الاثنين ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم نازك ضمرة

جن داري

يومها أسحب كتاباً عن الرف: " مصاطب الآلهة" لجنداري (لمحمود جنداري لمن لا يعرفون) ينظر الناس والمارة لي باستغراب، في (داندردي)، سمه مقهى، ملجأ لجلي الهموم، وإن أردته مطعماً، أو لشراب خمر لذة، فالوقت بعد الظهر وقبل العصر، نظارات القراءة على عيني، أنفرد بطاولة صغيرة في منتصف الصالة، لم أجد مكاناً في أحدى الزوايا، وهل للمكان زوايا؟ جميع جدرانه من الزجاج، فإن لم يتأمل الرواد الداخلون ما تقرأ، فسيراك المارون والحالمون، وحتى الحائمون خارج جدران المكان الزجاجية، ربما بفضول الحيارى واليائسين، أو لاستكشاف بؤرة جديدة للهو، باحثين مهدّ فين يرقبون، كله فتنة تشبه الخيال داخل المكان، يتشاورون، يشيرون ويؤشرون، الأنثى بداية أي موضوع في الداخل أوفي الخارج، يحددون مكاناً لجلوسهم -إن وجد -داخل المكان، والمتع هنا وفيرة للشباب والمنفقين والمنافقين بلا حدود، والمراهقين العابثين المجربين واليائسين والمضللين والخانع والموعود، والمخلصين الصادقين والماكرين، جنداري يتوسط المائدة الصغيرة، ثاني اثنين يتململ إذ هما في داندردي، لا يدري من أين يبدأ على استحياء، أو كأن قميصه... للأسف كهل، شيئ حاضر غائب أنت يا جنداري، والوحيد يحاول أن يبدو كهلاً، زادت سنه عن الستين، والتفنن في الجنون تراث أصيل هاهنا، رصّوا الرفوف بقوارير من كل لون وشكل، أو من عسجد حسبتها لؤلؤاً مصفوفا، وقلائد تتماوج، تتدلى أو تتأرجح على أطباق الصدورالشهية المكشوفة، تطوق أعناق حسان وأرسغهن، وحتى كواحل الطويلات منهن، أتسرب وأتداخل في أعماق الأعين الحالمة، تشاهد كؤوساً تحتضنها الأيدي الحاكمة، قال أحد العارفين الخبراء، أو الخبثاء، لا توجد في الدنيا امرأة غير جميلة، المهم أن تحسن اللبس والعرض، وجنداري يتمنى أن يقول، ذوات الخمسينيات أدق وآنق في الاستعراض، والرحيق الحلو في الأزهار الطوال يجذب النحل من أميال، لا عليك يا إبن جنداري، فأغلب المستطلعين فراش يبحث عن نيران متوهجة، أطياف ملائكة تقمصت بشراً، وأي بشر؟ وبجميع الأشكال والألوان في كل متر في المكان، صرت مهيأً للشراب والطعام والهيام، وفنون نادرة وموسيقى وصخب حولك ومن كل اتجاه، لا تدري أي تقرّ عيناك.

أبسط كتاب المصاطب على منضدتي الصغيرة، تحت شهاب ساطع، كل شيء مدروس، الأنوار حالمة تحملك إلى ما تريد وما لا تريد، أحاول التآلف مع كتابي العربي الذي أقرأ والموسيقى الغربية التي أسمع، وكأس شرابي الشامخ يسمو متعالياً في شموخ الواثق من نفسه، تتداخل السيمفونية بالأشياء المتحركة أمامك وتتكامل حولك وخلفك، تنبت لك عين من كل اتجاه، أحلم وأنا أحلم، يحاول جنداري اختطافي لهذيانه، لكنني لم أنشغل عن الفضوليين المستطلعين والكارهين، حيرني جنداري واسم المكان، يشارك جنداري أنامل ترسم صدراً أشعله رمان مرصوص، ولماذا داندر دي سمّوه، تعبير صعب على اللفظ على الأقل لمثلي، يريد العاشقون أشياء لا نفهمها- داندردي– زادني حيرة وانشغالا مع نبش جنداري في المنخور، مساطب الآلهة وداندردي حصتي من عذاب هذا اليوم، التقيت "محمود جنداري" مرتين، إحداهما في بغداد، والأخرى في عمان، كلتاهما كانتا على عجل، لم نتحدث طويلا، ولم نطرق أي موضوع محدد، لقاءا تعارف أو للسلام عبوراً، لقاء بغداد كان بناء على طلبي، ولا أذكر من كان يقف معي في تلك اللحظات، وربما القاص حنون مجيد، أو هو حسب الله يحي، أتقمص الكهولة العفيّة، لكن الشيخوخة تغلب، طلبت من رفيقي أن يقدمني لجنداري للتعرف والتعارف، أشار له ولفت انتباهه، تقدمنا، تلاقينا، تصافحنا، تعارفنا، وافترقنا بعد دقائق خمس، أدار بعدها إحدى الحلقات النقدية في مربد ذلك العام، ربما كان لديه الكثير ليقوله، ومساطب الآلهة تعزز فكرتي وأنا هنا في داندردي، أتعبتني مساطبه، وأي آلهة تلك التي تحز رقابنا أو تطوقها؟ حتى في داندردي، وفي أعصابنا وصدورنا وعقولنا وكل ما نملك، وقت كلينا كان محدودا في خريف عام أربعة وتسعين من القرن الماضي، قص النسيان الكثير من أحلامنا أيامها.

«مصاطب الآلهة» جهد مضغوط لإبداع مقصود، أراد القاص جنداري أن يتحدانا بتفرده، يأمل أن لا يلحق الخراب ببيته وحتى ببيئته، يجمع ويفرق، يجرب ويخرّب، يبتكر ويتفرد، يتمادى فتضيع آثاره في النكهة المشعة من الكؤوس المتعالية حولنا ومما أسفل منها، تلك المتميزة، يبتلع شفتيها أو هوغوص بلا خوف، وركب الأربعة متداخلة، أريد أن أواصل المشوار مع مساطبك يا جنداري، لكن يد ه وأصابعها وعينيّ، وكأسهما الشفاف المفرغ، أسقنيها بأبي أنت وأمي، أصبحت يا جندار همي، لا يتقن كل طباخ تركيب مواده ومزجها، ولا نضمن إطفاء الحرائق في الوقت الصحيح.

محمود جنداري يبلور ثقافته المتمحورة، كاد يحاصرني كما حصر نفسه في بوتقة، العراق وبعض مواطن العرب ومن سكن قبلهم أو بعدهم – تسكع وحب وحرب وأحلام مرعبة وخراب، يتمنى أن لا يسكن أحد غريب بعدهم ولا حتى معهم- العصفور (زو) يرفرف قرب أذنيّ، وفي داندردي يجلب معه كل العصافير بجمالها وهيبتها وجنونها و كأسي الفارعة مفرغة، هرج ومرج في الداخل وفي الخارج، حولي وأمامي وفوقي وربما تحتي، نسيم يحملني إلى كل اتجاه، وكؤوس مارقة وأمواه، الطائر زو العجيب مايزال يحلق بأجنحة قوية، أوصلني دهاليز القصر العربي وبيوتاً حوله، هوى على الأسطح، يرقب ساحات الإماتة، نشاهد ما يجري بوضوح واستيعاب، أشهد على كل حدث تطرق له. تنبثق لي أجنحة ترفرف لكنها ضعيفة، لا يروقني التحليق في مجالاته، ليتني لم أصحبه، أراد أن يفجرنا من دواخلنا، أن يجعلنا أسطورة جديدة قديمة، يعيد الخلق بتشكيل غامض وبخطوط خاصة، صعبة طرقه ومساربه، والحياة عليّ أقسى ما تكون في سجني معه اليوم في داندردي.

يفرش بسطا، يستحضر أطيافاً، يبني طرقاً، يجمع أقواماً من كل الألوان، يحاول أن يخلق لنفسه أرضية جديدة ولنا، ينسجها ويطرزها مع ثرثرات الجدات، و بغموض الأساطير المحيرة، حكايات نادرة عصية على كل إنسان، والأسى على الزمن المهدور، مرارة مجيدة ‍مجيّرة، تفنن يائس في غير فائدة، أشرد من عوالمه محاولاً، لا أقوى على مقاومة التبجح في جمال مسفوح، لم يسعفني الصبر على الجمود، أشير للنادل بكأس أخرى، وأسرح، أتحدى جنداري متسائلاً مستنكراً: أعطني دواء عربيا قديما ما زال ناجحا؟ اللهم إلا الكيّ بالنار، لكنه حارق مؤلم، وغير مضمون الفائدة، أنظر لشيخي وملهمي، لا أرى شبرا في جسده إلا وبه كيّ من نار، لم يشف من ألم عينه، ولا سلمت مفاصله وركبتاه ورقبته، كلها تيبست وتعطلت، و كلما نصحه أحد بنار أشدّ حتى يرتاح من آلام قادها، تيبّس لعشرين عاما قبل رحيله، وتعطلت لغة الكلام.

شهورعشر على اغترابي في أمريكا، لم أقرأ فيها شفعاً ولا وتراً من الصفحات بالعربية، حملت معي من الكتب والروايات والشعر والقصة بالعربية ما يكفيني عاما إن كنت نشيطاً، أو أعواماً طوالاً إن بقي حالي كالأمس، قرأت كل ما وقعت عليه يدي بالأنجليزية، شدتني محطات التلفاز والأنترنت، هدرت من الزمن ساعات وساعات حتى التخمة أوالاضمحلال بحثاً عن صديق حقيقي أو صديقة، أحسست فقراً وجوعا وبالملل، أنسيت نفسي وخيبتي، لكنني لم أنس أن أتمنى العودة لعمان.

ولجت مصاطب الآلهةاليوم، وألفيت نفسي أتجول في دهاليزها، أزداد لهفة لشرب المزيد، لا لتجلو الهمّ عني، ولا بد من سماع ما يحدث حولي في (داندردي). رنين السكاكين يزداد حدة، والملاعق والشوك أشواك تدمع عيني، (الديسبوزابلز) والبلاستيك تعلو وتنزل بين الأفواه والأطباق، تستقر على المناضد، أو تملأ الحاويات السود، روائح الطعام الزائد الزكي توقظني من أحلامي، تثير شهيتي لكل شيء كغيري ومن غيري وللطعام، وبدرجة أقوى بكثير من طبائخ جنداري، الجوع كفر، وأي زاد أريد، يتزايد عدد الواردين والآكلين، والماصين والشاربين، والضامّين والمردفين والحاضنين، هل الجنداري في جحيم مكان ما؟ مثلي ياترى؟ ولقلة دراهمي صحوت، وتحت تأثير شدّ الأمراس تجمدت، أحمل معي بطاقة الشراء الآجل، طلبت أكثر من حاجتي، أصنـاف من أطعـمة لم أتذوقها من قبــل حتى ولم أسمع بها، مررّت حلقي المصاطب، أحقد على كل الآلهة بدءاً من أبولو وفينوس ورع وعشتار وحتى أهرومزدا وانتهاء بالذقون المسترسلة في توحش، هكذا هو الحال هناك، ما دمت تقضي حاجتك بالدين فلتكن حتى التخمة ( أو... هو الجوع يا سيدي ....ولماذا تجوع؟) فعلت مثلهم، أينما قرأت عن نوع جديد من الطعام اقصده، وإن افتتح مطعم جديد ارحل إليه وإن نأى، كرهت مؤونة جنداري يومها، لا تسمن ولا تغني من جوع، لم أتعرف على أي واحد منهم ولا واحدة، وماذا أكثر من مفردة (غريب)، وجوه جديدة كلها، وأين من شاهدتهم حين دخلت؟ ساعتان مرتا أو أربعة آلاف عام؟ راحوا كلهم، لكنهم الشيء نفسه، وأنا شيء إذن …

لا للراحة ولا للسكون، جري وحركة دائبة.. وبقسوة، حتى لو فوق طاقة الجسد، عربي يحب النوم والارتخاء، حتى جلجامش لم يغرق بحب أنثى بهية نقية، تعلم من مومس وبحث عن السهل المألوف، ما عدا استجلابه لصاحبه ربما...، أحب أن أنتظر والانتظار طبعي، وإن غداً لناظره قريب، وبقيت مثل السيف بعد موت الفارس... أو مثل سكينة بلاستك بنية أو سوداء أو صفراء، كتلك التي بين يدى ذاك العجوز، وجاء للمكان غيرهم أكثر، لم يطل تعارفنا يا جنداري، يخرج ثلاثة من داندردي و يدخل أربعة جدد، بعد أن جهز النادل مكانا لهم، ضحكت الطويلة ويده حول خصرها، تكاد أزرار قميصها القصير المشدود على جسدها أن تتقطع، محشوٌ بها كأنها بلا لباس، تشغلني موجة صدور مكورة جديدة وفي أيام صعبة، وما يقلقني أن ذاك يقصرعمر القمصان، أويزيد من مبيعاتها، يغيب الكهل والشيخ والعجوز، وتنطوي المساطب، تضعف مقاومة الفتيان، فإما أن ينفقوا ما في الجيب أو تقرصهم آلام الحرمان، يرقبني النادل، يود أن يسأل عما أقرؤه لو كان لديه وقت، مصاطب – مصائب ‍ال ‍‍‍‍‍‍.. "مصاطب الآلهة"، مصائب بخصوصيتها، سمها قصصا إذا شئت، و "جنداري" قاص والكل يشهد، لكنه نزف الكثير في مصاطب الآلهة، فيقطع أنفاسك، وقد يوقف أعضاءك المهمة هنا في داندردي، لا للتفكر ولا للتحليل إن كنت تريد، حتى لوكانت لديك العدة والاستعداد، نزف وعزف؟ أشاهد روح أبي فراس الحمداني تناجي روح أبي جندر، أسمعه شاكياً (أقول وقد ناحت بقربي حمامة) تعبت من الإثنين فوقع نظري على فتاة ترتدي بنطالا ضيقاً قصيراً مشدوداً ملتصقاً، فقلت مكملاً (أياجارتا هل تشعرين بحالي)، لكنني وقبل آقفاله أوراقه، أعترف أنه حقن فيّ الكثير من المرارات، جرّعني هموما لا أقوى على لحسها، أرفع رأسي فألمح شابا آخر وسيما يتأخر عن زوجته أو صديقته قبل دخول الباب، تتمطى بنظرات ملونة ملعونة، تتسلط العيون المشرئبة على قوامها المشدود، لا تستر الملابس الصيفية الخفيفة أكثر من ثلثه، يدخن من سيجارته مرتين قبل دخول المكان، احتراما للنظام والمرتادين، ثم يلقي بالسيجارة في منفضة خاصة أمام باب المحل من الخارج، نحيف آخر يقترب مني يسترق النظر ويتأمل كتابي، كاد يحنى رأسه لولا أن رفعت رأسي مستفزاً، استغرب كيف أكتب من اليمين لليسار، وبحروف غيرلا تينيه، شعر رأسه أكثر حمرة من شفاه رفيقته، شقراء ترص كيانها به، تميل رأسها على كتفه، تطوق وسطه بذراعها وتجذبه (مالك وما يدور في كل العالم، أنا العالم فهيا نجد لنا مكاناً نكمل حلمنا فيه) يسيران ببطء وبملوكية، كأنه يدفع بها أو هي التي تسنده أو تدفعه، ضحكتها تعلو في مرح وفي استمتاع حين لف يده حول مؤخرتها، طرق براحة يده هناك، متعة وتحبب لهنّ، تراث أصيل هناك، اهتاجت فالتصقت به أكثر، وأنا ألملم بقية أوراقي ومسوداتي، ثدياها يندفعان في عناد وهو يعصر كفيه، لا أنكر أنني شهدت جنداري يموت لحظتها، أرصد الفضاء المناسب للتحليق، أنشغل بمساعدة النادل في ترتيب أطباق الطعام أمامي، ازدهرت الشجرة اليانعة في الركن القريب مني، حرة وفضاؤها شاسع، نكهة الطعام أمامي شهية جداً، آكل في عماء وغباء، كدت أشرق أثناء ابتلاع اللقمة الأولى، عيناي شاركتا أعين الكثيرين حيث انغرست في سرتها التي برزت للخارج أكثر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى