الأربعاء ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم محمد أبو عبيد

أفكارٌ معلَّبة

تتشابه الأفكار في عالَمنا العربي مع المواد الغذائية في زمننا الحاضر في أمريْن، أولهما في التعليب، حيث كما يقَّدم لنا الغذاء جاهز التحضير ونبتاعه مُعلَباً، فكذا الأفكار يُزَجُ بها إلى أدمغتنا مُعدّة سلفاً، ممنوع علينا أن نسبر غوْرها، أو نتأمل فيها. والأمر الثاني أن كثير الغذاء المعلّب نستهلكه، وقليله ننتجه في أحسن الأحوال، وتلْكم الأفكار نرثها ممن سبقونا استهلاكا ً، فتكون علينا أحياناً هلاكاً .

أما الاختلاف فهو أنّ تعليب الغذاء بالكاد يتجاوز عمراستخدامه بضعة عقود، فيما تعليب الأفكار عندنا يناهز عمره قروناً... وأخيراً لدينا ما هزمْنا الغربَ به، وهو الذي انتصر علينا علْميا وعمليا في الحاضر.

قد تفوق الأمثلة على ذلك ما تيسّر من ورق ، مسببة طوفاناً من الكلمات عليها، حيث إن الدماغ العربي أفضل ثلاجة لتخزين الأفكار المعلبة التي يمكن أن تدوم عقوداً وقروناً.

المفارقة أننا نسْعد لابتكار أية طبخة طازجة، بينما إذا حاول الإنسان العربي الإعداد لفكرة متحررة من معلّبات ، أو مخلّفات، الماضي، انقض الناس عليه وانفضوا من حوله، حينها لن تفتأ الرثيئة غضبهم .

إنّ كلمة "حرام" من أكثر الكلمات شيوعاً على الألْسُن المسْلمة ، فهي أيضاً مثل منتج معلب ، ورثها الكثير منا عمّن سبقنا، أو تعلمناها ممن كانوا ،مجازاً، معلِمين مجازين، فصار هذا الكثير يجزم "بالحرام" من دون الإتيان بالدليل الشرعي القطعي عليه، خصوصاً أن الحلال بيّنٌ والحرام بيّن، فحين يرُدّ مصغ ٍ إلى مردِد لكلمة "حرام" مطالباً بالدليل، عجز المردد وقال : غاب عن ذهني الدليل، لكن سأتيك به لاحقاً ، علماً أنه لا دليل على ما يقول ، فلو لم تكن تلك المفردة مثل منتج معلب في ثلاجات الأدمغة العربية لعرف الدليل قبل أن ينبس بمفردة "الحرام" .

لذلك نسجنا حول أنفسنا دائرة مهولة من "الحرام" حتى خُيِّلَ للمرء المشرقي أنّ الأصل في الأشياء التحريم ما لم يرد بتحليله نص صريح ،عِلماً أن العكس هو الصحيح .

لعل أحد أسباب شيوع تلك المفردة هو أن المشرقيين خلطوا حابل العيب والعادات بنابل الممنوع شرعاً ،فما هو عيب وفقاً لردح زمني مضى، أو ما هو مخالف لتقاليد فئة من الناس، صار حراماً يسري مفعوله في كل زمن .

من هنا يرى المرء الكثير ،ممن يؤمنون بالحرام الذي ليس حراماً، لم يكلفوا أنفسهم قليلَ جهد للبحث في مسألة صحة الأمور، فلا سبب لذلك سوى أننا مستهلكون للأفكار المعلّبة .

الأمر عينه ليس في حِلٍ من مسألة العيب ، حيث يعتنق كثيرنا أموراً مستعابة ، وما معيبوها إلا بشَرٌ هم مَنْ فصّلوا أحكام العيب على مقاس زمانهم ومكانهم ، مثل عيب ظهور المرأة مع زوجها أو شبك يدها بيده . هذا العيب -إذنْ- وصل إلى بعض الأدمغة المسلمة كمنتَج معلب من دون شرح مقاديره .

ليس غريباً على كثيرنا أن تكون أدمغتهم ثلاجات للأفكار المعلّبة، ما داموا يؤمنون بالغول والأشباح في زمن التنوير والانفتاح، وما داموا يصدّقون أن مصيبة ستحل بهم إذا أحجموا عن إرسال "ايميل" لعشرة أشخاص يحوي دعاءً أوْ صلاة على النبيّ .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى