره برذاذ من البياض هنا وهناك، لم يحتسي النساء في حياته، التي خارت قواها جريا وراء مناصب وجمع أموال، لم يرافقه في رحلة عمره سوى ذلك الخادم، الذي أيقن أن محطته الأخيرة هي في بيت هذا الرجل، هو مرتاح إلى هذا الهدوء كرب عمله، وكثيرا ما كانا يتسامران مع فنجاني قهوة.

رب العمل يحبها سوداء قاتمة مركزة مُرة، مثل مرارة الشعور بالتيه والوحدة بين متاهات ضبابية، أما الخادم والصديق فيحب أن يشربها حلوة سكرها زيادة، كونه يشعر إن الحياة بها من الملذات ما لا يمكن الحياد عنها، وتركها دون أن تكتب أو ترسم ذكرى على جذع أيامها الطويل، ذات يوم وحين جلسة مساء ومسامرة مع فنجاني قهوة، والذي مر عليهما بعد ان حملت الريح عبق القهوة المعتقة الى جيوب خياشيم المساء، الذي جاء مسرعا يتلوى طائرا خلف تلك الرائحة التي أجلسته قرب شرفة المنزل، أدار رأسه عبيرها المعتق، فحسد من يشربها بتذوق وتلذذ، ثم مد لسانه نسمة باردة على سطح وصدر فنجان القهوة، محاولا لعق بخار فورتها الذي أسال لعابه فترنح برودة أعصاب فركن لديهما بسكر وخدر.

كانت علبه السيكار قد أخذت مساحة من سطح الطاولة بعد ان ملئت بطنها بأفخر أنواع السيكار المسمى بالهافانا، كان السيكار يتدافع بأناقة فيما بينه، لنيل من أصابع يد، كلها تريد أن تتلمس وتحظى بشفاه رشفت القهوة، فالحياة عندها دخان مع شرب قهوة، إلا إن إزاحة من يد خادم جعلت التلاطم فيما بينها يقدم ويؤخر بتدافع الى نيل مراد، لكن الشعور بالخيبة سرعان ما طغى صمتا بينها، بعد أن أخرج السيد من جيب ردائه نوع آخر من السيكار، والتي أحرجت حين قام بنزع ردائها وتعريتها، ثم الإمساك بخصرها متذوقا طعمها قبل شربها وقضاء غرضه منها، هي بعد ذلك راق لها لسانه، متى ما مده يلعق مساحات حساسة جعلت القشعريرة تسري في بدنها وتهزها تمايلا، وما أن رآه خادمه، حتى أخرج عود الثقاب ليشعلها نارا، بعد أن تلظت حرارة جسدها من سخونة فم،

لم تلمس تلك الشفاه العذرية جسدا من قبل، ولم تُقَبل شفاه سوى شفاه فناجين قهوة بأشكالها المختلفة مع أجساد سيكارات الهافانا، إلا هذه المرة التي غير نوع السيكار فيها، والذي ما أن تذوقه حتى أحس ببراعم فم وأنف تتحرك بهيجان ورغبة في مطارحة القهوة بعجل، مد يده ليحتسيها بشغف، مالئاً فمه برشفة كبيرة، أدارها رقصا بلسان أيقظ كل براعمه لترتوي منها، إلا أنها عزفت عن ذلك، فهي لم تتعود ان تسقى بقهوة ذا سكر زيادة، فجعلته يتقلب ويمتعض ويرمي بها إلى الخارج طاردا تلك القهوة من فم عاش يذوق المرارة حلاوة، ويأنف ان ترتوي براعم فمه وأنفه على غير ذلك، قال الخادم عفوا يا صديقي ما الأمر، أشار السيد إلى القهوة، أنتبه الخادم الصديق وقال آه ه..

لقد أخذت فنجان قهوتي بالخطأ، هذا هو فنجانك، تسارعت يد السيد الى كأس الماء ليشربه أملا في تغيير طعم لم يتعود عليه، عب الماء كأنه يزيح بذور تساقطت محاولة النيل من براعم لسان نبتت على المرارة سنين طوال، ثم عمد الى السيكار بعد ان مد لسانه ليتلحفها وشفاه خلسة في جوف فم ممتصا فورتها بلذة، بالعاً رحيق دخانها الى مسامات جسد وبراعم أنفية تراقصت شغفا دون عزف، فقد أعتادت تلك البراعم أن تتراقص على طعم قهوة مُرة، رشف بسرعة من قهوته المعتادة، أدار لسانه هذه المرة كمن يداعب امرأة بغنج، مرر لسانه على مساحات فم تغيرت معالمه، فانعكس على قسمات وجه وزفير دخان من أنف وفم، كأنه يقول لبراعمه، هيا تراقصي على مرارة ودخان جديد، كان الخادم ينظر إلى سيده وهو يغمض عينيه ويرخي برأسه الى الوراء، كمن يلقي حملا عن كاهل، بعد أن ترك سيده يشرب ويسحب نفس الدخان قال له: عذرا طوال خدمتي لم يخطر لي أن أسألك لما تحب شرب القهوة المركزة المُرة السوداء مع السيكار؟ رغم أنك اليوم قد غيرت نوع السيكار الذي أعتدت أن تدخنه، وكأني أرى أن تغيرا ما قد حصل!!
أجاب السيد: غريب سؤالك، ولا أدري بماذا أجيب، لقد تمحورت حياتي ومنذ أن بدأت أرنو لأن أكون ما أريد، وبعد أن التصقت بقايا الفقر المر على جسدي مخلفة رقعة سوداء، جعلت الناس تزدريني كأني مريض أجرب، فأقسمت حينها أن لا أتذوق أي شيء يكون به طعم الحلاة، وأزدري الأيام الجميلة، وألبس الأسود، وأتذوق وأأكل المُر في سبيل نيل مرادي، فتوأمت نفسي على أن أحيا بعيدا عن ملذات جسد وروح، والعيش فقط على طلب مال ونفوذ، وها أنت ترى لم أحظى بالأصدقاء أو الأصحاب كوني لا أحب الاختلاط، وابتعدت عن متنفسات الدنيا، وعزفت عن متعة نفسي وروضتها، على أن العيش بمرارة ربما هو أفضل من أن ترتوي للحظات برغبات طيبة ومحلاة بمطيبات صناعية، هي بالتأكيد تعكس صورا مقلوبة بداخلك كما هي العين، حين تنقل لك الصورة معتدلة رغم انقلابها تماما، فعزفت عن الخوض في مجالات الصخب، ورضيت منك أن تكون خادمي وصديقي، لعلك تذكر انك أنت من زرعت في براعمي ونفسي حب المرارة، حين جلست يوما بقربي ذات يوم وحالة الضياع التي انتابتنا، وشكيت لي حال أمرك، بعد أن هتكت الأيام عرض سعادتك، بنوايا خبيثة من أقرب الناس لك، وكنت أنت من يحتسي المرارة تنفسا وشربا، ومعك سقيت نفسي ترياق النسيان، وأخذت بتغيير جلدي ورسمت لنفسي خطوطا سوداء على صفحات أيام، مليئة وحبلى بغيوم أخفق ضياء الشمس من اختراقها، حتى وصلت إلى ما أنا عليه، وأقسمت أنت بعد أن تعرفنا على بعضنا، أنك ستكون معي صديقا وخادما، ولا أدري يا صديق لما تسألني هذا السؤال؟!! والأجدر أن تخبرني أنت ما سبب تغييرك وعزوفك عن شرب القهوة المرة السوداء التي تجرعتها كرحيق زهر؟ ضحك الصديق الخادم وقال:
إنك يا سيدي بعد أن ترو نقت الساعات لك، ودقت ساعة الخلاص من أيام ضيق ومساءات وحدة سمجة، قالت لي نفسي ذات يوم وأنا أحتسي قهوتي المرة، لما تلبس السواد وتتجرع المر؟ بعد أن أشرقت شمسك بالضياء وزحفت بعيدا كل قطرات الهم إلى غير رجعة، ألا تحب أن تتذوق طيب الحياة وملذاتها!؟ كان ذاك في مساء حين جلست أحتسيها في غرفتي، عندما دخل هاجس الوحدة مريضا يتكأ على حجج الأيام وأعذارها، وكيف أصابته بعاهات النقص والشعور بالقهر والملل، مخلفة ورائها الانتقام من النفس والغير، حينها أدركت أنه علي أتغير، وأعيد صياغة جمل حياتي وأيامها، وأول ما غيرت هو طعم ومذاق قهوتي، والتي راقت لي بعد ذلك وبعد عدة محاولات، فليس من السهل أن تزيل المرارة من جوف تجرعها، حتى أصبحت دما ونبضا مصحوبا بنفس دخان ساخن سادي يتلذذ بسلخ وهياج براعم أنفية ولسانية، طالبا منها التعري لممارسة ملذات محرمة في لحظات متعة وقتية، فسألت نفسي؟؟ لما كل هذا العذاب النفسي والجسدي! أو ليس بالإمكان أن أحيا واستمتع بما في الدنيا من ملذات دون الغور في محرماتها، ثم إن الحياة قصيرة، ومع ذلك نتمرد عليها ونعيبها وتصاريف زمن، فكان علي أن اقتنص الفرص للمتعة بدلا من الغضب عليها وعلى نفسي،فيكفيني أن أتجرع مرارة الأيام قضما من عمري الذي لا أدري متى تكون نهاية مطافه، كان السيد يرشف القهوة بيد، ويدخن باليد الأخرى منصتا إلى حديث صديق، بعدها وضع الفنجان من يده، وسحب نفسا طويلا من تلك السيكارة، وقال:
لا أرى في كلامك أية عيوب، ولكن من الصعب أن ترمي بعادات تسمرت في جسدك، وبعد أن طرقت بمطارق حديدية وعقفت رؤوسها منعا من خروج، حتى ولو بعنوة، ولنفرض أنك أخرجتها فلابد لها من ترك ندوب على جسدك، فتشوه معالمه التي أعتدت أن تراها جميلة، قد يكون التغيير بين الفينة والأخرى مطلوبا، ولكن هل هذا يعني أن نتناسى إننا إرهاصات متغيرات زمن ومتقلبات أيام؟ كما ترى أجدني اليوم على غير ما أنا فهذه السيكارة لها طعم مختلف مع قهوتي المركزة المرة السوداء، لا أجد نفسي معها كما تعودت مع سيجارتي الخاصة، والذي تعودت ان أدخنها في ساعات وحدتي وهروبي إلى داخل نفسي، أتدري... لا عليك أترك الحديث الى هنا، هيا.. قم وأعدد لي فنجان قهوة جديد، وليكن هذه المرة أخف مرارة وسوادا لأجربه، عَلّي أجده مذاقا لطيفا لأستأنس ونفسي بتذوقه في أيامي القادمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى