الثلاثاء ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم فتحي العابد

قرار صعب

إن قضية «قلعة بوسمْبرا» وعرة وعورة جبالها وغاباتها الكثيفة، هذه البقعة الصغيرة في قلب صقلية، التي استعصى على الحكومات الإيطالية المتعاقبة في سبعينيات وثماننيات القرن الماضي اجتثاث المافيا منها، تلك البقعة التي علمت أبنائها، بل كل أبناء صقلية معنى الحياة والحرية.. تلك الجبال المسماة: بجبال الخيل، والتي عرفت قديما بمقبرة المافيا.. رسمت في السنين الأخيرة البسمة والضياء على محيا سكانها..

سكان هذه المنطقة قليلي الكلام.. قليلي الضحك.. كثيري الفعال.. أصحاب أدب، وكرم..

فبعد معارك طويلة وصعبة وجدت الحكومة الإيطالية المنفذ للقضاء على المافيا في تلك الأماكن، الجاثم عليها الخوف والحزن من سنين.. ومات من رجالات الدولة في صقلية الكثير، ليقولوا لشباب بلدهم بأن التاريخ لا يكتبه الرجال بأعمارهم، بل بأفعالهم، فكم طاعن في السن مات ولم يعرفه أحد، وكم شاب أخذ الموت جسده وبقيت ذكراه في قلوب الملايين..

كان من بين أبناء هاته المنطقة شاب بقي إسمه على كل لسان.. تربى وترعرع في أحضان المافيا، لم يعرف طيلة شبابه دور للدولة في منطقته.. لكن شعور هذا الوطني المدعو "جيوفاني" بأنه فرد من الدولة، وتراكم صور البطولة لرجال خدموا الدولة عبر سنوات طويلة في ذهنه، وتوالت تلك البطولات تباعا لتغرس في نفسه مبدأ الإستعداد لخوض تجربة محاولة اختراق المافيا، وقبول نتائجها العكسية أحيانا، وتحمل تبعاتها، بل والرضى بأبشع ما يمكن أن تخلفه من مآسي.. جعلت منه رأس الحربة في التصدي لهذه المجموعة الإجرامية الإرهابية.. أو ما كانت تنعت به بأنها دولة داخل دولة.

إن إيمانه بحتمية العمل على إنهاء تلك العصابة، جعله لايتردد في الإنخراط، بل العمل داخلها، ليتعرف في ما بعد على خباياها.. حيث شعر عند تحمله تلك المهمة، بأنه يحمل العبئ الأكبر في القضاء عليها.. بل كانت بداية النهاية على يديه.. لقد قام بنفس الدور الذي بدأ يحاربه داخليا منذ نعومة أظافره.. فوجد نفسه مرغما جندي في تلك العصابة.. هو يعرف تمام المعرفة أنه يلعب بالنار.. لكن إيمانه بعدالة قضيته، وقوة انتمائه للدولة، ووجوب القضاء على الأشرار جعله لا يتردد في ذلك، ولا يهتم بالأخطار..

قال في معرض تأبين أحد رجاله من ضحايا تلك الفئة الظالمة: هؤلاء الرجال الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الوطن.. يستحقون أن يكون لهم عيد، ويستحقون التكريم والإحتفال بذكراهم.. ولعل مارجّح كفة قبولي لذلك التحدي الذي بدأته وأنا صغير، هو شجاعة ذلك الشاب الرومي المدعو «تيباريو سمبرونيو قراكّو» (١٣٣) ق. م. حين لمعت في مخيلتي تلك القصة المؤثرة.. قرأتها في إحدى العطل وأنا مازلت حدثا، والذي ضرب أروع مثل في التضحية من أجل وطنه والناس.. وكثيرا ما يدفع الأخيار ثمنا باهضا في صراعهم الأزلي مع الأشرار، وقد يصل هذا الثمن إلى التضحية بالحياة من أجل انتصار الحق والعدالة، والحفاظ على أمن واستقرار المجتمعات.. وهذا مافعله "تيباريو" بالرغم من مولده في أسرة أرستقراطية شهيرة، لكن هذا لم يسلمه لحياة الراحة وعيشة الترف.. بل ناضل من أجل الجمهورية.. حيث بدأ كفاحه بتقلد منصب نقيب العامة ليكون واحد من عشرة نقباء يختارهم الشعب الرومي كل عام ولهم حق النقض، فعمل تيباريو مع رفاقه في سبيل روما وتحقيق العدالة وإصلاح حال الجمهورية، من أجل كل مواطن رومي بسيط.. فوقف بشجاعة فى وجه مجلس الشيوخ، الذى استأثر أعضاءه بالمال والأرض، تاركين عامة الشعب يعاني الحرمان والفقر، فعمل على تمرير قوانين تقضي بتنازل الأشراف وأعضاء "السيناتو" عن معظم أراضيهم، وتوزيعها على الفلاحين والمعدمين من الروم والإيطاليين.. بل طالب بإنقاص مدة الخدمة العسكرية للفلاحين، وإلغاء استئثار الأشراف بأعمال المحلفين، وإعطاء حقوق المواطنة لكل سكان إيطاليا الأحرار..

فما كان من أعضاء السيناتو إلا أن أحرقوا بيته وأرضه لكن تيباريو كان مصمما على تغيير الوضع حتى انقض عليه الأعضاء وفتكوا به ضربا بالعصي في "الكامبيدوليو"، المقر البلدي في روما اليوم، وهو في الثلاثين من عمره..

قد كان قرارا صعبا.. قرار القتل.. أن تنهي حياة إنسان برصاصة أقل إيلاما من قتله بسكين.. شيء مفزع!! ذلك ما أجمع عليه السفاحون..

كانت الوصية الأولى في أول أيام عملي: أنت قاتل مبتديء، فلا تقتل بآلة تجعلك قريبا من الهدف. حاولت أن أفهم.. أخبرني الـمسؤول وهو ينفخ السيجار الكوبي المهرب ويلعن الدولة: تعبيرات الدهشة علي وجه الهدف وهو يموت.. تجعلك تتوحد معه وتظل تطاردك لحظة النهاية للهدف، وفي عالمنا لا مكان للعواطف، في الحرب يستعملون الطائرات والصواريخ حتي لا يرى الجندي وجوه القتلى ويتأثر، لكن نحن لسنا جنود، يجب أن نرى وجوه قتلانا، إنها طريقة سهلة وممتعة.. أردت أن أسأله عن مصدر الأسلحة الحديثة ووسائل القتل المتعددة هنا، من آلات حادة متنوعة إلى كلاشينكوف، وآر بي جي.. لكن نظراته الثاقبة جعلتني أتراجع.

اعتدل الـمسؤول في جلسته وتحدث بكلمات سريعة كطلقات الرصاص التي يسلي بها نفسه بإطلاقها على كل من لا ينفذ أوامره طبعا: سنهجم على البنك ونأخذ مدخراته، وبعد ذلك نفجره بمن فيه إنذارا للجميع.!

صمت قليلا ثم واصل حديثه بود غير معهود منه قائلا لي: عليك أن تكون مستعدا لإستخدام السلاح مع أي شخص يحاول ليّك عن طريقك.
تدربت أيام على كل أنواع القتل.. مجهود شاق بذلته وسط جبال وطبيعة قاسية.. وأناس لا تعرف الرحمة طريقا إلى قلوبها.. يكفي أن ينظر أحدهم إليك شزرا حتي تتحول لقطعة من الخشب..

قضيت أيام أتدرب، سبقتها أيام أخرى ليست بالقصيرة أراقب جيدا كل حركة وسكنة، والداخل والخارج من ذلك المجمع التجاري وأنا أبكي، ولا أفهم سبب بكائي.. هل هو الألم من كثرة التدريبات العنيفة.. أم وجه تلك الفتاة البريئة التي سأختطفها من أحضان أمها.. والتي سكنت ذاكرتي.. من زيارتي الإستطلاعية الأخيرة لذلك المجمع، ومراقبة تلك العائلة..

كان المجمع مكتظا بالبشر يوم أن أمروني باختطاف تلك الفتاة.. أغلبهم من النساء والصبيان إما للتسوق أو للتطلع على الجديد.. تذكرت الواجب الوطني الذي دفعني للدخول ومحاولة اختراقها، والإصطفاف خلف أولائك الذين يروجون للموت بشعارات مختلفة.. تمنيت لو لم أدخل ذلك المستنقع.. لو عدت إلي بيتي مستلقيا علي سريري أسمع "فاسكو روسي" وأحلم بحبيبة ليس لها وجود، بل ملكا متوجا على عرش أحلامي.. فكرت أن أهرب لكن ضميري يدفعني إلى البقاء والصبر.. اختطتفتها وسلمتها للمصير المجهول.. ولم يستطع أحد إيقافي رغم كثرة الحشود..
نادانى أحد رجالها بغلظة لما رأى مني من تفكير وهموم.. تمنيت لو بقرت بطنه وارتاح منه الخلق..

قابلني بابتسامة بعد ثلاثة أيام من اختطاف تلك البنت.. وقال لي: أنت الآن واحد منا رغم الفترة القصيرة التي قضيتها بيننا منذ انضمامك إلينا.. أنت "مافيوز إبن مافيوز".. رافقني إلى ذلك الجبل وفي مغارة أدخلني.. كانت رائحة الندى تسد الأنوف..

أعطاني السكين.. وقال إقطع أذن تلك الأنثى.. حتى نرسلها إلى أهلها.. ليدفع والدها بعد ذلك المبلغ الذي حددته العصابة.. نظرت إلي وجهها فإذا بها تلك الفتاة الصغيرة البريئة الوجه، عينيها زرقاوين، زائغتين بين السكين، وبين الـمسؤول المبتسم وكأنه يشاهد فيلم رعب.. إرتعشت السكين في يدي وأنا أقترب منها.. كبلني الفزع المرتسم على وجهها والدموع والعويل.. فقدت السيطرة علي يدي وسقط السكين.. أردت الهرب من أمامهم إلي الجبال، دارت في مخيلتي صورة ذلك الرجل الذي حاول الهرب، ورصاص رجالهم المنهمر نحوه وهم في أثره.. كأنها كلاب مسعورة تطارد فريستها في كل مكان.. ثم رموه كقطعة قماش من أعلى الجبل بعد أن قبضوا عليه.. وجدت أرجلي ثقيلة، وكأن هناك شيء يشدها من تحت.. أخذ أحدهم السكين ووضعها في يدي ثم قبض علي بقوة وقطع الأذن.. شعرت بقبض في معدتي سقطت على إثرها دون وعي..

مرت الأيام وتعودت.. بل لم تعد صور الأجساد التي تمر بنظري تباعا، والتي قتلتها تلك الفئة الظالمة بحق كل من رفض الإنصياع لها، يثير الخوف والفزع لدي..!!

فكان القرار صعبا حين قبلت التحدي الأول ألا وهو محاولة اختراق العصابة.. رغم ما يعرض حياتي وحياة عائلتي للموت المحتم في حال فشل العملية.. والتحدي الثاني هو في كيفية التأقلم ومسايرة التيار العنيف الذي لا يعرف رحمة داخلها.. جعلتني أصوغ على نفسي رؤية تحتاج إلى مساحة أكبر، ووقت أطول، وتدقيق كبير، وهي منطلقة من تفكير إستراتيجي..

وهذا التفكير الإستراتيجي أخفقت فيه الحكومات السابقة بسبب قلة الموارد البشرية، وهو أن مقابلة الزحف والإختراق لجهاز الدولة من طرف هاته العصابة يحتاج إلى منطق استراتيجي يحدد هل الدولة اخترقت بإرادتها أم استدرجت إليه.. ومن هو المضلل ومن هو المتأثر، ثم تعكف خطة الإحتواء على الوصول إلى نقاط اشتراك مع تلك الحالات المتعددة، وليس بالضرورة أن تتطابق مع موقف الحكومة الرسمي من تلك العصابة.. ولا مع القوى المتغلغلة داخل المجتمع التي تدعم ذلك المشروع التدميري.. فعرفت كيف أوجه هاته المدارات التي صنعتها تلك العصابة لصالح الدولة.

فرفع منظروا الدولة الإستراتجيين نظاراتهم.. ووسعوا أفقهم، فعملت الدولة على التقرب من سكان صقلية أكثر، وأن لا تستفز معقلها وقوى الحياد في المجتمع، بما ينهك علاقتها معهم، ويضعف موقف التضامن..

فتمكنت أجهزة الدولة مجتمعة بعد سنين.. ومن وراءها شخصي من الإلتفاف حول هذه العصابة، وإحكام الطوق عليها.. بل التقت الدولة مع قوى المجتمع الحية والرافضة لتلك العصابة، وتسليط الضوء على ما اقترفته من جرائم، ودورها في تقسيم المجتمع، حتى بين أفراد العائلة الواحدة أحيانا.. وتفجير حالات العنف.. مع التواجد الفعال في ساحات العمل الإجتماعي، وتسخير القوة الإعلامية للهجوم عليها.. بل استنزافها وخسارتها..

لقد ساهمت في القبض على رأس العصابة.. وبعدها بدأت تتوالى الإعترافات.. وتتساقط قيادتها كما يتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف..

مات جيوفاني بعبوة ناسفة وضعت له على حافة الطريق بعد خروجه من تلك القاعة، قبل أن يقص الذراع الأخيرة من ذلك الأخطبوط.. الذي بدأ على العمل في اصطياده وهو شاب، مطمئن، بأنه فتح الباب على مصراعيه للقضاء عليها..

مات دفاعا عن وطنه، ونظافة بيئته، وكرامة شعبه.. مذكرا كل الذين يحسبون كل صيحة عليهم، بأن الوطن أكبر من تشغيب عصابة، وأكثر من شبك مزرعة، وأكثر نضجا من قتل أبرياء على طبق بيتسا.. كثير الدهون ويملك خدمة التوصيل حتى خارج الحدود..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى