الثلاثاء ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم حميد طولست

القانون وضع للآخرين فقط

الممارسات والسلوكات هي انعكاس لمجموع الأفكار التي يؤمن بها الأفراد والجماعات، والقناعات الفكرية التي يأخذون بها. والطريق هو أنسب مكان لاختبار وتحليل تلك السلوكات والممارسات، منحرفة كانت أم سوية، وأحسن ميدان لفهم العقلية المجتمعية وطريقة اشتغالها. ومن خلال استعمالنا لها نكتشف ما يعانيه مستعملوها من أمراض مزمنة-بدرجات متفاوتة طبعا- وعلى رأسها كلها، الأنانية وحب التسلط، التي من الطبيعي والعادي أن تصل إلى أعلى مستوياتها كلما عم الجهل والتخلف.
فنظرة ولو سطحية على الطرق المغربية، لاشك تفضح حجم الجهل المطلق بأهمية قوانين السير عليها، وقلة الوعي بقيمة تطبيقها الذي لا يزال غائباً، أو مغيبا، عن الأذهان التي تتهاون في أمره، وكما في الأمور الخطيرة الأخرى كلها.

وباستطلاع بسيط لمستعملي طرقنا، ينكشف لنا، بلا ريب، الوجه العدواني للسائق المغربي أيا كان، والذي بمجرد ما تتوقف أمامه سيارة أو تبطئ بسبب عطب أو لمجرد أن سائقها ظل الطريق وحاول التوقف للسؤال عن جهة يقصدها، حتى ينهال عليه زعيق المنبهات، وتشنف أذانه الشتائم والكلام الساقط ما يؤدي في كثير من الأحيان للتشابك بالأيدي، فكم من مشادة بدأت بشتيمة يطلقها أحد السائقين المتهورين، تطورت بدخول أحدهما المستشفى وجر الآخر للسجن.

وبمعاينة طفيفة لبرامج التحسيس والتوعية، تبرز العلاقة المتوترة بين قانون السير ومستعملي الطريق، التي تقوم على الخوف أكثر من الاحترام والامتثال، وتجعل من شرطي المرور في تصور السائق رقيبا مزعجا، يحول القانون، من وظيفته الأصلية المتمثلة في الحماية، إلى أداة للعقاب، لدرجة أن المخالف يفضل دفع "التدويرة" على أداء الغرامة القانونية، فيساهم في تكريس سلوك الخرق، وتغييب سلوك مواطنة. وواضحة بجلاء-على طرقاتنا- القدرة الفائقة للمغربي على الاستخفاف بغيره من السائقين والمشاة واحتقارهم، لاعتبار نفسه أنه الوحيد الذي يفهم في فنون السياقة وتقنياتها، وغيره مجرد رعاع أجلاف باعوا عجلا أو اثنين واشتروا رخصة سياقة ومعها "قزديرة" ونزلوا إلى الطرقات ليزاحموه .
فكم يتساءل الكثير، عن جدوى تطبيق قانون السير والنظام العام أمام ما يُرى وما يُرى ويُسمع في كل مكان وكل ناحية من وطننا العزيز، من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، من استهتار كامل، وتجاوز شامل، واستخفاف عام بالقوانين والنظم، حتى أصبحت مجردة من محتواها الحقيقي، وغدت وكأنها شيء كمالي ممكن الالتزام به حسب الرغبة والاجتهاد، فما جدوى الانتظار أمام إشارات ضوئية والآخرون يمرون عليها كالبرق دون توقف، وما فائدة احترام علامات المرور المحددة للسرعة وغيرك يمر أمامها مر الصاروخ، وهو مطمئن إلى الإفلات من تبعات المخالفة، ونقاط المراقبة التي قلما توقفه، لنوعية سيارته، أو شارة هيئة معينة ينتمي إليها ملصقة في زجاجها الأمامي، أو لهيئته وشكله، وحتى إذا حدث وأوقفوه فسرعان ما يخلون سبيله دون عقاب، لإشهاره بطاقة مهنية، أو فقط لذكر اسمه العائلي. وكم مرة تساءلت ولازلت أتساءل، كما يتساءل الكثيرون مثلي، عن ذاك الذي يتحمل مسؤولية هذا الانحدار الغريب نحو اللاقانون واللانظام، ونحو تعميق سلوكيات وعادات مجتمعية غاية في الخطورة على طبيعة وجودنا الحضاري. أهي الدولة باعتبارها الراعي الحقيقي للمجتمع والمسؤول الأول عن تسيير أموره؟ أم هو الفرد باعتباره مواطناً لديه حقوق يسعى لتحصيلها وواجبات عليه تأديتها وعلى رأسها الامتثال للأنظمة والقوانين واحترامها.

أم هي تلك المنظومة الفكرية والسلوكية الناتجة عن تأثر الطرفين ببعضهما البعض، والتي جاءت من إحساس الفرد بأن الدولة (المخزن) قد تخلت عن رعايته، وشعوره، أحياناً، أنها هي السبب المباشر في تعاسته وإفقاره وسحقه، فما يكون منه (الفرد) سوى التمرد على النظام والقانون والذوق العام الذي يظن انه ينتمي بشكل أو بآخر للمخزن، السلطة التي يمقتها ويعتبر أنها لا تستحق بالمقابل سوى الخروج عن قوانينها وأنظمتها حتى لو كانت تصب في صلب حياته اليومية. ومن الغريب أن نفس الشخص الذي تعود على خرق قوانين السير المغربية، لا يتجرأ على ذلك في البلدان الأخرى حين يسافر إليها وخاصة الأوروبية منها، فيحترمها بحذافرها بالرغم من كثافتها، وتعدد إشاراتها الضوئية الجانبية والأرضية والمعلقة الإلكترونية منها والعادية، وكثرة الطرق السيارة وتنوع مساراتها وتشعب مسالك وممرات شوارعها.

وفي ظل هذا الوضع المتردي للمرور في المغرب، وقلة احترام الناس لقوانينه والاستهتار به، وأمام استمرار حصاد الأرواح، تظهر الحاجة ملحة إلى بناء وعي اجتماعي يؤمن من خلاله الفرد بحكم القانون، وتتشكل عبره ثقافة اجتماعية تحترمه، بمقاربات جديدة، لا تقتصر على المعالجة التقنية التقليدية، تنصرف إلى تنمية ثقافة المواطنة، وتحريك الوازع الديني، لإخراج علاقة المواطن بالقانون من منطق الخوف والزجر والتحايل إلى نطاق الاحترام، فخرق القانون، مثله مثل الرشوة، ليس مرضا جينيا في الجسم المغربي، بقدر ما هو واحد من أعراض أزمة أخلاق تظهر على السلوكات والوجوه والمعاملة في مجتمع هو في حاجة كبيرة إلى تطبيق صارم وصادق للشريعة ليخرج من قسوته وجفائه في التعامل مع الطريق، وتوظيف النصح والإرشاد والتوجيه، في المساجد والجوامع والمدارس والمعاهد، - لما لها من مكانة كبيرة في نفوس المسلمين- حتى لا يشعر البعض بان إدارة السير هي العصا الغليظة، والمخالفات هي أسلوب جباية لا ردع، ولنرى مدى استجابة المواطن لهذا الأسلوب فإذا كتب له النجاح فستكون نقطة بداية لثقافة وتوعية مرورية وطنية نسعى إلى تحقيقها جميعا كل في موقعه.

ويبقى المطلوب من رجال الدين والشيوخ والفقهاء وخطباء الجمعة والمحدثين أن يقوموا بالدور المرجو منهم ويحرصوا في خطبه وأحاديثهم- لما تشكله من فعالية وتأثير في قناعات الناس واستجابتهم -على محاربة الفكر المنحرف، و محاربة ظاهرة خرق القوانين عامة، وقانون السير خاصة بتعميق ونشر وتعزيز الوعي المروري بالشكل الذي يؤثر ايجابياً على سلوك مستخدمي الطريق، وأن يعملوا فكرهم وتفكيرهم ويتفحصوا الكثافة التشريعية التي جاء بها الإسلام لتنظيم حياة الناس، وحفظ الإنسان في دينه، ونفسه، وعقله، ونسله، وماله.. ليخرجوا على المسلمين بفتاوى تحافظ على سلامتهم من مغبة ثقافة انتهاك القانون، وتجنبهم شرور العديد من عادات وتقاليد خرقه التي تفشت بيننا حتى شملت كل شيء، وكانت وراء هذه الخراب الخطير. وليذكروا الأمة بأن العمل بقانون السير، واجب ديني، وانتهاكه انتهاك لحرمة الشرع والناس، ويؤكدوا على أن احترامه من طاعة أولي الأمر، مصداقا لقوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" سورة النساء. و احتراما لمقاصد الشرع الذي لخصها الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه المستصفي، أن مقاصد الشرع خمسة: وهي أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة... وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها، يستحيل ألا تشمل عليها ملة من الملل أو شريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق".

ويمكن الاستدلال كذلك على خطورة الوضع بما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف: على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى:" ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. "وقوله سبحانه:" ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما "سورة آل عمران. وقوله جل وعلى:" ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا أليما" سورة النساء. وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة التي لم تخلو من تنبيه المسلمين وتوجيههم إلى كل ما يقيهم الشرور والموبقات حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "رواه البخاري.
فتدخل رجال الذين، لاشك سيقطع تخبط الأطراف المتورطة في هذه الحرب الخبيثة، ومحاولات بعضهم لإخفاء الحقائق، أو إغفالها، أو إسقاط كل طرف المسؤولية على الطرف الآخر، ولو بشكل غير مباشر. كما هو الحال مع وزارة النقل والتجهيز التي تحمل المسؤولية للعنصر البشري، وتتهم الأوضاع الميكانيكية للسيارات وتلوم سلوكيات الإنسان (السكر وفسادا لأخلاق). وحال الإنسان الذي يحمل المسؤولية لوزارة التجهيز وللطريق ونقص التجهيز وإهمال التشوير. بينما الحقيقة والواقع تؤكد على أن للطرفين معا نصيبا من الصحة وجزء من المسؤولية، ويبقى الجزء الأكبر منها للأخلاق المتدهورة وسوء التدبير الإداري، الذي لم تجد وزارة النقل والتجهيز، أمام كارتيتهما، بدا من الاعتراف ولو بشكل محتشم، بدور الأخلاق والتدبير الإداري، في الحد من حوادث السير، فأعدت مخططات استعجالية للسلامة الطرقية، وأحدثت أجهزة تابعة لها، تحت مسميات كثيرة منها "اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير"، مهمتها نشر الوعي والثقافة بالسلامة الطرقية، تحت شعار "لنغير جميعا سلوكنا". فهل تغير شيء مما تجدر من سلوكيات خطيرة في تصرفاتنا اليومية؟ وقد مضى على إحداث هذه اللجنان زمنا طويلا، منذ الوصلة التحسيسية الشهيرة، في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، التي كانت تظهر الممثلة ثريا جبران وهي تضرب فخذيها صائحة "أناري جابها في راسو"، إلى الملصقات التي تظهر الرؤوس تنفجر في الطرقات، والتي ما زالت إلى اليوم تتشظى "كالدلاح" بالآلاف، بما يطرح أسئلة محيرة حول معاداتنا الدائمة لقانون السير، والإصرار المقيت على قتل الذات والآخر، خاصة حينما نرى كيف يستميت كل سائق سيارة في تجاوز غيره من السائقين، وكيف يسترخص في ذلك حياته وحياة غيره، لكي يقف في الأخير أمام الضوء الأحمر مثله مثل الآخرين (هذا إذا وقف)، من هنا نفهم أن هذه الآفة أصبحت قاعدة وأسلوب حياة للكثيرين، وأن الإيثار والتسامح أصبح عملة نادرة جدا لا يتعامل بها سوى قلة قليلة، رغم أنه فضيلة ذكرها الله في كتابه الكريم: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة" وأنه خيار إنساني إرادي لا بد منه في تعامل الناس في كل أحوالهم الخاصة والعامة وبالتحديد على الطرقات لما فيه من التسامح والليونة والمرونة التي تدفع وتحت على احترام القانون، وهي أخلاقية حميدة لا يركن إليها السائقون عندنا، إلا من رحم ربي، لاعتقاد البعض، ظلماً، أنه ضعف واستسلام، فيفضلون عليه الاستئثار، تلك المسلكية الأنانية الجانحة للاستحواذية والفردية المسببة للفوضى وعرقلة انسيابية السير.

فإذا أرادت أية أمة أن تتقدم على مستوى حياتها ومعيشتها من الجوانب كافة، لابد من إعادة النظر في جوهر وأساليب وفلسفة التربية والتعليم فيها من أدنى مرحلة إلى أعلاها، ولابد أن تستفيد مما توصلت إليه الشعوب والبلدان من التقدم وما وصلت إليه من طرق تدريسهم وتعليمهم وتربيتهم أعطت أكلها، و مما أنتجه مبدعوها ونوابغها من سبل لاحترام القوانين عامة، وقانون السير خاصة. وبغض النظر عن النقد الذي يمكن أن نوجهه إلى الغرب، فهو ليس شرا كله، كما تروج بعض الجهات عن جهل. والمثال الغربي ينبغي أن يحتذى به لأنه سلوك راقي -يتمتع به جل الغربيين والذي نتمنى التشبع به في كل حين- والذي لاشك يعود عندهم إلى سيادة النظام والقانون، وإلى انتشار القيم الديموقراطية في مجتمعاتهم وترسخ جذورها في نظامهم التعليمي والسياسي حتى علا القانون على الأفراد والقبائل وجماعات المصالح وتغلغلت عناصره في كل شاردة وواردة من حياة المجتمع، وأصبح كل فرد يتمتع بحريته دون المساس بحريات الآخرين.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أقف احتراماً لكل جنود الخفاء، وأصفق طويلا للذين يبذلونه المجهودات الجبارة لضبط الطرقات المغربية ورعاية الأرواح البريئة من المتهورين الذين لا تتناسب ثقافتهم ووعيهم مع قيمة السيارة والطريق وحتى مدونة السير الجديدة،..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى