الأربعاء ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم لطفي زغلول

التراث.. بين الماضي والحاضر

يحتفل الفلسطينيون هذه الأيام بالتراث الفلسطيني الذي يقيمون على شرفه فعاليات متعددة مختلفة. ونحن في هذا الصدد نرغب في قراءة مستفيضة للتراث باعتبار أن هذا التراث هو جزء لا يتجزأ من الثقافة السائدة، ويدخل في تكوينها.

لدى طرح موضوع الثقافة على بساط البحث فلا بد لنا أن نتناول المركبين الأساسيين لهذه الثقافة واللذين يمثلهما التراث بصفته المركب التاريخي أو ما يسمى بالجذور أو الأصول. والمركب الثاني وهو كل ما ينضوي تحت الإحداثات المعاصرة المتشكلة كمحصلة للمتغيرات التي شملت كافة نواحي الحياة وبخاصة تلك التي تخص كل جماعة إنسانية في معزل عن الأخرى من ناحية، وعبر قنوات اتصالها مع الآخرين من ناحية أخرى.

ويهمنا هنا الإحداثات غير المادية. ومما لا شك فيه أن دراسة ثقافة أية جماعة إنسانية من خلال مركب واحد مما أسلفنا هو بمثابة خروج على منطق الأشياء وجادة الصواب، إذ لا بد من الجمع بينهما.

في حديثنا هنا سوف نتناول المركب الأول للثقافة ونعني به التراث. والكلمة لغويا مشثقة من الإرث، أو ما تركته الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة. والتراث ونقصد به هنا الشعبي بطبيعته يحمل صفات التراكمية والشمولية والجماعية، وتنتفي عنه أية صفة فردية. إن مصطلح التراث يكاد يكون مرادفا للتاريخ إن لم يكن هو الجزء الأهم منه، أو أنه هو الروح النابضة لهذا التاريخ والتي بدونها يصبح مجرد أحداث عبثية.

وكلا التاريخ والتراث يتحدان معا ليشكلا جذور أية جماعة إنسانية، ويفسران بالتالي سلوكات هذه الجماعة في شتى الإتجاهات، ويلقيان مزيدا من الضوء على منظومة اهتماماتها ونظرتها للأشياء وعلاقاتها الإنسانية الداخلية في ما بين أبنائها من جهة، والخارجية مع الآخرين من جهة أخرى، مضافا إلى كل ذلك مدى انفتاحها وانغلاقها وتشددها وتساهلها في قبول الآخر أو رفضه، وتمسكها بعندياتها. وكل هذه الأساسيات تصب في النهاية في بوتقة تحديد شخصيتها الإنسانية الإجتماعية السياسية الثقافية، وتفرز وتبرز معا شكل هويتها الإنتمائية ومدى تمسكها وحفاظها عليه.

ثمة مبررات كثيرة تدفع أية جماعة إنسانية للتنقيب عن تراثها والكشف عن كنوز إبداعاته، وإعادة إضاءة فضاءات تاريخها التي حجبتها غيوم بعد المسافات الزمنية بين الحاضر والماضي، إضافة الى تراكمات شجون الحياة المعاصرة وأشجانها.
في اعتقادنا أن أول هذه الإعتبارات يتعلق بتجسيد الهوية الوطنية الإنتمائية إلى الوطن والتاريخ والجماعة الإنسانية نفسها والحفاظ عليها في وجه التيارات الثقافية المعاصرة التي تتهدد ثقافات الشعوب النامية بابتلاعها أو تشويهها أو التعتيم عليها، أو إفقادها العناصر الحية فيها، وبالتالي برمجة هذه الشعوب على أنها مجرد أعداد بشرية مجردة من العطاء والإبداع والتفكير وإبداء الرأي بهدف فرض ثقافة التقليد والتلقي والإستهلاك عليها.

وثاني هذه المبررات يخص الإعتزاز القومي والثقة بالنفس، ذلك أن التاريخ والتراث هما اللذان يمنحان أية جماعة أنسانية عراقتها وأصالتها وعمق تجربتها وغناها، وبالتالي اتساع مساحتها الزمانية المكانية.

هذا المبرر بحد ذاته من الأهمية بمكان كونه يشكل عاملا رئيسا في خلق الشعور الوطني بمعنى التمسك بالوطن والحفاظ عليه والتضحية من أجله. وثالث هذه المبررات أن التراث بحد ذاته ثروة اقتصادية يمكن استغلالها في مجالات وفعاليات معاصرة "في الهندسة المعمارية والبناء والأثاث واللباس والسياحة والأدوات والإبداعات الفنية الأخرى" إضافة إلى كونه يشكل العنصر الأساسي لكثير من المهرجانات السياحية والفنية.

في حديثنا عن التراث أيضا لا بد لنا أن نأخذ كثيرا من الإعتبارات بعين الإهتمام. إن التراث ليس مجرد مخلفات مادية أيا كانت، أو أساليب حياتية أو تقاليد أو قوالب فنية أو ملابس. إنه أعمق من ذلك بكثير، فهو روح الجماعة الإنسانية والطاقة المحركة والدافع إلى الإنطلاق والتطور والحفاظ على الهوية والإنتماء والتمسك بالوطن. إن الإهتمام به يتعدى كونه مادة ترفيهية سياحية لدعم الإقتصاد السياحي من خلال مهرجانات موسمية وسنوية تقام هنا أو هناك.

كما أننا من منظور تربوي لا نستطيع أن ندرس أبناءنا التاريخ دون التراث. إن التاريخ يكون وعاء مفرغا دونه، ذلك أنه يمنح هذا التاريخ حيوية وطعما ولونا ومذاقا وشكلا. ثم إننا نفترض أن لا يعزل التراث في متاحف خاصة به وأن يغلق عليه إلى حين المناسبات التي أشرنا إليها سابقا.

فالتراث يشكل جزءا من الحياة اليومية أيضا ويتدخل ويتداخل في مساراتها ويغذيها بطاقة الإستمرارية والتواصل. كما أنه ليس بالضرورة الوقوف عند أشكاله القديمة وحرفية تقليدها، فهناك دائما إمكانيات للتطوير والحذف والإضافة والتطعيم والتلوين.
ليس هذا يعني أن تكون حياتنا نمطا تراثيا ذلك أنه من المستحيل إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وإنما ثمة إمكانية معقولة لحياة معاصرة ملونة بالتراث. وثمة اعتبار آخر يخص علاقة التراث المحلي الإقليمي لكل قطر عربي أو إسلامي. إذ لا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يطغى التراث المحلي على التراث الشامل ونقصد به العربي الإسلامي الذي يفترض أن يكون هناك توازن بينهما.

إن التركيز على العناصر المحلية الإقليمية في التراث يمكن أن تحمل معها مخاطر التقوقع الإقليمي، ويفترض بنا أننا نسعى من خلال التراث أن نضيف عاملا آخر موحدا لا مفرقا. إن إحياء التراث والحفاظ عليه ومأسسته "إيجاد مؤسسات له" بحاجة إلى دراسات وتخطيط وإعداد طواقم إدارية وفنية وأهم من ذلك تخصيص ميزانيات له، وإلا كان كل مجهود في هذا الصدد حرثا في البحر.

ولعل أخير هذه الإعتبارات لا آخرها كون التراث في غفلة عن أصحابه الشرعيين، أو نتيجة عدم اكتراث واهتمام به أو انشغال عنه في حيثيات الحياة المعاصرة وبهارجها يتعرض إلى السلب والنهب والسرقة من قبل آخرين ينسبونه ألى أنفسهم كما تعرض جزء كبير ونفيس من التراث الفلسطيني.

إن الحديث عن التراث لا ينتهي عند هذه المقدمة العامة، فنحن في العالم العربي والعالم الإسلامي لدينا كنوز ثمينة من التراث الذي شمل كافة الحياة الإنسانية، والذي كان نتاج تمازج دقيق ومتوازن بين العوامل الروحانية التي تمثلها العقيدة وبين الإبداعات المادية الأخرى، والتي يمكن أن يخصص لها بحوث ودراسات مستفيضة.

لكننا هنا نود أن نختم هذه العجالة عن التراث بكلمة عن التراث الشعبي الفلسطيني، وهو جزء لا يتجزأ من التراث العربي له طابعه المميز. ن هذا التراث غني وشامل ومرتبط بالأرض التي منحت الإنسان الفلسطيني هوية انتماء لها منذ القدم، وهو جدير بإحيائه والحفاظ عليه على طريق الإنبعاث على خارطة الوجود الإنساني، كونه ذاكرة الشعب الفلسطيني، وكون فلسطين ليست مجرد مساحة جغرافية في خارطة العالمين العربي والإسلامي.

إنها مساحة شاسعة من تاريخ عربي إسلامي مجيد، وهي بأقصاها المبارك، وصخرتها المشرفة، وقدسها الشريف، مسرى الرسول الكريم ومعراجه، جزء لا يتجزأ من عقيدة سمحة، يدين بها ما ينوف عن المليار مسلم.

وبالتالي فان مسؤوليات كل الجهات الثقافية تتعدى مجرد الإحتفاء به في يوم واحد إلى إيجاد مؤسسات راعية ومطورة له في إطار كوادر علمية وفنية وميزانيات مخصصة. كما أن اخطر مسؤولية تقع على المناهج التربوية في كل المراحل التعليمية، إذ لا بد أن تكون هناك مناهج للتراث جنبا إلى جنب مع مناهج التاريخين الفلسطيني والعربي. وبهذا الصدد فان دور الإعلام أساسي في إبراز التراث ونشره وحتى تسويقه ثقافيا.
كلمة أخيرة، إن الصراع على التراث والتاريخ في منطقتنا لا يقل أهمية عن الصراع على الأرض والماديات الأخرى بل هو جزء لا يتجزأ منها. والتراث الفلسطيني يستحق منا نحن أحفاد مبدعيه أن نحافظ عليه، وأن نعيد له بهاءه ورونقه على طريق التواصل الذي هو مدخل الإنتماء إلى الإنسان والأرض الوطن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى