الاثنين ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

الآلة الكاتِبة

أقولُها بصراحة: كان وما زال ذلك الرجل يُرهِبني... ليس بجسدِه المِقْبَري، أو عيْنيه الحِربائيتيْن؛ أو بطريقته الاستفزازية في الكلام؛ وإنّما بسبب تلك الآلة الجهنمية التي كانت بحوزته.

وأنا الآن، ومن على الكرسيّ الدرّاج... وفي ظِلِّ شمس التقاعد الباردة؛ ما زلتُ أتحاشى التفكيرَ فيه لأنّني، ما إن أفتح لذاكرتي باب الاستذكار، حتى تهْجُم عليّ آلتُه المُرعبة؛ بطقطقاتها التي تحفر في الجسدِ والروحِ دُروبَ الهمِّ والقلق.

أتذكّر لمّا دخل إلى مكتبي أوّل مرّة وقال من خلال عينيه الخارجتين:

 الأستاذ (س.س) ... خرّيج كليّة الرباط، ومناضل.

لم أعرف ساعتَها كيف أردُّ عليه. قمعتُ أفكاري خوفا من اصطدامٍ بَدْئيٍ لا ضرورةَ له، وقلتُ له على مضض:

 مرحباً بك!

وكان ردُّه:

 قبل الترحيب بأيّ شخص غريب، لا بدَّ أن نتعرّف عليه أوّلا، وأنتَ لم تعرفني بعد...
فقاطعتُه في نفسي قائلا :(أهلا وسهلا بالمشاكل).

ولكنْ، هيهات أن تكون المشاكل التي توقّعتها من ذلك الأستاذ من النوع العادي.
أنا وحدي أعرف...لِعشرين سنة وأنا أعاني من "أبو آلَة"؛ معانات لا يفهم عمقَها سوى شخص عاش تحت وطأة الإرهاب.

في البدء، شرع بتجميع المدرسين والمدرّسات، وخطب فيهم خِطاباً نابياً لم يستثنِ لا المدير، ولا أيّة سلطة تعليمية. جميع هذه السلطات مسؤولة - في نظره - مسؤولية مُباشِرة عن تردّي أوضاع التعليم والمتعلّمين والمعلّمين.

ولستُ أدري، لحدِّ كتابتي لهذه السطور، كيف استطاع أن يحشد حوله جميع المدرسين بما فيهم أتْباعي؛ بل جمع أيضا التلاميذ الكبار، والأعوان، وحارس الدرّاجات، إلى قضيته. واستطاع أن يجعلهم يوقِّعون على شكاية نَسَخ منها الكثير، وأرسلها إلى جمعية أمّهات وآباء التلاميذ، والنيابة، والوزارة، وديوان المظالم، ومنظمة حقوق الإنسان، ومنظمة اليونسكو، بخصوص سوء حال المراحيض بمؤسستي.

وبعدها، جعلهم يوقّعون على شكايات أخرى، موضوعاتها: غياب النقل المدرسي، رداءة الطباشير، غياب الصحّة المدرسية، وجوبُ إعادة طلاء جدران المؤسسة وقاعاتها، غيابُ الأنشطة الأدبية والفنية... والغريب أنّه أقنعهم بالتوقيع على شكاية ضدَّ المُدمنين على الغياب منهم، والمُقصِّرين في عملهم.

ثم انتقل إلى تنظيم الوقفات الاحتجاجية والإضرابات.

كل ذلك، بفعل آلته الجهنمية التي يستمدُّ منها (على ما أظنُّ) قوّتَه وعدوانيتَه.

وهذا ما جلب لي العديد من زيارات التفتيش، سواء من نيابة التعليم، أو أكاديميته، أو الوزارة نفسِها. وكأنني المسئولُ الأولُ والأخير عن جميعِ مشاكل التعليم.

كانت تجربتي مع "أبو آلة" مريرة لحدّ أنني أصِبْتُ بداءِ السكري الذي ذهب ببصري، وداءِ ارتفاع ضغط الدم الذي أقعدني في نهاية حياتي المهنية. الأمر الذي دفعني إلى اتّخاذِ قرار جرّيئ... أجل! بعد سنوات العذاب معه، قرّرتُ أن أسأله:

 أيها الأستاذ المحترم، هل بإمكانك أن تريني تلك الآلة؟

- طبعاً، فأنا صريحٌ وشفّافٌ.

في اليوم التالي، جاءني بآلة كاتبة مُرعبة بلونها الحديدي الصدئ، وبملامسها التي كأرجل حشرة (أبّا الحاجّ) المخيفة... كانتْ تلك الآلة مثل وحش صغير يمكن له أن يفرم لحمك وروحك وعقلك لمّا تتحرّك أرجلُه العديدة... آلة ذكّرتني بجهاز التعذيب في رواية "الإقامة الإصلاحية" لِ"كافكا".

قلتُ في نفسي ساعتَها:(العدُوُّ الذي لا يمكن لك أن تهزِمَه، اشتريه!)؛ فتصنّعتُ ما استطعتُ من حسن (النيّة) وقلتُ له بقلبٍ يرتجف:

 هل تبيعني إيّاها؟

فكان ردُّه (كما هو متوقّع):

 هذه الآلة ليست للبيع.

ففكرتُ بإغرائه:

 سأعطيك المبلغ الذي تطلبه.

 قلت لك هذه الآلة ليست للبيع.

 سأعطيك مليون سنتيم.

ذلك سنة كان (المليون سنتيم) يشتري سيارة صغيرة. فكان ردّه:

 لا!

ولمّا سألته:

 هل لأنها عتيقة، أو نادرة؟ هل لأنها إرثٌ عائلي ولها قيمة عاطفية بالنسبة لك؟...
قال:

 ليس لتعلّقي بهذه الآلة أيُّ سبب من الأسباب التي ذكرتَ...لقد اشتريتُها من محلِّ بيع الخرداوات بثمن بخس، ولكنّها رافقتني طوال حياتي الجامعية... كتبتُ بها دروسي، وشكاواي، وتظلُّماتي، وأشعاري ورسائلي الإدارية والغرامية، وخواطري الحميمة...وباختصار، صارت هذه الآلة (أنا) وبالتالي، لا يمكن لي أن أبيعَك نفسي.

آنذاك تمنّيتُ له الموت. ولكنّه لم يمتْ. بل أنا الذي صار مقعداً على كرسي الموت. أمّا هو، فلا يزال يكتب البيانات، والبلاغات، والتقارير، والدعوات إلى الاجتماعات النقابية، وعرائض التضامن...

شعرُه ابيضّ، وفَقَدَ الكثيرَ منه، وعيناه ازدادتا جحوظاً، لكنّ آلتَه ما زالت سوداء تنشر الرعب في قلوب المُدراء، والنّواب، والمُفَتِّشين، وغيرهم. وأنا -الآن- على مشارف (المغادرة غير الطوعية) لهذه الحياة، لا أزال أراها في كوابيسي، مثل حشرة ضخمة تُمزّق لحمي بأرجلِها الشائكة، فأصرخ؛ ولا أحد يسمعني.

والحق يُقال: ما زلتُ أدعو عليه بالموت... هو وآلته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى