الخميس ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد نجيب عبد الله

الـنـسـبـــة الــــذهـبـيـــة

تبدأ الأيام عادة وقت الصباح ... إلا أن بعض الأيام تبدو مختلفة بعض الشيء عن الأخرى ... فأيامي أصبحت كالصفحة الواحدة التي يبدو أنها لا تريد الطي ... لا أذكر لها بداية محددة ولا أرى على الأفق كنه نهاية ... أدرك بعد فترة زمنية ما أني قد فقدت شيئاً أو اكتسبته ... أحس بعض الأشياء وكففت عن الإحساس بكثير منها ... تغيّر راتبي ... ازداد أفراد عائلتي فرداً أو نقصوا ... هذا ما يجعلني أدرك أن الأيام لا بد تغيّرت وأن الحياة ليست بالركود الذي أؤمن به يقينياً ...

رن جرس هاتفي المحمول بالرنة المميزة لرئيسي في العمل ... ما بين استسخاف لموعد المكالمة الباكر, وقلق من عدم الرد, أتردد وتتردد أناملي ... تتصاعد الرنة فأخشى أن أوقظ أهل بيتي ... أضغط زراً يسمح للرنة أن تتحول إلى الوضع الصامت مع استمرارها, كأني أشتري بعض الوقت لأرى إن كنت سأرد أم لا ... وقبل ما أظن أنه الرنة الأخيرة قبل انغلاق الخط رددت بصوت مكتوم مخنوق كأني استيقظت تواً من نوم عميق ... وبعد الكثير من (حضرتك) و(سعادتك) و(تحت أمر سيادتك) انتهت مكالمة المدير ... متذكراً الآن فقط أنني في أجازة مرضية ... ومدركاً أن أغلب الحوار بيننا كان اطمئناناً على حالتي الصحية ... وأنه ربما أني لم أستغل الفرصة جيداً لأمثّل دور المريض المستحق للشفقة والمستدر لكامل عطف الطرف الآخر ...

ما خشيته قد حدث ... وعلى أطراف يبدو أنها مصنوعة من عازل صوت استيقظت ابنتي الصغيرة (لبنى) وجاءتني طالبة مني أن أحملها ... نظرت إلى الكائن الملائكي الطاهر المستكين بين ذراعي ... احتضنتني في رقة طالبة مني بعض الحلوى التي تمنعها أمها منها ... فأدرك أن الأمر كله ينطوي على خداع منمّق ومخطط له بعناية ... ربما خططت له الشيطانة الصغيرة في أحلامها وكنت أنا أداة التنفيذ ... متلفّتاً حولي لأتأكد أن الأم لا زالت نائمة, استسلم لسلاح الرقة الزائفة, وأمنح الصغيرة ما طلبت ...

انسّل من بين يدي الطفلة - التي صارت مشغولة عني بما هو أهم بالنسبة لها, متأملاً زوجتي المسكينة التي تبدو عليها علامات الغيبوبة - فأغادر – في عرج - غرفة نومي ... أتساءل عن جدوى هذه الأجازة وهل أنا محتاج لها فعلاً ؟! الآلام لا زالت لم تغادر جسدي, الذي أحسه الآن صار عجوزاً رخواً ... تتنازعني الأفكار عن كنه ذلك الجسد الذي يبلى يوماً بعد يوم, ويبدو أن أعضاءه ستبدأ في التساقط قريباً ... هذا ذراع يسقط مني سهواً فاستيقظ من نومي ولا أجده ... هذه ساق ما عادت تستجيب لأوامري بالحركة ... أتذكر أيامي بالمستشفى واكتشافي المذهل أن جانباً من جسدي قد ثقلت حركته وصرت كنصفي انسان تم لصقهما خطأً وهما لا يتطابقان ... الأمر بسيط وهيّن بحسب توصيف الأطباء ... والحديث المشرق الباسم عن العلاج الطبيعي الذي يصنع المعجزات ... اسطوانات أحفظها عن ظهر قلب, ولو أن الأمر أصاب أحداً غيري, لكنت قد انبريت قبل الآخرين في ترديدها وتلاوتها بكل إجلال ومصداقية ...

مستخدماً حوائط منزلي كأكتاف أستند عليها أثناء جولتي التفقدية ... هنا ابني الأكبر (علي) – الطالب بجامعة خاصة – لا زال نائماً يتشابك ساقاه مع رأسه وذراعاه فيبدو كأخطبوط ضخم يفتقد بعضاً من أطرافه ... أتساءل عن قدرتي الآن على الاعتناء به كما يجب, ليس مادياً, بل معنوياً وأدبياً ... هل سأظل أحتفظ بصورتي كأب وأستحق احترامي الذي لطالما تعبت في اكتسابه يوماً بعد يوم ولكن يبدو أن الوقت قد حان أخيراً لاختبار ما اجتهدت فيه ... يتململ الشاب الفتيّ وتصدر عنه أصوات منفّرة فأبدأ رحلتي في المغادرة ...

بعد مجهود – ما عاد بسيطاً – صنعت لنفسي كوباً من الشاي بالنعناع الأخضر الطازج وبدأت أرشفه في تلذذ ... مكتشفاً الآن أني قد توقفت عن التدخين إبّان وعكتي الصحية الأخيرة ... واستبدلت سجائري بعلبة زرقاء متعددة الغرف مكتوب عليها أيام الأسبوع ومواعيد الوجبات لتذكرني بالأدوية التي عليّ تناولها ومواعيد تناولها ...

ذراعان دافئتان تحطّان على كتفي وقبلة حانية على رأسي ...
الزوجة و الحبيبة والرفيقة ... تسألني إن كنت أود الإفطار الآن فأومئ برأسي إيجاباً ... تغادرني مغمغمة بكلمات يراد بها الدعاء لي بالصحة والعافية ... فأفكر أنا في المستقبل ومدى قدرتي على استعادة ما كنته ذات يوم ...

تأتي زوجتي بالإفطار ومعه ديوان شعر قديم اعتدت أن أقرأ لها منه قديماً ... فهمت منها ما تطلبه وعلى مضض رضخت, دون إلحاح جديد منها ... بل هو مضض داخلي إن جاز التعبير ... أغمض عيني لوهلة فتغافلني دمعة في السقوط من عيني ... نفس اليد الدافئة تمسحها مذكرة إياي بأن أبدأ في القراءة ... منتشية ومستمتعة بأسلوبي في إلقاء الشعر بدأ جسدها يتمايل وعيناها مغمضتين كأنها في عالم آخر ... يغتال وقتنا الحميم المميّز صوت ابني الذي استيقظ طالباً بعض النقود لدروس وكتب وملابس وخروج مع أصدقائه و ... و ... و ...

مواجهاً لأربعة عيون ممتعضة يبدأ (علي) في إبداء بعض التلميحات الخبيثة وغير المؤدبة إلى حد ما عن كنه ما كنا نفعله في وضح النهار ودون مراعاة لوجود الأولاد بالمنزل ... تنهره زوجتي في لين والسعادة تنير محيّاها ... فأبدأ أشعر أن الأمر ليس سيئاً للغاية حتى الآن ... تقفز (لبنى) من مكان خفيّ لتصير في الوسط تماماً فيكاد الإفطار الذي أعدته زوجتي يسقط أرضاً ويبدأ صياحها وزعيقها المصحوب بالوعيد والثبور ... أفقد النغمة التي كنت قد بدأت في الاستماع والاستمتاع بها ... إلا أن العاصفة تهدأ كلياً بقبلات طفولية لذيذة توزعها (لبنى) بيننا بالتساوي ...

يذهب (علي) لكليته بعد أن نال ما طلب ... واستعدت زوجتي لتوصيل (لبنى) إلى حضانتها ... فأصير وحيداً تصرعني أنواء نفسي فأمزّقني شر ممزّق ... هل يتطوع أحدكم ويخبرني عن الغد, وما الذي يحمله من أخبار؟!! أهو صعب هكذا أن يدرك المرء مآله وما سيصير إليه ... أتذكر أني كنت أمارس كرة القدم مع بعض الأصدقاء حتى سن كبيرة وتوقفت بعد أن أصبت بكسر في ساقي ... وأصدقاء المقهى حيث اعتدت أن أجلس معهم ولكن على ما يبدو قد أصابني الملل ... والندوات الأدبية وصالونات الشعر التي كنت أداوم عليها ولكنها صارت مسرحاً لصراعات شخصية وتصفية حسابات بين أفراد ومؤسسات فافتقد الأمر لذتّه لمتابع قديم مثلي ... أحاول أن أوقف غسيل المخ الإجباري الذي أمارسه مع نفسي فأمسك جريدة الصباح ... وبدلاً من أن أقرأ الأخبار أو حتى صفحات الرياضة كما اعتدت ... وجدت أني قد انهمكت في حل مسابقة للكلمات المتقاطعة ولعبة السودوكو الرقمية ... أحسست بنشوة عجيبة بعد أن فرغت من الاثنين ... فسمعت صوت زوجتي تخبرني أنها قد جاءت وتتساءل عن أحوالي بالرغم من أنه لم يمر سوى بعض من ساعة منذ أن غادرت ...

يتصل المدير ثانية يطلبني في استشارة في العمل ...
يأتيني السائق ليصحبني لجلسة العلاج الطبيعي المقدسة ...

نفس الوجوه التي صارت جزءاً لا أرغب فيه من ذاكرتي ... نفس الأطباء ونفس المرضى المترددين ... أحاول أن أستشف بنظرتي الفاحصة الثاقبة دواخلهم وأفكارهم ... هذه الطبيبة ترغب في الزواج بشدة فلا تكف عن لبس كل ما يلفت النظر من إكسسورات وألوان ... وهذه لديها مشاكل في المنزل فوجهها أمواج ترغي وتزبد ... هذا المريض حالته تحسنت فوجهه متلألئ وضّاح ... وذا قد فقد الأمل على ما يبدو إذ أن حركته متثاقلة بطيئة ... سألت عن عم (صدقي) العامل ... فأخبروني أنه قد ترك العمل لظروف أسرية خاصة ...

أغادر المركز محاولاً أن أبدو قوياً كما اعتدت أن أكون موزعاً السلامات والتحيّات ذات اليمين وذات اليسار ... واستوقفتني إحدى الممرضات لتطلب رأيي في أمر يهمها فغادرتني راضية ... يفتح لي السائق الباب فأركب موزعاً سلاماتي الأخيرة ...

في المساء أختبر قدرتي على الامساك بقلم والكتابة به مرّة أخرى ... يسقط القلم مرة واثنين ... أحس بعض الصداع يكتنفني وغصة تعتصر حلقي ... إلا أني في النهاية أنجح في كتابة ما يبدو لي أبشع خط رأيته في حياتي ... يدركني التعب فأتوقف عن محاولاتي ... أحاول النوم إلا أن حتى هذا الكائن القدريّ الذي يستمتع به أغلب البشر يبدو عليه أنه يعصاني ويأبى أن يزورني ... أمسك بشريط أقراص مهدئة كان الطبيب قد وصفه لي إذا ما واجهت حالة من حالات الأرق تلك ... فضضت القرص ... ووضعته في فمي ... تناولت كوب الماء, وقبل أن أبتلع القرص, بصقته ...

أعود إلى الورقة والقلم ...
أقرأ البسملة التي كتبتها بخطي البشع مسبقاً ... أكتب اسمي ...
اكتب كلمات لا رابط بينها ...

تؤلمني ذراعي ... فألقي بالقلم في ركن الغرفة ... أسب وألعن وأسخط وأحس بالقهر والذل والهزيمة ... لو أني جاهل لا أكتب أو أقرأ لما آلمني الأمر ... لو أن ما أفعله الآن لم أكن أفعله قبلاً لما صار ذا شأن ...

على جهاز الكومبيوتر أبدأ أتصفح بريدي الأليكتروني ... ليذهلني مقطع فيديو خارق عن أم ولدت بلا ذراعين, ترعى طفلها الوليد ... تغيّر له ملابسه, ترضعه, تهدهده, وتلاعبه بقدميها ... أعدت مشاهدة المقطع عدداً لا يحصى من المرات وفي كل مرّة أشعر بالذهول يغمرني وبالضآلة والضعف أمام قدراتي المحدودة ...

بالصمت ذاته الذي تفاجئني به (لبنى) دوماً جاءتني طالبة الجلوس على حجري ومتسائلة عن سر بكائي ... فاحتضنتها في قوة أغضبتها ... لم أستطع أن أمنع نفسي من عقد تلك المقارنة بيني وبين السيدة بمقطع الفيديو ... تتبدل دموعي بعضاً من رضا ... ووجهي الساخط يتسلل إليه بعض من ابتسام ... حياتي لن تصبح حياة أحد غيري ... وسأحياها شئت أم أبيت ... هذا جسدي وهذه قدراتي ... لا توجد عمليات لزرع أيٍّ ... هذه ابنتي وبالداخل زوجتي وابني ... هذه شقتي ... وعملي هو عملي لا يستقيم بدوني حتى وأنا في أجازة إذ لا يكف المدير عن استشارتي في كل الأمور متعجّلاً عودتي التي صارت الآن قريبة ... لا يوجد من يلقي الشعر على زوجته أفضل مني ... ويستمع لغريب لا يعرفه فيسديه النصح الصحيح مثلي ... سأظل ذلك الكائن الذي يشيع البهجة حوله مهما حاولت أن أبدو سخيفاً متجهماً ... أحيا أنا متلمسّاً بعضاً من هذا وبعضاً من ذاك ... إذ أني أبداً لن أحصل على كلٍّ من أيِّهما ... آذان الفجر يفاجئني فتهتف بي (لبنى) التي صارت تغالب النوم في حجري (صلّي ... بابا صلّي) ... قبّلتها وقلت (حاضر) ... وفي لطف حملتها معي لأتوضأ ...
أظن أن بعد الفجر يأتي النهار ...

والنهار يأتي بيوم جديد ... حتى وإن لم أشعر به ...
كل شيء نسبي ... ومن كل شيء نسبة ... مجموع هذه الأشياء هي حياتنا ...
التي يبدو أني سأحياها باحثاً عن النسب الذهبية من كل شيء ...
حتى إشعار آخر .................


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى