الأربعاء ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠

الشاعر أبو طالب على جناحي القصيدة

راتب سكر

تعد قصيدة "يسألونك عن سبأ " [1] لإبراهيم أبو طالب عطافة لافتة في خط تجربته الشعرية من جهة ومؤشراً جديراً بالتأمل ضمن التجربة الشعرية لشعراء جيله في الأدب اليمني المعاصر من جهة أخرى. وإذا كان الإعلان عن تاريخ كتابة النص في خاتمته يدخل في بنائه الفني دخولا ذا دلالات نفسية وفكرية وتعبيرية فإنه يتأكد في هذا النص بوظيفته الفنية غير القابلة للجـدل، فعبـارة: " مايو 1999م" ترنُّ بصدى مقطع شعري غائب، لا بد من ارتسام خطوطه على المتبقي من بياض الورق بُعَيد الانتهاء من قراءة سبعة المقاطع التي تكون النص، بل لعله من المفيد أن تبدأ القراءة من هذا المقطع الشعري الغائب، وبذلك يُقترح على مؤلفه أن يضع الإعلان عن تاريخ كتابة نصه في مطلعه بدلا من خاتمته، وهو اقتراح جدير بالتأمل لدى كل مشروع في الكتابة الإبداعية، ولاسيما الكتابة المعنية بالشجون الاجتماعية والوطنية، وهي شجون عُني بها الشعر في اليمن عنايةً خاصة فقام – على حد تعبير الناقد المعروف د. عز الدين إسماعيل –: "بدور حيوي مؤثر في إيقاظ المشاعر الجماهيرية " [2]

تشير عبارة " مايو 1999م " إلى تاريخ كتابة الشاعر لنصه إشارة ظاهرة، وتحمل تحت بردتها إشارات ملونة إلى معانٍ غائبة يعرفها الشاعر وقارئه معاً معرفة ثرية بالإيحاء والدلالة، لا بد من استحضارها لتشييد الجسور المناسبة بين القراءة ومغازي نصها، فالتاريخ هو الذكرى التاسعة للعيد الوطني للجمهورية اليمنية، ذكرى قيام عهد الوحدة، وانتهاء مرحلة التشطير، وبذلك ينفتح المعنى على بُعدٍ وطني مناسب لاحتضان النص في معادلاته الفنية المرتبطة بالتراث ارتباطاً ذا قدرة على توليد الصور والرموز وتوظيفها في التعبير الجمالي عن رؤية الشاعر وما يسكنه من انفعال وجداني منبثق عن التماهي بين الذات والوطن، وهو التماهي الذي أسس غنائية ذات طوابع جديدة في الشعر العربي المعاصر منذ مطلع القرن العشرين.

يعتمد البناء الفني لنص إبراهيم أبو طالب على التوزيع المقطعي، فالقارئ أمام سبعة مقاطع، فصل الشاعرُ بين كلٍّ منها وتاليه بدوائر ثلاث، وهو خيار من الخيارات الشكلية المتعددة السائدة في القصائد المقطعية التي استبدلت وحدة المقطع بوحدة البيت استبدالاً يحاكي جانباً من جوانب البناء الفني للموشحات الأندلسية من دون المضي معها في التزام توزيعها الصارم للأقسام: الأسطر، والقوافي، هذه الطريقة المقطعية في انقسام النص إلى سبع وحدات، سمحت للشاعر بتوزيع ألوان ريشته لترسم صوراً للوحات فنية تعادل رؤيته وانفعاله غير أن التوزيع المذكور في منطلق الرسم وغايته يبقى مشدوداً بخيوط فنية وفكرية إلى الوحدة العضوية للنص، ومن أبرز تلك الخيوط وضوحاً في نسيج البناء الفني خيطان:

أ – الصراع "الدرامي" بين الظلمة والنور في ثنائية تنقل ساحة تقابلها من مقطع إلى مقطع محققةً شكلاً إيقاعياً مرتبطاً بحركة ارتسام الصور وألوانها من جهة وحركة تلقيها من جهة أخرى، يتوزع قطبا الثنائية المذكورة في المقطع الأول بين السطرين الأول والرابع، بينما تتناغم خمسة الأسطر المتبقية من المقطع عزفاً على أوتارها مع ملاحظة حال الفقد والغياب في معاضدتها ظلمة "ليل المهالك" بتراكيب فعلية تؤكدها اختفاءً وتوارياً، فالفعلان: "غار، وغاصت " بدلالتهما المعجمية المحمولتين على الموكب الغامض لحرف "الغين" يوحيان بظفر الظلمة على النور في تقابلها الذي يبقى في آخر المقطع آملاً بمستقبل واحد إذ يقول الشاعر:

"إذا جَنَّ ليلُ المهالك
أو عسعستْ في الدماء الجراح
وخيَّم في كلِّ ضلعٍ حجر
وغار مع الإثم ضوءُ الصباح
وغاصت خطى القوم في عرصات الذهول
وما عاد في الأرض أيُّ اتجاه
فقد حان وقت اليمن"

إن انتصار جنون الليل على ضوء الصباح ينتهي إلى إعلان نفير خاص يسلم القارئ إلى المقطع الثاني الذي يبدأ طقس الولادة من الموت، فينطلق من "سبأ" حيث خراب سد "مأرب" في غابر الأيام وبداية الهجرة والريح، وتقود انطلاقة المقطع من الهجرة اليمنية واغترابها بعد خراب السد على أجنحة "المياه التي كانت الموت والنار والاغتراب" تقود إلى الضوء الذي غار في المقطع الأول معيدةً توازن التقابل في الثنائية السابقة إذ يقول الشاعر:

"وأضحت بكل الزوايا رؤىً
بلون العقيقِ
كسا ضوؤها السبئيُّ الجهاتِ
وكلُّ الشرايين فيها يمنْ "

ب - العلاقة الإشارية الإيحائية بين الرموز التاريخية ودلالاتها وهي علاقة مؤسسة على المعرفة المشتركة للمبدع وقارئ نصّه بتلك الدلالات ؛ الأمر الذي حرر نص إبراهيم أبو طالب من السرد النثري الذي يعيق رشاقة العبارة الشعرية عادةً في مثل هذا المقام، "فقصة سد مأرب: ورموز: القَيْل، والحميري، والمثنى بن حارثة الشيباني "من العناصر التي وظَّفها الشاعرُ في بناء صوره توظيفاً فنياً لم يكبله أيّ شعور بالذنب، قد يولده انتظار قارئ يجهل خفايا تلك الرموز، وعلى الرغم من عجزنا عن الجزم بعدم وجود قرّاء من هذا النوع فإنّ نسيانهم خدم الشاعر خدمة جليلة.

نص إبراهيم أبو طالب يحتاج إلى وقفة متأنية هادئة، وما هذه الكلمات إلا تعبيراً عن الفرح به شاعراً يُمْسِك أعنّة القصيدة إلى ساحات الضياء والمستقبل.

راتب سكر

[1إبراهيم أبو طالب: ديوان ملهمتي والحروف الأولى "، صنعاء الهيئة العامة للكتاب، ط1، 1999م.

[2د. عز الدين اسماعيل: الشعر المعاصر في اليمن، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، القاهرة، 1972م، ص 5.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى