الخميس ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم حميد طولست

الكراهية

قبل أسابيع، ومع اقتراب ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، طلعت علينا الكثير من وسائل الإعلام المحلية والوطنية والعالمية، بخبر توعّد قسيس كنيسة بروستانتينية صغيرة في ولاية فلوريدا بحرق المصحف الشريف، تخليداً لذكرى ضحايا حادثة تفجير برجي مانهاتن.

الحدث الذي كان يجب التوقف عنده، بالتحليل المتروي، والاستنباط المتأني، خاصة وأن تزامن مع الجدل الدائر حول خطة بناء مسجد ومركز ثقافي إسلامي بالقرب من مكان انهيار البرجين، والذي تقرر في ظل حكم رئيس للولايات المتحدة لا يُنظر إليه على أنه صديق للمسلمين فحسب، بل يعتقد الكثير من الأميركيين خطأ أنه مسلم. لكن مع الأسف، ورغم أن القرآن الكريم نجا من الحرق، في حفلة نار علنية، تشبه الطقوس الوثنية القديمة، لأن له رب يحميه، ورغم أن القس لقي إدانة واسعة من العديد من الجماعات والطوائف الدينية المسلمة والمسيحية وغيرهما، ورغم أن زعماء الجالية المسلمة بأميركا ناشدوا أتباعهم وباقي المسلمين تجاهل ذلك الوعيد، ورغم إعلان وزيرة الداخلة الأمريكية جانيت نابوليتانو قالت إن القسّ الأمريكي الذي دعا إلى ذلك الفعل الشنيع هو جزئياً من صنع الإعلام، ورغم تأيد وزير الأمن الداخلي السابق، مايكل شيرتوف لتصريحات نابوليتانو، وقوله بإن الإعلام والانترنت ساهما في القضية وقال إنه يجب محاربة الخطاب السيئ بالخطاب الجيد من دون الحدّ من حرية التعبير، مشيراً إلى أنه يتعين على وسائل الإعلام ألا تعطي مساحة أوسع للأشخاص الذين يقولون أموراً متطرفة وتتجاهل الأشخاص الذين يقولون أموراً متزنة.

ورغم كل ما تقدم ورغم أن أرفع درجات الحكمة البشرية هي معرفة مسايرة الظروف وخلق سكينه وهدوء داخليين ضدا من العواصف الخارجية، ورغم أن الله خلق لنا عقلا لحفظ الاتزان في الطوارئ ووسط الاضطرابات وتجنب الذعر..

فإنه، مع الأسف الشديد، وفي هذه الظروف الحرجة والأوضاع التي ظل مسلمو أميركا طوال السنوات التسع التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر 2001 يبذلون مساعي جماعية لبناء علاقات مع غير المسلمين ليبينوا لهم أنهم يمقتون الإرهاب ويعرِّفوهم بالإسلام وليشاركوا أتباع الديانات الأخرى مناسباتهم حتى حققوا نجاحاً وأظهروا اندماجاً في المجتمع يفوق ما أحرزه نظراؤهم في أوروبا.

في هذا التوقيت بالضبط، يخرج علينا، من بين ثنايا الشواذ المتطرفين الذين يعشقون إهانة الآخرين، ولا يشفي غليل قلوبهم الحاقدة، إلا زعزعة صفوف أمتهم المزعزعة أصلا بفعل عوامل داخلية وخارجية، وافتعال الروايات الكاذبة، وطرح الأفكار المخالفة للمألوف والمصطدمة مع تقاليد المجتمع وتعاليم الإسلام، والناشرة للفرقة والانقسام والتنافر.

يخرج أحد الباحثين عن الشهرة والرفع من مستوى الشعبية الخاوية، بأي طريقة مشروعة أو غير مشروعة، في استطلاعات الفضائيات العربية عامة والدينية خاصة، والذي لم يتورع عن استغلال هذا الحدث والركوب عليه لإنعاش طموح الشهرة بأي ثمن.. وهو يعلم أنه إنما يجذب بذلك الأنظار إليه ولفترة محدودة وقصيرة الزمن ثم تندثر كالألعاب النارية تضيء السماء بألوان مختلفة وتحدث صوتا تنجذب له الأسماع والأبصار لثوان أو دقائق معدودة، ثم يختفي... تبقى النجوم ويبقى القمر متلألئا في كبد السماء..

خرج مطلا علينا من إحدى الفضائيات المتعددة المتخصصة في الدعوى والدين، ووقف أمام كامراتها متصنعا الحزن والأسى، ودون خجل، خاطب مشاهديها بمفردات لم يسبق لها مثيل في سياسة التعبئة والتحريض، وإشعال الفتن، ونشر الكراهية والحقد، وبث السلوكيات العنصرية الحاقدة، لتعم الكراهية وتنتشر في الشوارع والمنازل، وتصل إلى القلوب! وبالتالي تنتقل إلى كل أحاديث الناس، وأفكارهم، ومشاعرهم وصلواتهم وتحتل كل خطاباتهم اليومية وبرامج القنوات الأرضية والفضائية..

.. لقد تجاوز صاحب البرنامج الديني هذه المرة، كل الخطوط الحمراء، وعاد بالناس إلى عفن الإنسانية، ودون وجل، تعمد الكذب على مشاهديه وهو يصيح كممثل فاشل ليؤكد لهم بأن القرآن قد تم إحراقه على يد القس إياه، وأنه يمتلك شريطا مصورا يثبت ذلك، لكنه يرفض بثه لأنه يخاف على الرجال من فتنة ما به من مشاهد بعض الأمريكيات الشبه عاريات.. فانطبق عليه المثال السائر "العذر أكبر من الزلة".

أبعد هذا، هل يحق لنا أن نتساءل كيف تنتج مشاعر الكراهية الجماعية المتبادلة بين البشر؟ ولماذا؟ لا وألف لا، لأن الجواب بين وواضح كالشمس، وقد بينت الدراسات التجريبية أنّها ليست متأصّلة في الشخصية أو في جوهر البنية العقلية والنفسية للإنسان، -رغم أنها جزء من الطبيعة البشرية-، بل هي بنية اجتماعيه وممارسة عاطفية من خلال مجموعة واسعة من الخطابات الوطنية، والدينية، والسياسيّة يعمد إليها المتطرفون الحاقدون لتأجيج الصراع بين مجموعتين تكافح كل منهما من أجل تحديد الحدود والهويات، ومن أجل خلق عدو وهمي يؤليبون الجماهير عليه ويطالبوهم بالخروج لمحاربته، كما أكد ذلك فرويد في مقولته:" إنّ الناس يصنعون العدوّ حينما يتبنّون المناورة والخداع النفسي بالإسقاط فيتصوّرون الفكرة وكأنّها حقيقة موضوعية" يستحيل معها عزل مشاعر الكراهية عن الخطاب الاجتماعي، كما جاء في درس وخطاب واعظنا المحترم الذي أهاب بشباب الأمة أن يستعدوا، وأن يستيقظوا، وأن يذودوا عن كرامتهم، فاليوم، كما قال، تفريغ القدس من سكانها، وحرق المصحف الشريف، وغدا هدم الأقصى، وبعد غد هدم الكعبة، أفيقوا أيها المسلمون... وغير ذلك كثير من عبارات الكراهية الجماعية، التي تنشأ، من فشل عملية التوسط بين التشابه والاختلاف، وتعنى كذلك الانغلاق والفصل العرقي والعزلة لأسباب نفسية نابعة من الأوضاع السياسية والاجتماعية غير السوية، ومن انعدام التواصل بين الجماعات، الذي يوسع الفجوة بين الأفكار والمعتقدات، والقيم الدينية، والمواقف الأخلاقية.

وفي الختام أريد أن أذكر أنني لست ضد السعي وراء الشهرة وحب الأضواء ولا أعتبره عيبا ولا ضررا -لأنه غريزة إنسانية- شريطة ألا يؤدي بصاحبه وبالمجتمع المحيط به إلى عواقب وخيمة، كأن تكون الشهرة ، على حساب القيم الدينية والمعايير الأخلاقية وكرامة الأشخاص، وتعرض الدول والمؤسسات للأذى بلا مبرر مقنع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى