الأربعاء ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد يوب

الشذوذ الجنسي في قصة «همس» لسعيد رضواني

كان الأدب مرآة الإنسان، وسيبقى هكذا طيلة ما عاش الإنسان على وجه البسيطة، والأدب يرقى بذائقة القارئ حين يكون ماتعا بهيا، يغرف من واقع الناس المعيش، ينقل همومهم ويعبر عن مشاكلهم، ويعكس آمالهم و آلامهم في شكل إبداع أدبي يتخذ أنماط مختلفة قصة أو شعرا أو رواية

وعندما ينجح الأدب في نقل الواقع وتصويره للقارئ بهذا الشكل الجميل، يرقى إلى مستوى أعلى ليتخذ لنفسه مكانة عالية بين مصاف الإبداعات الإنسانية الراقية، التي تلتقي فيها مشاعر البشرية جميعا،لما فيها من قبول أخلاقيات جميلة أو رفض لسلوكيات مشينة، تحط من إنسانية الإنسان وتنزله إلى مستوى أدنى من حيوانية الحيوان.

وقصة "همس" للقاص المغربي سعيد رضواني من القصص التي تدخل ضمن خانة الأعمال الإنسانية الخالدة، التي تصور حالة من الدناءة التي تكشف اللثام عن وجه من وجوه فئات عريضة من الناس، الذين انحطت إنسانيتهم لدرجة ممارسة الجنس مع الكلاب، إنهم فئة عريضة من البشر غير الأسوياء الذين يعانون من أمراض و انحرافات جنسية شاذة.

إن أبطال قصة همس ليسوا أبطال عاديين يتحركون داخل الفضاء القصصي بكل حرية، وإنما هم عاملون بلغة السميائيين، يقومون بدور التمثيل بالرغم من تفاوت الأدوار،دور البطولة التي تتقمصها سعاد من الجنس البشري، والكلب دوكي من الجنس الحيواني.

لكن القاص يريد أن يصل إلى التقارب الغريزي بين الجنسين،من خلال لغة الهمس،ولغة الإيحاء و الترميز،وكانت بطولة الكلب أحيانا تفوق بطولة سعاد حينما تتعمد إغراءه،لكنه يتمنع ولا يسقط بالسهولة التي تتصورها سعاد،وكان القاص يتابع هذا التناغم بين البطلين بلغة ثالثة باطنية تنطوي بين سطور القصة،تقتنص اللقطات الحميمية و توظفها توظيفا جماليا يخدم العمل الأدبي.

إن لغة الخطاب تدور بين عنصرين هما :المرسل/المخاطب و المقصود به هنا في هذا العمل،الخادمة سعاد التي كانت ترسل رسائل بلغة خاصة،تتحكم فيها سميائية الإشارة أو العلامة بشكل تداولي،وهي لغة من نوع خاص،لغة تنتفي فيها الكلمات لتحل محلها الإشارات وهي التي يمكن تسميتها بلغة الهمس كما جاء في عنوان القصة.

ولغة الهمس هذه كانت ترسلها سعاد مشفرة ويفسرها الكلب دوكي المرسل إليه /المخاطب،انطلاقا من فهمه الخاص القائم على مبدأ السلوكية الغريزية،التي عادة ما يتربى عليها الكلب مند الصغر.

وتطورت هذه اللغة الترميزية عبر الفضاء الزمكاني الضيق،وتطورت معها سلوكيات أخرى مرافقة لهذه اللغة،ومن هذه السلوكيات الممارسة الجنسية مع الجنس البشري،فقد نمت عند الكلب دوكي لغة الترميز البصري،و الحركات الإيحائية و الإيمائية بمعنى أنه ينقل للمرسل ما تعلمه من طرق وإشارات مرموزة بطريقة سلوكية.

ولترسيخ هذه اللغة الترميزية اعتمدت سعاد ورانيا على أسلوب التجويع،وربط تقديم الطعام بسلوك وممارسة معينة بواسطة القبول و الإيجاب.
و الغريب في الأمر هو أن القاص اعتمد في القصة على لغة الهمس،ولم يشر ولو مرة واحدة إلى لغة الأصوات التي يصدرها عادة الكلب بواسطة النباح،و السبب في كتم صوت دوكي هو الجو العام الذي تدور فيه أحداث القصة الذي هو في العادة جو يسوده الكتمان و السرية،البعيد عن عيون الفضوليين و الفضوليات.

وفي الحقيقة نشير بأن هذه اللغة المستحدثة ليست موجودة في الواقع و إنما هي من مستحدثات القصة الحداثية،التي تعتمد أساليب و تقنيات جديدة في السرد الحكائي،حيث كان فيه القاص بارعا عندما وظف لغة الجنس بنوع من الحرفية دون خدش للحياء،أو إدخال القارئ في الإثارة الجنسية،بل كان القصد من هذه اللغة إثارة الانتباه إلى هذه الظاهرة الجديدة/القديمة التي تناقش عادة بصوت أحادي داخلي،صوت النفس عندما تعاتب نفسها بعد الوقوع في هذا الجرم الخطير الذي يكون فيه الحيوان ضحية لأفعال إجرامية إنسانية.

ووقوع الخادم سعاد في حب كلب سيدتها رانيا،دليل قاطع إلى ما وصلت إليه هذه النفوس البشرية الضعيفة التي لم تكتف باغتصاب الإنسان،بل تعدته إلى اغتصاب الحيوان في صورة الكلب"دوكي"،فعندما يعتدي علينا الكلب نقول عنه إنه حيوان متوحش مفترس،لكن عندما نعتدي عليه نقول عنه إنه حيوان أليف.

حيث إن سعاد دخلت في علاقة غرامية مع هذا الكلب الذئبي،الذي تعلم بطريقة سلوكية بافلوفية،كيفية معاشرة النساء،بأسلوب النساء وبالوضعيات المختلفة التي تحبها المرأة،لدرجة أن القاص بدأ يصور الكلب وكأنه إنسان ينتظر هذه الرغبة الجامحة،التي تدفعه دفعا إلى تفريغ الشهوة الجنسية.

وهذا يبين الدرجة القصوى من الكبت الجنسي الذي تعاني منه المرأة،في وقت انعدمت فيه العلاقات الغرامية بين الرجل و المرأة،إما بسبب انعدام الثقة في الرجل،أو لأن الرجل من طبعه فضح من تدخل معه في علاقة غرامية بعد فشل هذه العلاقة،فتضطر المرأة إلى معاشرة الكلاب أو أنواع أخرى من الحيوانات لأنها بكماء،خرساء،تفي بوعودها ومخلصة لعهودها،كما أنها وفية تفعل ما تريده منها المرأة دون تردد أو عناد.

ويظهر أن سعاد هنا تدرك كسيدتها أن ممارسة الجنس مع الكلب دوكي لا تثير مخاوف مرضية،قد نجدها عند الإنسان مثل:السيدا و غيرها من الأمراض الجنسية، التناسلية،لأن الكلب طاهر من هذه الأمراض التي يحملها الجنس البشري،كما أنه لا يتكلم و يحرص على كتمان الأسرار،و لا تتولد عن علاقته الجنسية أية مشاكل قانونية أو جنحية مع أمه أو أبيه أو مع أحد أقاربه.

و العلاقة مع دوكي لا تحتاج إلى مقدمات،فبإمكان سعاد الدخول معه في علاقة جنسية دون مقدمات أو إغراءات أو شراء هدية من الهدايا ، أو إعطائه نقودا ، كما تفعل كثير من النساء مع الشباب.

كما أن هذه العلاقة لا تحتاج للأنترنت و لا إلى دردشة ولا إلى لقاءات سرية بعيدة عن أعين العائلة و أصحاب البيت الذين تشتغل عندهم سعاد.

وقد يكون لمشكلة العنوسة سبب في اتخاذ دوكي ونيسا من طرف رانيا ومن طرف سعاد،ولو كان هذا الونيس من صنف الكلاب،من هنا نتذكر المثل المصري المشهور ظل رجل و لا ظل حيطة " هنا انعكست الصورة و أصبحنا نقول ظل كلب ولا ظل رجل"لأن الكلب في هذه الحالة التي ينعدم فيها الحس الذكوري يصبح هو البديل عن الرجل،والبديل الذكوري في هذه قصة همس هو الكلب"دوكي"،كبديل عن الرجل الذي يشبع هذه الشبقية الجنسية.

وقد تكون سعاد في هذه القصة قد أشبعت غريزتها الجنسية من جنس الإنسان المتجسد في سليمان،و أرادت أن تجرب طريقة المعاشرة الجنسية مع دوكي من باب الفضول و التجريب،أو من باب الشذوذ الجنسي المرضي الذي يمتد عبر التاريخ في الذاكرة الإنسانية،وفي الذاكرة العربية بشكل خاص،غير أنه لا يطرح للنقاش لأنه يعتبر من الطابوهات التي تحرمها التقاليد والأعراف والأديان،ولذلك يبقى طي الكتمان،وممارسته تبقى كذلك في السر،وبين ردهات البيوت وفي الأماكن الخفية النائية وفي محيط التجمعات العشائرية.

و أمام هذا الوضع تكون الحيوانات الذكورية لقمة سائغة بين أفخاد النساء،و الحيوانات الأنثوية لقمة سهلة تحت بطون الرجال.

ويظهر من خلال القصة التي بين أيدينا أن الكلب"دوكي"قد تعود على هذه الممارسة الجنسية من خلال"رانيا" ابنة الأكابر،وصاحبة الأصل والفصل العريق،وهذا يتجلى من خلال مداعبتها المستمرة للشعر الكثيف الغزير الذي ينعم به الكلب دوكي،وتمرير يدها برفق وبحساسية،وبشكل ناعم على ظهره،وشعور الكلب بدغدغة منعشة (اندفنت يد "رانيا" في زغب كلبها الذئبي، ثم شرعت تزحف عبر ظهره مدغدغة إياه بأطراف أناملها)
و كذلك من خلال إصرار رانيا بإعطاء أوامرها لسعاد،وذلك بالاعتناء بدوكي أثناء غيابها(اعتني بدوكي جيدا يا سعاد، سوف أتأخر عن المجيء حتى المساء) وفي المساء تنفرد رانيا بدوكي وتجده على استعداد لتلبية رغباتها لأنه يكون تحت عناية و رعاية سعاد.

غير أن سعاد يظهر أنها ستخون هذه الأمانة باغتصاب دوكي،وكأن الاغتصاب انتقل من جنس الإنسان إلى جنس الحيوان، حيث كان رد الخادم سريعا"كوني هانيا" وهذا دليل على رغبة الخادم في الانفراد بدوكي و معاشرته معاشرة البشر،وكان رد الخادمة بالعامية دليل على جهلها و أميتها،ونلاحظ بأن استخدام القاص لهذه الجملة كان مقصودا للإشارة إلى جهل الخادمة وعدم جلوسها على طاولات المدارس،بمعنى أنها كانت تخدم في بيوت الأكابر مند كانت طفلة،وهاهي الآن قد بلغت سن الرشد وأرادت أن تمارس حياتها الجنسية بكل حرية،لكن هذه الممارسة ستكون مع دوكي،بعدما جربت معاشرة الرجال مع سليمان وسط الأكواخ القصديرية.

وعند قراءتنا للقصة نشعر بأن القاص يؤنسن الكلب دوكي فينقله من حالة الكلاب إلى حالة البشر، وذلك بأن جعله يتابع تفاصيل جسد سعاد ويشم رائحة العطر الذي يفوح من جسدها،واستعداده لمعاشرتها(هناك وعبر زجاجها العاكس لغرفة البيت لمحت عيني "دوكي" تحدقان في مؤخرتها. توقفت عن المسح وأخذت ترنو إلى عينيه البراقتين، ثم هجست لنفسها مرة أخرى:"عينا إنسان").

وكل هذه التفاصيل وهذه الصور الخيالية المتحركة،ما هي إلا صور في ذهن سعاد،توهم نفسها أنها تعاشر سليمان الذي أحست أنه يخونها مع امرأة أخرى ليست في مستواها،إنها تلك المرأة العجوز الذي يرتمي سليمان كل يوم بين أحضانها.

إن سعاد بهذا الشكل تريد أن تنتقم من سليمان،فلا تريد خيانته مع رجل مثله بل تريد خيانته مع كلب ، لتحط من قيمته،بمعنى أن سليمان يعادل مستواه مستوى كلب دوكي،بل قد يكون الكلب أهم من سليمان،لما يجده من عناية شاملة من جميع أفراد الأسرة،فله معزة خاصة عند الجميع.

وظاهرة الإعجاب بالكلب من طرف الخادمة وسيدتها،تظهر من خلال حركية الأفعال الصادرة في القصة،هذه الأفعال التي تدل على دينامية الأحداث،ودرجة الحدة التي وصلت إليها العقدة،فكان لابد من رفع مستوى الإيقاع في السرد،لكي يعيش القارئ هذه الأحداث من خلال التعقيدات التي عرفتها القصة.

و أراد القاص سعيد رضواني إيصال هذه الأحداث الفريدة من نوعها إلى القارئ بشكل أدبي ماهر،يحافظ فيه على الدقة في الوصف و التسلسل المنطقي للأفكار ،و أحيانا نجد القاص يقرؤ ما يروج من أفكار في ذهن الكلب دوكي،وهذا الأسلوب يعتمده القاص لإثارة اهتمام القارئ من أجل قراءة ما بين السطور.

إن سعاد تتحرك و تتحرك معها الأفعال لتبعث على تحضير الكلب لهذه المعاشرة الغريبة و الفريدة،حركية الأفعال المدغدغة لمشاعر الكلب و التي تحضره للفعل الحيواني الذي يشترك فيه الإنسان و الحيوان بصورة غريزية.

إن الأفعال الواردة في النص (اندفنت/ شرعت تزحف عبر ظهره/استعذب/ استشعر...) كل هذه الكلمات بحركيتها التي ترفع من إيقاء النشوة عند سعاد و الكلب،من أجل الدخول في هذه المغامرة الجنسية التي ابتدأت من إعجاب سعاد بالكلب،و رؤية بريق عينيه أثناء مشاهدته لها وهي تتحرك داخل الصالة،و المؤكد هو أن سعاد تتوهم هذا الفعل الغريب حيث إنها تعتقد أن الكلب يبادلها نفس المشاعر الغرامية

لكن الأكيد هو أن الكلاب بل الحيوانات عامة لا تمارس الجنس من أجل المتعة بل تمارسه من أجل التكاثر،ولهذا السبب نجد بأن المخلوق الوحيد الذي يمارس الجنس بعد الحمل هو الإنسان لأنه يمارسه من أجل المتعة،أما الحيوانات فإنها تمارس الجنس من أجل التكاثر فقط فبمجرد ما يحدث الحمل تبتعد الأنثى عن الذكر.

قصة همس،قصة فنتازية تجمع بين اللغة المباشرة و اللغة الترميزية التي يستشفها القارئ الفطن ما بين السطور،قصة تعكس واقعا مسكوتا عنه،يروج في مخيلة الجميع لكنه يراوح نفسه،فلا يستطيع الخروج مباشرة و البوح به علانية، فيبقى سجين الذاكرة الجماعية الشعبية،تعترضه قوة الأنا الأعلى المركبة من مضادات العادات و التقاليد و الدين.

لكن القاص سعيد رضواني استطاع بكل حركية خلخلة هذا الموضوع،وعبر عنه أدبا بأن نقله من الذاكرة و المتخيل الجمعي،إلى المقروء الأدبي بأن صاغه في شكل قصة ماتعة تجمع بين جمال اللغة و بهاء الصور البديعة التي أعطت لهذا العمل روعة وجمالا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى