الأحد ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠

الجواهري في يوميات سورية راهنة

توقفنا في كتابة سابقة بعض محطات في دمشقيات الجواهري التي امتدت مساراتها لنحو ثمانية عقود، على ما يحدثنا به الديوان العامر على الأقل... ونعود اليوم مرة ثانية، وليست أخيرة بالتأكيد، لندور حول "سوريات" جواهرية راهنة تحفل بعبر ومؤشرات لها أكثر من مغزى...

... ها نحن في مطار العاصمة السورية فجر الخامس من تشرين الثاني الجاري، في سفرة اطلاع وعمل قصيرة، ونفاجيء هناك بترحيب خاص يشيعه ضابط الجوازات بعد ان اطلع على تأشيرة الدخول والمعلومات الواردة في قسيمتها، وليقول: ذا وطنكم الثاني، ان لم يكن الأول... فالجواهري رمزنا المشترك، سورياً وعراقياً، بل وعربياً حتى...
... وإذ نقضي سويعات سريعة في مقهى "الهافانا" وسط دمشق، يداهمنا شيخ أنيق، مدمن على المكان كما قال، ليكتشف عراقيتنا دون كثير عناء، وليتحدث عن ذلكم الصالون الثقافي الشهير ورواده من شعراء العراق الأبرز، ممن كانوا يعمرون جلساتهم، مع الناركيلة الشامية الشهيرة وفي مقدمتهم الجواهري ، في الأربعينات والخمسينات،وخلالها وبعدها: احمد الصافي النجفي وعبد الوهاب البياتي والفريد سمعان وصادق الصائغ وسعدي يوسف وعبد الكريم كاصد وعواد ناصر ومظفر النواب ورياض النعماني وأقرانهم ،أدباء وفنانين وغيرهم... وذلكم هو الجواهري يوثّق ما نحن بصدده، مخاطباً دمشق:

شممتُ تربك لا زلفى، ولا ملقا ...وسرت قصدك لاخبّاً، ولامذِقا وما وجدتُ إلى لقياك منعطفا إلا إليك، ولا ألفيت مفترقا وكان قلبي إلى رؤياك باصرتي حتى اتهمت عليك العين والحدقا شممتُ تربك أستاف الصبا مرحا، والشمل مؤتلفاً، والعقد مؤتلقا وسرت قصدك لا كالمشتهي بلداً، لكن كمن يتشهّى وجه من عشقا... ويأخذنا ضحى نهار تال ٍ، يعبق بعطر الشام وعبير حسان منطقة الصالحية الدمشقية الشهيرة، لنصل إلى ساحة السبع بحرات، وسط العاصمة أيضاً، لندور حوالي شقة الجواهري هناك، قبل أزيد من نصف قرن بقليل، وفي عامي 1956 و 1957 تحديداً، ولتعود بنا الأيام إلى عهد الصبا، "لو طللٌ سمع الشكوى، ولو ميت وعى"... مستذكرين، اقامتنا في تلكم الشقة، مع الشاعر العظيم ، لفترة وجيزة ماانفكت اطيافها ترسخ في القلب قبل العقل، وكأنها بنت اليوم... ولنردد معه دمشقُ عشتك ريعاناً وخافقة، ولمّة، والعيون السود والأرقا وها أنا ويدي جلدٌ وسالفتي ثلجٌ، ووجهي عظمٌ كاد أوعُرقا
وأنت لم تبرحي في النفس عالقة، دمي ولحمي والأنفاس والرمقا تموجين ظلال الذكريات هوى وتسعفين الأسى والهمّ والقلقا... وفي ليلة لاحقة، ندعى بصحبة أحباء وأصدقاء ، ومن بينهم صاحب الفضائية العربية التشيكية، محمد عباس، إلى درعا، المدينة السورية الحدودية مع العراق، وباستضافة بعض الوجهاء هناك، وإذ بالفنان المبدع سعدون جابر قادم بكل شوق ليشاركنا الأمسية: ذكريات بغدادية تمتد لأكثر من ثلاثين عاماً، وألحاناً شجية، وعواطف عامرة بالحنين ... ثم يحضر الحديث عن الجواهري، كالعادة، شاعراً ورمزاً، وليتوقف عند بعض قصور، أو تقصير فناني البلاد العراقية في استلهامهم لقصيد ابن الفراتين، الوطني أو الوجداني أو العربي، وان كانت بعض الاستثناءات هنا لحميد البصري، وفؤاد سالم، وجعفر حسن، وفريدة، وسالم حسين، وأخيرا – على درايتنا – الفنانة: بلقيس فالح.

ثم، وكما هي العادة في زياراتنا التقليدية لدمشق، يحلّ الوقت الأصعب، وهو زيارة ضريح الجواهري، وشقيقته نبيهة، وزوجته امنة، في تربة الشام، جوار مقام السيدة زينب، لتحتشد العواطف والذكريات عن عقود ستة، مابرحت تغني النفس، وتجدد العطاء... ثم نختتم زيارة الحفرة – البرج المرموق جانبها، والتي صارت رمزاً، وذلك بقراءة ما اختتُمت به شاهدة التعريف بالمقيم الخالد:

هنا يرقد الجواهري، بعيداً عن دجلة الخير...ثم ،ليعلو هدير دون تخطيط مسبق:
حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني، يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البساتينِ حَيّيتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به، لوذَ الحمائم بين الماءِ والطين يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ، على الكراهةِ بين الحينِ والحين إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافية، نَبْعاً فما كانت لتَرْويني…يا دجلةَ الخيرِ: قد هانت مطامحُنا، حتى لأدنى طِماحٍ غيرُ مضمون أتَضْمنينَ مَقيلاً لي سَواسِيةً، بين الحشائشِ أو بين الرياحين؟ خِلْواً من الهمِّ إلاّ همَّ خافقةٍ، بينَ الجوانحِ أعنيها وتَعنيني
تهزّني فأجاريها، فتدفعني، كالريح تعجل في دفع الطواحين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى