الأحد ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم محيي الدين غريب

حكاية ملك الملوك

كان هناك فى قديم الزمان ملك ، اتفق أهل القوم فيما بينهم أن يسمونه ملك الملوك ، بعد أن حاولوا مرارا أن يعرفوا اسمه الحقيقى ولكنهم لم يتمكنوا.

كان هذا الملك يعيش فى أعلى الجبل الذى يطل على الوادى الفسيح المترامى الأطراف ، وكان سفح الجبل وعر المسالك بعيد المنال حاول الكثير من جبابرة وعظام القوم على مر العصور أن يتسلقوا أعلاه ولكن باءت جميع المحاولات بالفشل.

واعتقد الجميع منذ القدم أن ملك الملوك لابد وأنه أنزل من السماء فهو هناك فى أعلى الجبل أقرب للسماء منه للأرض ، بل يكاد يلمس السحاب والنجوم ومن حولها ، وإلا فكيف له أن يتسلق هذه الصعاب. وانتقل هذا الاعتقاد من جيل إلى جيل ومن زمن إلى زمن.

كان أهل هذا القوم يحبون ملكهم ، يخرج عليهم كل صباح ملوحا بيديه مع ضوء النهار ومطلع الشمس ، ورياح تحمل معها ندى الأزهار ، وغناء الطير تمر هامسة لتوقظ أهل الوادى الفسيح ، فإذا الوجوه تستحيل إلى وجوه راضية باسمة آمنة مطمئنة لتبدأ يومها بأشراقة سعيدة.

وكان هو يحب أهل الوادى ويغمرهم بسحره الآلهى ويغدق عليهم بالحب والخيرات واهبا إليهم من أعلى الجبل الأمطار والبذور والثمرات والبركات، فإذا الوادى كله جنات ألفافا ومراعى خضراء تجرى من بينها الأنهار.

وفى المساء يأتى من أعلى الجبل ضوء رائع يغشى الوادى وما حوله برداء رقيق ، ضوء لايستقر وإنما بمضى بعضه أثر بعض ، والنجوم تدنو برفق من الأرض وكأنها مصابيح تؤنس أهل الوادى فى الليل وتأخذهم لينعموا بنوم هادئ مطمئن.
كان ملك الملوك يلبى كل أحتياجات وأمنيات أهل هذا الوادى الفسيح ، وكأنه رب مسئول يعرف كل شاردة وواردة فيه ويسبغ عليهم النعم ويجزل لهم العطاء.

هكذا كان يعيش أهل الوادى سعداء راضون يلتمسون وجه ملكهم فى كل مكان وأينما ذهبوا ، راضون أن تقودهم قوة ملكهم التى لايفهمونها ، يجلونها ولكن لا يحيطون بها ، خاضعون لها وفى ظلها ولكن دون تعهدات ولا تأليه ، يطيعونها ولكن بدون أوامر ودون عواقب.
وهم يتقاسمون الأرض والماء والأرزاق ويهنؤون بحياتهم البسيطة.

حتى جاء يوم صباح تأخر ظهور ملك الملوك فى أعلى الجبل على غير ما تعود عليه أهل الوادى ، وتكرر ذلك يوم بعد يوم وتكاثرت الغيوم من حوله وباتت صورته وهو يلوح لهم بيديه باهتة مهزوزة غير واضحة حتى أرتد بصرهم متعبا مكدودا. كانوا يأملون فى اليوم التالى أن تنقشع هذه الغيوم وينفرج الكرب وتنفك غمتهم ولكن مرت الأيام دون فرجة.

وساءت الرؤية حتى جاءت سحابة سوداء كبير فحجبت ملك الملوك وكل من حولة فى أعلى الجبل وأعقب ذلك ريح عاتية عاصفة أقتلعت الأشجار والنبات أقتلاعا واجتثتها اجتثاثا.

حزن أهل الوادى على ماأصابهم وخرجوا إلى فضاء الوادى وكأنهم يلتمسون فسحة من ضيق والوجوه كاسفة حائرة. خرجوا أفواجا يتطلعون إلى أعلى الجبل ووجوههم يعلوها الأمل ، ولكن تمر الأيام ويرتد بصرهم متعبا مكدودا فى كل مرة.

أصبح أهل الوادى محزنون أشد الحزن وملتاعون أشد اللوعة لفقد ملكهم الذى كانوا يروه زينة حياتهم وذخرا لهم. وبدا الوادى وكأنما الحياة أستلت منه بل وأنتزعت منه أنتزاعا.

كانوا يتسائلون والابتسام قد فارق ثغورهم ، أين ذهب ملك الملوك وأى طريق سلك وفى أى مكان من الارض أو من السماء أقام ، وكيف هان عليه أن يدع أهل الوادى ليتركهم غير آمنين وغيرمطمئنين مثل ما قبل والنوم قد فارق جفونهم.

هنا سنحت لجبابرة وعظام القوم فرصة لتحقيق طموحهم ولبسط سلطانهم ، فهموا يبعثون الهيبة تارة والخوف والبطش تارة أخرى على من لايذعن من أهل الوادى لنفوذهم مؤثرين الطغيان حتى يعظم أمرهم .

بعضهم جاء بكلام معسول ، قالوا أنهم قابلوا ملك الملوك بعد عناء الصعود لأعلى الجبل ، فإذا به شيخ وضئ الوجه، عذب الحديث مشرق الجبين، وانه سيسافر بين أرجاء الأرض العريضة وأختارنا لنكون وسطاء لبسط سلطانه حتى يعود من سفره.

وآخر أدعى أنه رأى ملك الملوك لبرهة وجيزة ، وأخذ يصف جماله وكماله ومملكته والنور الذى كان يسطع من حوله ، وقام بصنع تماثيل تشبه ملك الملوك لكى يتبارك ويستبشر بها أهل الوادى كلما قابلتهم محنة أو مصاعب فى الحياة.

وآخر أدعى انه صعد حتى جاور أسوار وأرباض قصر ملك الملوك فى أعلى الجبل وسمع أصوات خافتة لاتسمعها الآذان وإنما تسمعها النفس والعقل ، أصواتا ملأت نفسه عجبا ودهشا ، أعلمته أن ملك الملوك أختاره لكى يكون خليفة له بعد أن سئم حياته ، وعلى أهل الوادى أن يتبعوه ويطيعوه.

وآخر أدعى أنه حاول الصعود إلى ملك الملوك ولكن النور الساطع من أعلى الجبل كان شديد حتى كاد أن يفقده بصره ، وعندها خر ساجدا فأشفق عليه ملك الملوك وأعطاه التعاليم الإلاهية وأوصاه بأهل الوادى خيرا على أن يؤمنوا به ويطيعونه.

جاء كل هؤلاء ليصوغوا لأنفسهم هذه السيادة والوصاية والسيطرة على أهل الوادى ، واصطنعوا لأنفسهم ألقابا فخيمة وأزياء مهيبة لتضفى عليهم القداسة.

تنازع كل هؤلاء بعد أن أشتدت قوتهم ودان لهم الوادى بما عليه ومن فيه ، وأنقسموا فيما بينهم فرقا وأحزابا لكى يكسبوا رضاء أهل الوادى، ومن ثم السيطرة عليهم واستغلالهم والتحكم فى أرزاقهم والتسيد عليهم.

وأنقسم أيضا أهل الوادى لينحاز البعض لهذا المدعى الجبار أو إلى ذاك الآخر ، وتنازعوا ودارت الحروب والصراعات بينهم بعد أن أتت الفتنة على عقولهم فسلبتهم الفهم والتفكير ، فملئت حياة الوادى جورا وذلا وظلما بعد أن كان يملأها العدل والعزة.

تعجب أهل الوادى على هؤلاء وحزنوا على أنفسهم وما وصلوا إليه من ضلال، وكانوا بين الحين والآخر يتذكرون هذا الرجل الفقير الذى كان يطلقون عليه المخبول.
يتذكرونه عندما كان يخرج معهم فى الماضى كما تعودوا كل صباح للأطلال على ملك الملوك.

كان هذا المخبول يرقى ببصره إلى أعلى الجبل ويردد بأعلى صوته أين ملك الملوك هذا ، أنا لا أرى شيئ غير بعض الغيوم ، أنا لاأراه يلوح بيديه كما تدعون ، إنها تهيؤاتكم يا أهل الوادى أفيقوا، إنها تهيؤاتكم ، ثم يتمتم ببعض الكللمات ويذهب بعيدا.

كانوا يسخرون منه أحيانا ويتندرون منه أحيانا ويعطفون عليه أحيانا أخرى ليهونوا عليه خبله. ولكنهم لم يستطيعوا فى أى زمن من الأزمان أن يمحوا من ذاكرة ضميرهم نظراته الحادة والتى كان لها مسا لاذعا عندما كان يلتف حوله الأطفال ويضربونه بالحجارة.

كان أهل الوادى يتذكرون ذلك وهم فى حيرة لما هم فيه الآن ولما كانوا فيه من قبل، فى حيرة بين أن يرتضوا اوضاع الحياة كما هى على علاتها لأشاعة التفاؤل الزائف بين الناس، أم يوحوا لأنفسهم أن كل شر مسخر لتحقيق خير أكبر لايدركه البشر لبعده وسموه عن الادراك العادى، أم ربما كان عليهم أن يصدقوا ما قاله المخبول منذ زمن بعيد.

هل هذا المخبول لايزال حيا ، وهل كما يشيع البعض أنه يختبئ هناك على سفح الجبل، وأن له من العمر مايقرب من مائتين عام!!.

(وربما للقصة بقية لو صدق المخبول)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى