السبت ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم ناهض زقوت

الحرية والإبداع .. شرط أم ضرورة

يتحقق توازن الإنسان في المجتمع، إذا توفرت له بالضرورة ثلاثة أبعاد، تتمثل في:
ـ الحرية: ينشد الناس جميعا، حيثما كانوا، الحرية، ليمارسوا اختياراتهم التي في وسعهم أن يصلوا إليها.

ـ الكرامة الشخصية: مطلب أساسي للناس أن يمارسوا هويتهم كما يعيشونها، وهذا ما يطلق عليه عادة "الحاجة إلى الكرامة الشخصية".

ـ تأكيد الأمل: مطلب أساسي للناس كذلك، أن يتوفر لهم قدر من الثقة أو اليقين من أن المجتمع الذي ينتمون إليه يحمل لهم درجة معقولة من الأمل بان طموحاتهم سوف تتحقق.

وقد خلص عالم النفس الأمريكي "هادلي كانتريل" في دراسة نشرها لبحث حضاري مقارن أجراه في أربعة عشر بلدا من بلدان العالم، أن الإنسان ينزع بطبعه إلى طلب الحرية، في أن يحقق ذاته كما يعيشها، ويتوقع من مجتمعه أن يتيح له ذلك.
حينما نسأل شخصا ما، هل أنت حر؟ تلقائيا سوف يجيب، نعم أنا حر، هكذا بشكل مطلق. ولكن هل هذه الحرية تسمح لهذا الشخص أن يفعل ما يشاء، دون رقيب أو حسيب، هل حريته تسمح له بالاعتداء على حرية الآخرين، أو تجريح الآخرين لأنه يمتلك الحرية الفردية. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدولة، لان الأفراد جزء من الدولة.

معوقات الحرية الإبداعية:

إن الحرية بالمفهوم المطلق لا وجود لها إلا في الذهن، أما في الواقع فلا توجد إلا حريات نسبية. إذ للحرية حدود تقف عند حرية الآخرين، فكما أنت تعتبر نفسك حرا، دع للآخرين حريتهم ولا تعتدي عليها تحت مسمى أنت حر. مثلا هل يحق لك التصنت على مكالمات الآخرين لأنك تملك الحرية في استخدام التقنيات الحديثة؟، هل يحق لك بيع أسرار بلدك للعدو، لأنك فرد حر؟. إن الحرية هنا تحكمها قوانين الدولة التي تنظم العلاقة بين الفرد والمجتمع أو بين الفرد والدولة.

هذا الطرح يحيلنا إلى الديمقراطية وعلاقتها بالحرية، أن مفهوم الديمقراطية لابد من تحليله على محورين، أحدهما محور علاقة الحاكم بالمحكوم، أو السلطة بالمواطن. والثاني محور العلاقة علاقة المواطن بالآخرين من أفراد المجتمع، سوف نجد أن المحور الأول تحكمه علاقات تدور حول مفهوم "الحرية في مقابل القهر"، بينما المحور الثاني تحكمه تفاعلات تدور حول مفهوم "التراضي في مقابل التناحر".

منذ القدم تعددت الأنظمة الشمولية التي عرفتها البشرية وتنوعت عبر الزمان والمكان، لكن تظل هناك عناصر ثابتة تتكرر في كل تجربة استبدادية، وتكون الثقافة والإبداع أولى ضحاياها. أهم هذه العناصر تأليه الحاكم ليصبح من حقه وحده اتخاذ كافة القرارات، مستند في حكمه على أعمدة راسخة من مؤسسات عسكرية واقتصادية ودينية، وتشكل الإدارة الحكومية والشرطة ووسائل الإعلام أدوات ممارسته للسلطة، لذا تسيطر الصحف الرسمية على وسائل الإعلام من أجل السيطرة على الرأي العام وتحويله إلى طفل يحتاج لمن يرعاه ويقرر له مصيره وحياته، وبما أن الحاكم يعرف مصلحة شعبه أفضل من الشعب نفسه، يمارس سلطته الأبوية عليه، وهنا لابد من إسكات الأصوات المثيرة للفوضى التي تخرج عن الخط الرسمي بفرض مجموعة من القوانين المقيدة للحريات، وخاصة حرية الرأي والتعبير، فيواجه المبدع الاتهامات، أو يسقط تحت أقدام الحاكم.

وبهذا نكتشف أن مشكلة الحرية تتمثل لنا في أشد صورها مأساوية حين تشير إلى علاقة سلبية بين الكاتب والسلطة الحاكمة. ويعد كتاب "كليلة ودمنة" أول كتاب يمثل علاقة الصراع بين الكاتب والحاكم.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تقمع السلطة وأدواتها حرية الكاتب؟ هل السلطة التي تملك وسائل الإعلام، وأدوات القمع الشديدة، تخاف من كاتب كتب مقالة أو نشر رواية أو قصة؟.

إن عمل السلطة يتمثل في إعادة بناء الواقع/ المجتمع وفق نظام معرفي خاص، من خلال آليات ضابطة تكتسب عادة صفات الصواب والمعقولية، وهي صفات تعمل بدورها على توفير نوع من المعيارية التي تحدد نطاق المقبول واللامقبول ومجالات المسموح به والممنوع، وغالبا ما توظف هذه الآليات بطريقة لا واعية لأنها تصبح، مع مرور الوقت، جزءا لا يتجزأ من إنتاج الخطاب السلطوي، كما أنها تشكل حصيلة تاريخ طويل من عمليات التطويع والتطبيع الفكري التي توافرت على ترسيخها المؤسسات التعليمية والتربوية والإرشادية والوعظية، بما أتيح لها من تقنيات بالغة الفعالية وقنوات اتصال تزداد تطورا يوما بعد يوم.

وبناء على هذا المنطق، نرى بان السلطة، أية سلطة، تسعى لفرض أيديولوجيتها على أفراد المجتمع، أي تعمل على ثبات النظم الاجتماعية، لذلك ترفض كل رأي يخالف أيديولوجيتها وفكرها السائد، وبما أن الكتاب والمفكرين يسعون إلى تغيير النظم الاجتماعية الراسخة، يأتي خوفها منهم فتقمع حريتهم خوفا من أن تغري كتاباتهم الناس بالتمرد على ما تلزمهم إياه من قيود بالضرورة، لهذا تنظر إلى الكاتب/ المبدع دائما بعين الريبة والخشية. وقد تعرض العديد من الكتاب والمفكرين للاعتقال والتعذيب بسبب أفكارهم وآرائهم المخالفة للنظام الحاكم. مثلا الدولة السعودية ترفض وتقاوم أي انتقاد للمذهب الوهابي، لأنه يمثل ثقافة الدولة التي تبثها للناس، وهذه الثقافة هي التي تحرم المرأة مثلا من الحصول على رخصة قيادة سيارة.

إن العلاقة بين الكاتب والسلطة، ليست دائما في حالة سلبية، لهذا يشير علماء علم الاجتماع إلى ثلاثة مستويات من العلاقة بينهما:

ـ الكاتب الموالي للسلطة، هذا هو أحد أبواقها ومدافع عن أيديولوجيتها.

ـ الكاتب المتمرد على السلطة، وهذا دائما نزيل المعتقلات ومغضوب عليه.

ـ الكاتب القابع في برج عالي، هذا معتزل المجتمع وهارب من المواجهة.

بالإضافة إلى ذلك، نذكر بأنه ليست دائما السلطة الرسمية هي القامعة للكتاب والمفكرين، والإبداع بوجه عام، بل ثمة مراكز عديدة في المجتمع سواء أكانت تابعة للسلطة أو تمثل مركز قوة في المجتمع تبدي دورها أيضا في قمع حرية الكاتب. نجد مثلا:

ـ في عام 1926 عندما نشر الدكتور طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي)، تعرض للتحقيق حول ما جاء في كتابه. لم تأت المبادرة أصلا في شان التحقيق من قبل السلطة التنفيذية، ولكنها جاءت من قبل أفراد من المواطنين، هم الذين قاموا بإبلاغ النيابة العامة لمساءلة الكاتب.

ـ وفي عام 1992 تم اغتيال الكاتب والمفكر فرج فودة على أيدي قوى ظلامية، اختلفت معه حول أفكاره وآرائه بعد مناظرة شهيرة في معرض الكتاب، فتم تكفيره. والمفارقة العجيبة أن الذي قتله لم يقرأ أي كتاب له، والأخطر انه لا يعرف القراءة والكتابة كما جاء في محضر المحاكمة.

ـ وفي عام 1995 تعرض الكاتب والروائي الكبير نجيب محفوظ لمحاولة الاغتيال بسكين بيد ظلامية، بعد فتوى بتكفيره لأنه كتب رواية (أولاد حارتنا) في عام 1950.
ـ وفي منتصف التسعينات تعرض د. نصر حامد أبو زيد لحكم الردة من قبل هيئة أزهرية لاختلافهم مع كتاباته الفكرية.

ـ وفي عام 2010 تقدم عدد من المحامين المصريين ببلاغ للنائب العام ضد الهيئة العامة لقصور الثقافة بسبب نشرها كتاب (ألف ليلة وليلة) بدعوى انه يخدش الحياء العام.

وإذا نظرنا إلى الإبداع، نجد أن الإبداع لا يعني استقلال الذات عن مشكلات المجتمع، بل الإبداع هو الخوض في مشكلات المجتمع بالتحليل والتفسير والنقد، وإيجاد الحلول المناسبة. فالإبداع هو رسالة اجتماعية، سواء أكانت هذه الرسالة متمثلة في تعديل البنية المعنوية للمجتمع، كما في حالة الإبداع الأدبي والفني، أم كانت متمثلة في تغيير وجه الحياة المادية للمجتمع، كما هو الحال في الإبداع العلمي والتكنولوجي.
وحينما نتحدث عن الإبداع، نتحدث عن الحرية، فالحرية شرط للإبداع، كما أن الإبداع شرط لكي تصبح أفعالنا ذات طابع حر. هل يستطيع المبدع أن يبدع أو يخترع العالم في أجواء قمعية؟. إن العلاقة بين الإبداع والحرية تعبر عن نفسها في تجاوز صورة الحياة السائدة التي تكرسها أدوات الاتصال في المجتمع. ورغم تلك العلاقة الشرطية، فالإبداع من أجل الحرية ليس هو التلقائية والعفوية، وإنما يقوم الوعي والثقافة بدور خلاق في تقديم مقاصد المبدع، ورؤيته تجاه قضايا المجتمع وتحديد فكرة المصير لهذا المجتمع، مما تجعلان المبدع يتجاوز ذاته الضيقة ليعبر عن مجتمعه، ويستشرف صورا جديدة في التفكير والسلوك والحياة، أي يصبح لديه القدرة على التغيير.

أساسيات الحرية الإبداعية:

أولا: المخالفة:

إن الصورة الأولى للحرية التي اقترنت بها في التاريخ، هي الحرية بالمفهوم السياسي، حين استشعر الإنسان أن النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تحد من إبداعه. لو رجعنا إلى القرون الوسطى في الفكر الغربي، لوجدنا أن الحرية الإبداعية كانت نتيجة للمطالبة بالتحرر من سلطة الدولة والكنيسة، ذلك أن الدولة والكنيسة تدخلتا بشكل مباشر في كل مظهر من مظاهر الحياة، في العقيدة، وفي السلوك اليومي على حد سواء، وامتد نفوذهما إلى العلم والفن وأشكالهما المختلفة. ووصل الأمر إلى قتل المخالفين أو سجنهم من العلماء والمفكرين لسلطة الدولة والكنيسة.
ـ في النصف الثاني من القرن السادس عشر، كان "كوبرنيكس" يرى أن الأرض لا يمكن أن تكون مركز الكون، وهو الأمر الذي كان يعتبر حينئذ من بديهيات علم الفلك الكنسي، لكن العالم "كوبرنيكس" استمسك برأيه المخالف بأن الشمس هي مركز الكون.

ـ في بداية القرن السابع عشر، لم يكن "يوهانس كبلر" سعيدا بالتصور السائد بين المحيطين به جميعا، من أن مدارات الكواكب في المجموعة الشمسية مدارات دائرية، وظل متشبثا بمخالفته، حتى توصل إلى حقيقة أن المدارات بيضاوية.

ـ وفي نفس القرن، طرح "جاليليو" أن الأرض هي التي تدور حول محورها، مخالفا بذلك آراء كل من حوله الذين كانوا يرون بأن الكون هو الذي يدور حول الأرض في حين الأرض ثابتة لا تتحرك.

إن جريمة هؤلاء وغيرهم تمت محاكمتهم لأنهم خالفوا الكنيسة في توجهاتها العلمية، وتمسكوا بوجهة نظرهم المخالفة، وحاولوا تحقيق ذاتهم المبنية على هذه المخالفة لما حققوه علميا بخطأ الرأي السائد.

وفي مجال الإبداع، لا يقل تاريخ الإبداع في الآداب والفنون واقعية وفاعلية في تشكيل حاضر الشعوب ومستقبلها عن المنجزات العلمية، فقد تطورت تلك الإبداعات الشعرية والروائية والقصصية والمسرحية والفنون التشكيلية وفنون السينما من مواقع المخالفة لما هو سائد، وإلا فكيف نفسر مثلا:

ـ ما فعله محمود سامي البارودي بتمييز شعره عن أشعار الأقدمين. وكيف نفهم ما فعله احمد شوقي حين تميز بشعره عن البارودي. وكيف نصف الجديد الذي جاءت به مدرسة ابولو الشعرية. وبماذا نصف الانجاز الشعري الذي قدمه أصحاب الشعر الحديث حينما خالفوا عامود الشعر. وماذا نقول عن ادونيس وانسي الحاج حينما نسفوا عامود الشعر بقصيدة النثر.

كل هؤلاء خالفوا ما هو سائد لكي يطوروا من أدواتهم الإبداعية. والدرس الذي يفرض نفسه على عقولنا هو أن جميع حالات الإبداع في جميع المستويات، إنما تبدأ بالاختلاف، ويتقدم الحدث بأصحابها نحو دعم هذا الاختلاف، وفي طريق هذا الدعم يتم تشغيل الأبعاد الأخرى للإبداع كالمرونة والأصالة وطلاقة الأفكار.

ثانيا: نقد المجتمع:

إن الحديث عن المجتمع هو حديث عن الحرية، ولكن بشكل أخر، فوجود الظواهر المتناقضة أو الظواهر الراسخة من عادات وتقاليد، تستدعي وجود صراع وحراك فكري بين الأجيال قائم على التغيير، وهذا الأمر يجعل الكتابة المتحررة تشتق عناصرها وأدواتها من واقع الصراع مع ما هو مختلف عليه، مما يدفع إلى طرح كتابة جديدة تبدأ بنقد المجتمع وأدواته وظواهره المعيقة لتطوره أو تغييره. إذا نظرنا إلى المجتمع الروسي قبل الثورة البلشفية في عام 1917، نجد أن الإبداعات الثقافية كانت أكثر ملامسة ونقدا للواقع الاجتماعي، ورواية (الأم) لـ "مكسيم غوركي" مثالا لما نطرحه. أما "تورجنيف" عندما نشر روايته (آباء وأبناء) في عام 1862، تعرض للهجوم ليس فقط من قبل مؤيدي الملكية بسبب ممالأته للثوريين الفوضويين، إنما أيضا من قبل اليسار، الجيل الشاب نفسه الذي كان (بازاروف) الشخصية الروائية الرئيسة نموذجه ومثله الأعلى، كما لامه الراديكاليون والليبراليون الذين كان تورجنيف ينتمي إليهم، لأنه قدم بطله بكل الأخطاء والتناقضات التي رآها في مجتمعه وفي نمطه وفي ذاته، فقد كان هدف تورجنيف إيقاظ الطبقات المتعلمة من شرور النظام السياسي القائم على العبيد.

أما بعد الثورة لم نجد إبداعا حقيقيا بل إبداعا ارتبط بالثورة وأيديولوجيتها، فسقط الإبداع في مستنقع الزيف وتجميل الواقع، لذلك عندما كتب "بوريس باسترناك" رواية (د.زيفاجو) طاردته السلطة ومنعته من الحصول على جائزة نوبل، لأنه انتقد واقع الثورة وخالف الأيقونات السائدة للإبداع.

وفي القرن التاسع عشر، وأثناء فترة حكم نابليون الثالث وهي من أكثر الفترات استبدادية عاشتها فرنسا، تعرض العديد من الكتاب والمبدعين للاعتقال والملاحقة، فقد منع ديوان (أزهار الشر) لبودلير، وتمت مصادرة لوحة (الاوليمبيا) لادوار مانيه بسبب جرأتها وحسيتها الفائقة. وفي هذه الفترة تعرضت رواية (مدام بوفاري) للروائي جوستاف فولبير، للمحاكمة بسبب خدشها للحياء العام وانتهاك المقدسات، كما جاء في لائحة الاتهام. أما الحقيقة فان الرواية انتقدت الطبقة البورجوازية السائدة وانتقدت أفعالها وممارساتها.

أما في العالم العربي، فالحرية الممنوحة للإبداع لا تكفي كاتب واحد، كما قال الكاتب الكبير يوسف إدريس. لقد تم في السنوات الأخيرة مصادرة العديد من الكتب والأعمال الأدبية، منها: كتاب "الحسبة بين القران والتقاليد" لـ د. احمد صبحي منصور، و"رب الزمان" لـ سيد القمني، و"من هنا نبدأ" لـ خالد محمد خالد، و"حقيقة الحجاب وحجية الحديث" لـ المستشار سعيد العشماوي. وروايتي إبراهيم عيسى "مقتل الرجل الكبير، والعراة"، وديوان حسن طلب "آية جيم". وفي السعودية تم مصادرة رواية "القارورة" للروائي السعودي يوسف المحيميد، ورواية "بنات الرياض" للروائية السعودية رجاء الصانع . هذه نماذج فقط ، أما عدد الكتب المصادرة أو المحظورة بأوامر من أفراد أو هيئات دينية كبيرة جدا. فقد رصدت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عدد المؤلفات التي تم مصادرتها في معرض الكتاب السابع والثلاثين بالقاهرة عام 2005، والتي وصلت إلى نحو أربعين كتابا، ما بين كتب أدبية وفلسفية ودينية وسياسية.
إن ممارسات هؤلاء تعني أن الكاتب عليه أن يتذكر دائما وجودهم كالسيف المسلط على رقبته، عليه أن يراجع كل كلمة بل كل حرف مما يكتب، عليه أن يراعي التقاليد والأخلاق، عليه أن يراعي مكانة الشخصيات، عليه أن يراعي النظم الاجتماعية، عليه أن يحذر من تقديم سلبيات المجتمع، عليه أن يرسم الحياة الزاهية في ظل النظام. في مثل هذه الأجواء هل يمكن للكاتب أن ينتج إبداعا متميزا، هل يستطيع العالم أن يخترع أو يكتشف علاجا؟.

والسؤال الكبير وعلامة استفهام اكبر، لماذا تهاجر العقول العربية إلى خارج أوطانها وتنتج إبداعا على كل المستويات يحقق جوائز؟ الإجابة بكل اختصار لأنهم يجدوا الحرية التي يفتقدونها في بلدانهم.

وقد حدد الروائي الجزائري "رشيد ميموني" في روايته (النهر المحول) مهام وزير الثقافة في العالم العربي، كالتالي:

ـ سوف أمارس سياسة الإرهاب الثقافي بدون كلل.

ـ سأبدأ بدفع مرتبات مغرية لجيش من المراقبين يتميزون بالميكافيلية والمراوغة، سيكلفون بالكشف عن المثقفين من كل نوع، وستعرض على أولئك ثلاثة خيارات: الارتداد، أو السكوت، أو المنفى.

ـ سأمنع التاريخ وسألغي هذه المادة الخطيرة من الدراسات الجامعية.
ـ سأحد تدريجيا من عدد الجرائد إلى أن تبقى جريدة واحدة فقط، قد تقرأ أو لا تقرأ، لكنها ستلزم بتكرار ما تردده قبلها إذاعة محاطة باستمرار بالدبابات، تذيع بكل ثقة نبأ انتشار سماء زرقاء في كل أرجاء الوطن.

ـ سأوصد مداخل غرف آلات الإرسال الخاصة بوكالات الأنباء الأجنبية.
ـ سوف أنسى استيراد الكتب وساترك الممثلين والسينمائيين ورجال المسرح عاطلين.

ـ سأصب اللعنة على جميع الكتاب الذين ينشرون أعمالهم في الخارج، وسأضيع مخطوطات الذين يسعون لنشر كتبهم داخل البلاد".

إن الحرية ليست ظاهرة، أو واقعة، أو حالة، بل هي فعل مكتسب يعبر عن نفسه من خلال الصراع التركيبي القائم بين المبدع وأدواته الإبداعية من ناحية، ومجتمعه من ناحية أخرى. فالحرية الإنسانية رغم شرطها للإبداع، تقوم على المعرفة والثقافة، لان الجهل لا ينتج حرية، فالمبدع الذي يجهل تاريخ أمته ليس حرا بل عبدا لمن يزرع في ذهنه تاريخ أمته. والحرية الإبداعية لكي تتحقق تمر بمرحلة من الصراع والتناقض حتى تصل إلى مرحلة الوجود الضروري التي فيها يصبح اختيارها لذاتها مجرد تعبير زمني عن حقيقتها الأزلية، فكرة الوعي بالمصير.

هل يمكن أن يرى الكتاب والمفكرون في العالم العربي عصرا تعتز فيه الدولة بالكاتب أو المفكر، لأنها ترى فيه الحارس الأمين على تراث الأمة وعلى شعلة الحرية وشعلة المثل العليا؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى